جيفارا لم يكن يوماً إدارياً فذاً على الرغم من نجاحه فى أغلب الملفات التى أوكلت إليه إلا أن طموحه لم يكن يوماً أن يصبح وزيراً أو حتى رئيساً .. هو بطبعه ثائر و متمرد على الأوضاع الخاطئة من وجهة نظره بدون التقيد بوطن معين .. هو فقط يقتنع بالشيوعية كمبدأ للحياة و بالمساواة بين البشر ..
من وجهة نظره كل ما هو ليس شيوعياً يمثل خطئاً يجب إصلاحه إن لم يكن سلمياً فسيتم إصلاحه عن طريق حمل السلاح .. وجهة نظر صدامية إلى أبعد حد لكنه لم يجد لها بديلاً خاصة مع تحول الرأسمالية إلى وحشاً يأكل الضعفاء فى العالم .. كانت مسألة وقت قبل أن يرحل عن كوبا .. كل المؤشرات كانت تقول هذا ..
تراجع الإتحاد السوفييتى و قيامه بتفكيك منظومته الصاروخية الموجهة للولايات المتحدة جعل جيفارا يشعر الخيانة .. إحساس الغدر لازمه بشدة و ظهر واضحاً فى خطاباته الأخيرة .. لم تعد عباراته اللاذعة موجهة فقط إلى الولايات المتحدة و لكنها بدأت توجه أيضاً للإتحاد السوفييتى .. فى خطابه فى الأمم المتحدة هاجم عنصرية الولايات المتحدة و تفرقتهم بين الشعب الأمريكى حين قال :
كيف بدولة تعامل شعبها بهذا الشكل أن تدعى أنها مثالاً للحرية .. كيف لها أن تكون طرفاً فاعلاً فى حل مشاكل جنوب إفريقيا .. إننى أتهم الأمم المتحدة و الولايات المتحدة بعجزهم عن مواجهة الإجراءات الوحشية لنظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا
هاجم تشى الولايات المتحدة على أرضها و فى أكبر منظمة دبلوماسية عالمية .. جيفارا كان جريئاً و صريحاً و لا يقيم أى وزن لأمريكا و تفوقها العالمى طالما كانت تصرفاتها ضد مبادئه ..
لو كان اقتصر الأمر على مهاجمة الولايات المتحدة فقط لكانت الأمور سارت على ما يرام لكن جيفارا لم يستطع السكوت على خيبة أمله فى الإتحاد السوفييتى .. فى أخر خطاباته الرسمية فى الجزائر عام 1965 قال فيه :
أنا جئت لأشاهد حال نصف الكرة الأرضية الشمالى و الذى تقوده الولايات المتحدة غرباً و الإتحاد السوفييتى شرقاً .. ذلك النصف الذى يستغل موارد النصف الجنوبى و يسعى دائماً لإفقاره و إضعافه
هجوم أخر على السوفييت شمل محور أخر حين وجه إليهم إنتقادات فى أسلوب تعاملهم مع جمهورية الصين الشيوعية و أنه يجب عليهم المصالحة معهم و عدم التفكك و الفرقة .. نادى بحمل السلاح علناً و دعم فيتنام الشمالية الشيوعية فى حرب فيتنام .. جيفارا بدأ فى الهجوم علناً على السوفييت أكبر داعم لنظام كاسترو فى كوبا .. هنا بدأت المشاكل ..
إقتصاد كوبا تدريجياً كان يعتمد بالكامل على الإتحاد السوفييتى .. حاول جيفارا تحذير #فيديل_كاسترو من مغبة الإستمرار فى تلك السياسات إلا أنه رفض و رأى أن تلك السياسات ضرورية .. علناً كان الإثنان على قلب رجل واحد و لكن فى الغرف المغلقة صار الخلاف واضحاً ..
بدأت الضغوط السوفييتية على كاسترو بوجوب السيطرة على تصريحات تشى .. كاسترو نفسه بدأ يرى فى جيفارا منافساً محتملاً .. بداية من إبريل 1965 اختفى جيفارا تماماً من الحياة العامة فى كوبا .. أين اختفى ؟
بدأت الألسن فى التهامس بأن فيديل قتله .. لم تفوت الولايات المتحدة الأمر وأصدرت تقريراً تقر فيه بإحتمالية قتل جيفارا على يد صديقه فيديل .. هنا صار فيديل مجبراً على التوضيح فكانت المفاجأة ..
