من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة متزوجة في السابعة والعشرين من عمري لي أختان ونشأنا في ظل أبي وأمي في بيت سعيد يشع بالمرح والتفاؤل والحيوية, فكان والدنا أخا لنا وأبا لا مثيل له في حنانه وطيبة قلبه,
وكان لنا يوم أسبوعي نخرج فيه معا كلنا للنزهة, ويحب كل أفراد عائلتنا زيارتنا في بيتنا ولم نشعر ذات يوم بأية مشكلة بين أبي وأمي, وعلى حين كانت أمنا توجه كل جهدها لوظيفتها التربوية ولأعمال البيت, فقد كان والدي يعطينا من وقته الكثير ويسمع لنا ويساعدنا في حل مشاكلنا بعد عودته من عمله, ثم مضت الأيام في طريقها وتزوجت أنا وسعدت بحياتي وتزوجت شقيقتي التي تليني ووفقت في زواجها والحمد لله, وخرج أبي إلى المعاش وكذلك والدتي فتقبلت أمي حياتها الجديدة بلا تذمر,
أما أبي فإنه لم يستطع تقبل الفراغ بسهولة وبحث عن عمل والتحق بشركة قطاع خاص لبعض الوقت غير أنه لم يعمل بها طويلا, ولم يستطع التأقلم مع ظروف العمل بالقطاع الخاص ولا مع طريقة المعاملة فيه فتركه ورجع للبيت,
وأصبح أبي, الذي كان شعلة للنشاط والحيوية قبل فترة قصيرة حبيس مقعده المفضل بغرفة المعيشة طوال الوقت يصحو من نومه مبكرا كعادته فيرتدي ملابسه الكاملة, كما كان يفعل أيام العمل ويخرج إلى السوق ليشتري بعض متطلبات البيت ويرجع بعد نصف ساعة أو ساعة على الأكثر فيجلس في مقعده المفضل بلا حراك ولا حديث ولا ممارسة أي هواية ولا تجاوب مع أي شيء,
يمسك بالصحيفة فلا يقرأ فيها شيئا باهتمام وإنما يتصفحها سريعا ثم يلقي بها جانبا ويجلس أمام التليفزيون فلا يتابع شيئا فيه ولا يتجاوب مع شيء كأنما لا يراه, ولا يزورني في بيتي ولا يزور أختي المتزوجة في بيتها ولا يجامل أحدا في مناسبة ولا يزور مريضا ولا يتكلم مع أحد في شيء مفيد, ويظل مرتديا ملابسه الكاملة بالجاكيت والكرافتة والحذاء والجورب حتى الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر, ثم يستريح قليلا وينهض فيخرج لمدة ساعة أخرى في المساء ويرجع فيظل بملابسه الكاملة إلى أن ينام.
وهكذا تمضي أيامه في صمت شبه تام وكآبة وعزوف عن كل شيء, لقد حاولنا مع أمنا كثيرا أن تشجعه على الحياة بدون عمل فتزيد من مساحة الكلام معه وتشركه في بعض اهتماماتها المنزلية وتأخذ رأيه في بعض المسائل ولو اضطرت لافتعال ذلك افتعالا, ولكن دونجدوى, لقد خيم الصمت علي بيتنا, الذي كان يفح بالمرح والحيوية من قبل,
وأنا وشقيقتي المتزوجة حزينتان على حال أبي بالرغم من أننا لا نعاني المشاكل مع زوجينا والحمد لله. واتمنى أن توجه كلمة إلي أبي تساعده بها علي تقبل حياته الجديدة خاصة وأنها ليست مشكلته وحده وإنما مشكلة كثيرين من الرجال الذين يزجون إلي المعاش فتخلو حياتهم من العمل والهوايات ويستسلمون للكآبة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :
الفارق الجوهري بين نظرة البعض منا في عالمنا الشرقي إلى مرحلة انتهاء الخدمة الحكومية أو العمل الوظيفي وبين نظرة الرجل إليها في الغرب بصفة عام,. هو أن الرجل هناك ينظر إلى مرحلة التقاعد باعتبارها المكافأة التي ترقبها طويلا لكي ينعم معها بالراحة وجمال الأوقات وممارسة الهوايات وزيارة الأماكن التي لم يتح له سباق العمل زيارتها, والاهتمام بالعلاقات العائلية والإنسانية التي حال الانشغال بالحياة العملية من قبل دون توجيه الاهتمام الكافي بها, وتذوق الأشياء على مهل واستجلاء معانيها بعمق لم يكن متاحا له من قبل خلال سباق الحياة اللعين,
في حين ننظر نحن أو بعضنا على الأقل إلى هذه المرحلة من العمر باعتبارها عقابا قدريا أنزلته بنا اللوائح الإدارية التي لم تسمح لنا بالاستمرار في مواقفنا إلى النهاية, وإيذانا بانتهاء الدور وفقد الاعتبار وانفضاض طلاب المصالح وأصحاب الرجاوات من حولنا بعد فقدنا قدرتنا السابقة علي النفع والضرر.
