“حكمت المحكمة ببراءة المتهم ، لعدم كفاية الأدلة .. “
ابتسم (خيري) في سخرية واثقة، وهو يستمع إلى حكم المحكمة، الذي يسمعه للمرة الثالثة، خلال عامين فحسب.
كان قاتلًا محترفًا بحق، ارتكب أكثر من عشر جرائم قتل، دون أن يقع مرة واحدة في يد العدالة..
لأنه أكثر الناس حرصُا..
لم يرتكب جريمة قتل في حياته كلها، دون أن يتخذ كل الاحتياطات الواجبة، ودون أن يؤمن لنفسه أدلة النفي مسبقًا..
وهذا ما جعله أكبر القتلة المحترفين أجرًا، في العالم السفلي بـ (مصر) ..
وعلى الرغم من محاكمته ثلاث مرات، بتهمة القتل العمد، مع سبق الإصرار والترصد، إلا أنه لم يدن مرة واحدة، لعجز النيابة عن إحضار أدلة الاتهام الكافية..
ولقد أثار هذا حنق وكيل النيابة في شدة ..
وعندما أنهى (خيري) إجراءات الإفراج هذه المرة، اعترضه وكيل النيابة، وهو يقول في حنق:
ـ لا تتصور أنك ستنجو إلى الأبد يا (خيري) … لن تسمح لك عدالة السماء بهذا قط .
ابتسم في سخرية، وقال:
ـ كل شيء قانوني يا سيادة وكيل النيابة.
أجابه وكيل النيابة في سخط:
ـ ربما يعجز القانون عن الإيقاع بك، ولكن القانون الإلهي لن يعجز أبدًا.
أطلق (خيري) ضحكة ساخرة، وقال:
ـ دع القانون الإلهي لقضاته.
هز وكيل النيابة رأسه في مرارة، وهو يقول:
ـ وهل أملك سوى هذا؟
وغادر (خيري) سراي النيابة مزهوًا فخورًا..
واتجه بسيارته الفاخرة مباشرة إلى ملهى ليلي أنيق، اعتاد ارتياده ..
ولم يكد يدلف إلى الملهى، حتى اعترضه صاحب الملهى، وقال في صرامة:
ـ ابتعد ايها القاتل، لن نسمح لك بدخول ملهانا مرة أخرى.
أزاحه (خيري) عن طريقه في استهتار، وهو يقول:
ـ افسح الطريق يا رجل، لن يمكنك منعي من دخول ملهى عام، مادمت أملك ثمن تذكرة الدخول.
صاح صاحب الملهى في غضب:
ـ إنه ليس ملهى عامًا .. إنه ملك لي.
هوى (خيري) على فكه بلكمة قوية، وهو يقول:
ـ ابتعد إذن، قبل أن ينتقل للورثة.
سقط صاحب الملهى، وهو يصرخ:
ـ هل تهددني بالقتل أيها الحقير .. أيها المجرم !
تخطاه (خيري) في سخرية، واتخذ مكانه خلف منضدة أمامية، وراح يطلق ضحكات مرحة طيلة ساعتين، كأنما يتعمد إغاظة مدير الملهى، الذي توارى في حجرته محنقًا ساخطًا ..
وبعد مرور الساعتين، اقترب أحد خدم الملهى منه، ومال على أذنه، قائلًا:
ـ المدير يأمرك بالانصراف فورًا، وإلا ألقاك خارجًا .
التفت إليه (خيري) في غضب، وقال في صوت مرتفع، بلهجة تحدٍ، تعمد أن يسمعها الجميع:
ـ قل لمديرك هذا أن يغلق أسنانه على لسانه، وإلا اقتطعته من جثته.
خيل إليه أن عينيّ الخادم قد برقتا في ظفر، وهو يقول همسًا:
ـ الأفضل أن تبلغه بنفسك يا سيدي، فلن يمكنني نقل هذه الرسالة إليه.
نهض (خيري) بحركة حادة عنيفة، وهو يقول:
ـ نعم .. سأخبره بنفسي.
اتجه في خطوات عنيفة صارمة إلى غرفة المدير، وتبعته الأبصار كلها في قلق، وتبعه الخادم في خطوات واسعة، وفتح له باب حجرة المدير ..
وكانت الحجرة مظلمة، فقال (خيري) في صرامة:
ـ هل يختبئ مديرك في الظلام يا رجل؟
بدا له صوت الخادم حاملًا نبرة ساخرة، وهو يقول:
ـ إنه الآن في الظلام بالتأكيد .. خذ هذا.
ثم دفع (خيري) إلى الأمام بحركة مفاجئة عنيفة، بعد أن وضع في يده شيئًا ما ..
وارتطمت قدم (خيري) بجسم لدن ..
وسقط ..
وفي نفس اللحظة أضاء الخادم نور الحجرة ..
واتسعت عينا (خيري) في ذهول ..
لقد كان يرقد فوق جسد المدير ..
بل فوق جثته ..
كان المدير على أرض حجرته جثة هامدة، جاحظة العينين، وسط بركة من الدماء، تسيل من موضع طعنة خنجر في صدره ..
وفجأة أدرك (خيري) ما هذا الشيء، الذي ناوله إياه الخادم، قبل أن يدفعه أرضًا ..
لقد كان الخنجر ..
سلاح الجريمة ..
وأطلق الخادم صرخة هائلة، وهو يقول:
ت لقد قتله .. قتل المدير ..
ورآه (خيري) يبتسم في سخرية، وهو يقول هذا .. ورآه يلقي منديله بعيدًا ..
وقبل أن ينهض من موضعه ، كانت الحجرة مكتظة بعشرات الرجال، الذين اتسعت عيونهم في هلع، وهم ينقلون أبصارهم بين جثة المدير ووجه (خيري)، الذي راح يصرخ:
ـ إنني برئ .. أنا لم أقتله ..
وبعد ساعة واحدة، كان وكيل النيابة يبتسم في ظفر، وهو يقول:
ـ كنت أعلم أنك ستقع حتمًا، ولكنني لم أتوقع أن يتم هذا في ليلة الإفراج عنك.
صرخ (خيري):
ـ إنني برئ .. أقسم لك إنني لم أقتله هذه المرة.
هز وكيل النيابة رأسه، وقال في ارتياح:
ـ لن يفيدك الإنكار هذه المرة .. كل الأدلة ضدك .. كل رواد الملهى سمعوك تهدده بالقتل، وكلهم شهدوا بأنك قد انتقلت إلى حجرته والشر يتقافز من عينيك، والخادم رآك تقتله، وبصماتك واضحة على سلاح الجريمة، و …
قاطعة (خيري) صارخًا:
ـ ولكنني لم أرتكب هذه الجريمة .. أقسم لك ..
ظل يردد هذه القسم طيلة الوقت، حتى في أثناء محاكمته ..
ولم يعلم أبدًا لماذا فعل به الخادم هذا !! ..
ولم يتوقف عن الصراخ بأنه برئ ..
لم يتوقف إلا عندما توقفت في جسده أنفاس الحياة، وهو يتدلى من حبل المشنقة ..
وفي لحظاته الأخيرة كان قد أدرك أنه هناك دائمًا وجه آخر ..
للعدالة ..
________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ سر القصر وقصص أخرى ـ رقم 7)