عرض كاسترو على الشعب رسالة جيفارا الأخيرة له و فيها قال :
أتممت ما لدى من واجبات تجاه كوبا .. أستودعك و أستودع باقى الرفاق و الشعب الكوبى .. إنى أتقدم رسمياً باستقالتي من قيادة الحزب و من الوزارة و من رتبة القائد ومن جنسيتي الكوبية .. لم يعد هناك شيئاً قانونياً يربطنى بكوبا .. إلا أن الأمور لا تقاس بالوثائق .. ستظل كوبا أرضى و ملجئاً آمناً لى كلما أُتيحت لى الفرصة و سيظل الشعب الكوبى شعبى و أنا فرداً منه
إذاً أين ذهب وقتها جيفارا ؟ كاسترو كان يعلم بالتأكيد .. و ما هو إلا وقت حتى علم باقى العالم أين ذهب ..
بدأت بوادر ثورة فى الكونغو .. كان يرى دائماً أن إفريقيا هى الحلقة الأضعف و أنه لو تمكنت تلك القارة من الإستقلال بقرارها فإن الولايات المتحدة ستكون فى مأزق .. ذهب إلى الكونغو و لحق به حوالى 100 فرد من المقاومة الكوبية لتدريب و تعليم المتمردين الكونغوليين تحت قيادة لوران كابيلا زعيم المتمردين ..
سبعة أشهر حاول فيهم إستنفار همم المقاتلين الأفارقة إلا أنه وجد منهم إستهتاراً مبالغاً فيه .. كانوا لا يجيدون التصويب .. كانوا يذهبون فى ليالى الأحد مع صديقاتهم و لا يعودا إلى نقاط تمركزهم .. كانوا يرفضون حفر الخنادق لأنهم يظنون أنها للأموات فقط .. كانوا يختلفون فيما بينهم و يتصارعون على الزعامة ..
خاب أمله فى المتمردين الأفارقة .. إضافة لهذا كانت المخابرات الأمريكية تسبقه بخطوة و تتصنت على رسائله ما تسبب فى فشلاً مضاعفاً لرحلته الإفريقية و على الرغم من ذلك الفشل إلا أنه أمر رجاله الذى قتل منهم 6 أفراد بمغادرة البلاد و تركه وحده ليموت .. كان يرغب فى ضرب المثل بالصمود للنهاية لعل بموته تنتصر روح الثورة و تقوم الشعوب بتحرير نفسها إلا أنه و تحت ضغوط مبعوثين أرسلهم إليه كاسترو تراجع فى أخر لحظة و غادر الكونغو مع رجاله .. بالطبع الدخول و الخروج كان صعباً فوجه جيفارا كان من أشهر وجوه العالم وقتها و كان التنكر ضرورياً ..
بعد خروجه من الكونغو استمر اختفائه لمدة 6 شهور قضاها بين دار السلام و براج قبل تحديد إلى أين سيذهب .. بوليفيا كانت وجهته المقبلة .. أرسل رسالة لأطفاله يودعهم ويوصيهم برفض الظلم أين ما كان وممن كان ..
كان يشعر أنها النهاية على ما يبدو .. فى أواخر عام 1966 وصل إلى بوليفيا محتمياً بقطعة أرض تم شراؤها من قبل الشيوعيين البوليفيين فى منطقة نانكاهوازو استخدمها كمنطقة تدريب ..
حاول جيفارا تحديد المسئوليات مبكراً مع الشيوعيين حتى لا يحدث مثلما حدث فى الكونغو فأخبر ماريو مونخى زعيم الشيوعيين أنه سيكون رئيس المجموعة ما أغضب ماريو بشده .. بهذا خسر جيفارا أكبر حلفاؤه هناك .. هذا سبب عجزاً كبيراً فى عدد الجنود المنضمين للجيش ..
عوامل أخرى أدت لفشل الحملة منها خوف المزارعين من الإنضمام لجيش جيفارا .. صعوبة التواصل مع كوبا بسبب أجهزة اللاسلكى المعيبة التى تم تزويدهم بها .. تدريب الولايات المتحدة للجيش البوليفى و إمداده بفرق كوماندوز مدربة على أعلى مستوى .. فى المقابل عانى جيفارا و رجاله من الأمراض و ضعف الإمدادت .. كانت الحلقة تضيق تدريجياً على جيفارا و رجاله ..
رغم كل الصعوبات السابقة إلا أن جيفارا إستمر فى مراوغة الجيش 11 شهراً متتالياً إلى أن تخلى عن عامل السرية فى تحركات المجموعة .. بعض الجنود كانوا مرضى و العبور فى الطرق الجبلية كان مستحيلاً .. كان لا يترك رجاله أبداً .. عبروا خلال القرى مباشرة مما جعل القرويون يبلغون قوات الجيش عنهم .. حوصر جيفارا و رجاله فى معسكر بواد جورو بعد أن أبلغ عنهم فيليكس رودريجيز و هو مواطن كوبى منفى فى بوليفيا صار عميلاً للإستخبارات الأمريكية .. قاوم جيفارا و رجاله حتى النهاية .. أصيب مرتين .. خربت بندقيته .. ألقى سلاحه و قال لمهاجميه ..