وهذا هو أسوأ ما يفعله المرء بنفسه أن يعتبر مرحلة الراحة بعد عناء العمل الطويل عقابا قدريا له, وليس مكافأة له على سابق عطائه للحياة والعمل والأسرة.. وألا يستمتع بهذه المرحلة الذهبية من العمر التي يسمونها في الغرب سن السكر فيدرب نفسه على التنفس الهاديء المنتظم بعد اللهاث الطويل وراء الأهداف وعلى تذوق الأشياء والمعاني والعلاقات الإنسانية بعمق اكبر والاستمتاع بها وبحياته الجديدة في ظلالها..
إن مرحلة المعاش ليست كما يتعامل معها البعض منا, مرحلة انتهاء الدور في الحياة العملية وانتظار الرحيل الأبدي,وإنما هي مرحلة الحياة على مستوى العمق الإنساني بعد الحياة على المستوى الأفقي خلال رحلة العمل السابقة..
وأكثر الناس تواؤما معها وسعادة بها هم من يراجعون رحلتهم السابقة مع الحياة العملية ويرضون عنها وعن عطائهم خلالها ويرون أنفسهم جديرين بالراحة الإيجابية وتعويض ما فاتهم الاستمتاع به من الصداقة الإنسانية والعلاقات الأسرية وممارسة الهوايات المفيدة, فضلا عن العبادة باستغراق اكبر وتأمل أعمق, والرغبة في إفادة الحياة بوجودهم فيها, ابتداء من تقديم المساعدة بالجهد والرأي لمن يحتاج للمساعدة من الأهل والأقارب والأصدقاء,إلى الكلمة الطيبة التي تصدر عن الناس فيسعد بها الآخرون.
إن كثيرين من العقلاء يعتبرون هذه المرحلة من العمر هي أثمنمراحل العمر التي يتحقق لهم فيها الفهم الصحيح للحياة والاستمتاع الحقيقي بثمراتها لكن والدك فيما يبدو يا سيدتي مازال يعتبر خلو حياته من العمل عقابا قدريا له لا يتقبله برضا.
ولو أحسن إلى نفسه لراجع قائمة صداقاته القديمة وعلاقاته العائلية التي تقطعت بسبب مشاغل الحياة والعمل وبعث فيها الدفء من جديد, ولأقنع نفسه بأن كل شيء في الحياة جدير بالاهتمام به والتجاوب معه, والانفعال به, ولبدأ بتوجيه قدر اكبر من الوقت والجهد للعبادة ومحاولة درس القرآن واستجلاء معانيه السامية أو بممارسة القراءة المتعمقة في الدين والحياة والأدب والعلوم الإنسانية, لكي يكتشف عالما سحريا جديدا سوف يعجب لنفسه كيف غاب عنه من قبل, ولعرف أن الإنسان يحتاج لكي يعرف بعض ما ينبغي له أن يعرفه في الحياة لأكثر من عمر واحد من بدايته حتى نهايته..
لقد قال الشيخ الجليل محمد الغزالي يرحمه الله وهو في الخامسة والسبعين من عمره في بعض كتبه انه ما أحب أن تنتهي حياته قبل تلك السن بخمسة عشر عاما أو عشرين, وإلا لما كان قد أدرك ما أدركه خلال تلك المرحلة المتأخرة من عمره, ولما كانت معارفه قد أثريت كما أثريت خلالها ولما نفع الآخرين بعلمه, كما نفهم في هذه المرحلة من العمر, ومن قبل قال الفيلسوف الفرنسي رينوفيه وهو في الثمانين من عمره: سأترك الدنيا قبل أن أقول كلمتي النهائية فيها, لأن ما أريد قوله لن يتسع له العمر للأسف وهذا أشد أحزان الحياة إثارة للشجن!.
إن فقد الاهتمام بالأشياء والأشخاص والمعاني هو الموت الحقيقي من قبل مجيئه, وكل إنسان يستطيع أن يحتفظ بقدرته على الاهتمام بالحياة وان يقول كلمته في الدنيا, فإذا لم يكن فيلسوفا ولا عالما في الدين فإنه يستطيع على الأقل أن تكون كلمته في الدنيا هي السعي في سبيل الخير ومحاولة فهم الناس والصفح عنهم..
كما قال كاتب أمريكي وهو في السبعين من عمره.. والكلمة الطيبة صدقة كما يقول لنا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.. فكيف يستطيع إنسان أن يقول انه لم يعد له دور في الحياة بمجرد أنه قد بلغ سن التقاعد؟!