أوقفوا إطلاق النار .. أنا تشى جيفارا .. و أساوى حياً أكثر مما أساويه ميتاً
تم القبض على جيفارا فى السابع من أكتوبر 1967 .. مصاب .. مرهق .. مريض بالربو و يلتقط أنفاسه بصعوبة .. طلب تبغاً فأحضروه له .. احتجزوه فى مدرسة قديمة .. رأى مبانيها متهالكة فطلب لقاء معلمة فى تلك المدرسة تدعى جوليا كورتيز و قال لها ..
هذه المدرسة متهالكة كما ترين .. تلك المدرسة لا يمكن أن تؤدى وظيفتها مع الطلاب .. لابد من تجديدها و تأهيلها .. لكن هذا لا يمكن حدوثه طالما أن المسئولين يحصلون على سيارات مرسيدس .. لأجل هذا كنا نحارب عزيزتى جوليا .. لأجل هذا كنا نحارب
مقتل جيفارا
صباح 9 أكتوبر 1967 أمر الرئيس البوليفى رينيه باريينتو سبقتل جيفارا .. كان هناك رقيباً يدعى ماريو تيران قد طلب تنفيذ حكم الإعدام فيه .. دخل عليه فنظر جيفارا مباشرة فى عينيه فارتبك و حاول التراجع .. قال له جيفارا :
أنا أعلم أنك جئت لقتلى .. أطلق النار يا جبان .. إنك لن تقتل سوى رجل
أطلق ماريو 9 طلقات فى جسد جيفارا منهم طلقة فى الصدر و أخرى فى الرقبة و الباقى فى الساقين و الزراع الأيمن .. تم حقن الجثة بالفورمالدهايد لمنع تحللها و تم عرضها على الجمهور البوليفى ليتأكد الجميع أنه هو بالفعل جيفارا ..
تم قطع يديه و إرسالها إلى الأرجنتين لمطابقة بصماته بملفه لدى السلطات الأرجنتينية و بعد مطابقتها تم إرسالها لكوبا حتى يتأكدوا هم أيضاً .. فى 15 أكتوبر أعلن فيدل كاسترو وفاة تشى جيفارا و أعلن الحداد الرسمى لـ 3 أيام ..
تم دفن الجثة فى مدفن سرى و لم يخبروا به أحداً حتى لا يصبح مزاراً للثوريين .. عام 1997 تم إكتشاف مقبرة جماعية فى مهبط طائرات فى بوليفيا .. أحد الهياكل العظمية كان مقطوع اليدين .. تم إرسال مجسم لأسنان الهيكل إلى كوبا لمطابقته ببصمة أسنان تشى لديهم .. تم التأكد من أنه هو و تم نقل باقى جثته إلى مقبرته الحالية فى كوبا بعد جنازة عسكرية مهيبة ..
مات جيفارا الثائر الوطنى بعد حياة قصيرة و لكنها مليئة بكثير من التحدى .. مات جيفارا الرجل و لكن ولد بمماته جيفارا الأسطورة .. تم تخليده كثائر يرفض وقوع الظلم على أحد .. تم تخليده نصيراً للفقراء و المهمشين .. رجلاً ضحى بحياته مراراً فقط ليعلم الجميع أن الناس سواسية و لا يجب أن يتسلط أحد على أحد لمجرد أنه يملك الثروة و السلطة .. كانت له أخطاؤه بالتأكيد إلا أن من يحبون جيفارا يتجاوزون دائماً تلك الأخطاء و يركزون على إنسانيته و نصرته للفقراء و المستضعفين ..
صار إرنستو تشى جيفارا دى لاسيرنا مثالاً لكل رافض للظلم و القهر بكل أشكالهم .. ترك رغد العيش أولاً فى وطنه الأرجنتين .. ثم تركه فى المكسيك .. ثم تركه ثالثاً بعد أن نجحت الثورة فى كوبا .. ترك المنصب .. و السلطة .. و المال .. و توجه لنصرة أناس لا يعرفهم فى الكونغو و بوليفيا و تحمل من أجلهم حياة الجبال و المطاردات المستمرة و قهر المرض .. صار تشى حلماً لبعض الناس و كابوساً لأخرين .. تم الإختلاف عليه نعم و لكن لم يجد أشد المعارضين له إلا أن ينظروا له نظرة إحترام ..