من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة من قارئات بابك منذ عام 1985 حتي الآن .. ولم أتصور أن يجيء اليوم الذي أصبح فيه صاحبة إحدي مشكلاته.. فلقد تزوجت من موظف بإحدي الوزارات وأنجبنا ثلاثة أبناء, وسافرنا جميعا في منتصف السبعينيات الي إحدي الدول العربية حيث عمل زوجي في وظيفة بإحدي الهيئات وعملت أنا أيضا في تخصصي ورجعنا الي بلدنا بعد رحلة غربة طويلة والتهمت شركات توظيف الأموال جزءا كبيرا من حصيلة شقاء الغربة, ووضعنا الجزء الباقي في البنك ليدر علينا دخلا شهريا يعيننا علي مواجهة الحياة ونفقات الأبناء,
ومضت بنا الأيام بحلوها ومرها, وتركت عملي وتفرغت لزوجي وأبنائي.., وآمنت دائما بأنه لا فرق بين الزوجة وزوجها من الناحية المادية وشجعني علي ذلك أن زوجي رجل عطوف وحنون ويحبني حبا عظيما.. كما أنني أيضا أحبه حبا كبيرا, غير أنني لاحظت عليه بعد عودتنا واستقرارنا في مدينتنا بالاقاليم اهتمامه المبالغ فيه بزميلة له في العمل متزوجة ولها أبناء, لكني استبعدت أن يكون معجبا بها, ولم أمانع في التعرف عليها استجابة لإلحاح زوجي علي ذلك,
وتم التعارف بيننا فأصبحت هذه السيدة بعد ذلك جزءا من حياتنا, تزورنا هي وزوجها وأبناؤها كل يوم تقريبا, ويحرص زوجي علي استمرارها لأطول وقت ممكن, وبعد فترة أخري وجدت زوجي متحمسا لإنشاء مشروع تجاري صغير, يموله زوجي ويشارك فيه زوج هذه السيدة بالعمل والمجهود وبدأ المشروع بالفعل وتحسنت أحوال الشركاء المادية وجددت هذه السيدة أثاث بيتها, واشترت الذهب والملابس لنفسها ولأولادها وكل هذا وأنا أنبه زوجي الي أن هذه النفقات الجديدة من رأسمال المشروع أو أرباحه, وزوجي يرفض تصديق ذلك ويكذب ظنوني ويتهمني بالتجني علي هذه السيدة وزوجها بدوافع الغيرة.
وثارت مشاكل عديدة بيني وبين زوجي بسبب هذا الأمر, وطلبت منه الطلاق بعد أن أصبح الوضع بينه وبين هذه السيدة المتزوجة محرجا أمام الأبناء, كما طلبت أيضا أن يجعل جزءا من المال الذي شقيت في جمعه خلال سنوات الغربة باسمي, ولم يستجب زوجي لهذا الطلب أو لذاك, ومن شدة غيظي وحنقي وضيقي بما أراه دعوت عليه بالموت مرارا وتمنيته له بالفعل لأنه لايستجيب لي, وإنما يستجيب لرغبات هذه السيدة الملعونة لا لشيء إلا لأنها بيضاء البشرة وأنا سمراء!
وتعجبت غاية العجب كيف لرجل مثل زوج هذه السيدة أن يرضي لنفسه أن يلمس اهتمام رجل آخر بزوجته وغمره لأسرته بالهدايا والأطعمة الفاخرة لها, ولا يتشكك في نية هذا الرجل الغريب تجاه زوجته, ولا يعترض علي ذلك, بل يتقبل ذلك بسعادة ورضا. وكل ذلك وأنا المخلصة الوفية لزوجي لا ألقي منه سوي التجاهل لرغباتي وتحذيراتي.
لقد سلمت أمري الي الله.. وغلبني حبي لأولادي الذين منحتهم زهرة عمري علي إحساسي بكرامتي كزوجة, وتركت لمن لا يغفل ولا ينام أن يحل هذه المشكلة التي أعيتني الحيلة في حلها, وذات يوم ركبت السيارة مع زوجي إلي المدينة المجاورة لمدينتنا التي لايفصل بينهما سوي الكوبري لكي يدفع زوجي مبلغا من المال لأحد الأشخاص هناك.. وتوقف زوجي بالسيارة قرب محطة السكة الحديد وترك لي مفاتيحها واستأذن في أن يغيب عشر دقائق فقط يعبر خلالها شريط القطار ويدفع المبلغ المطلوب ويرجع إلي..
وراقبته في صمت وهو يتجه الي شريط القطار لكي يعبره.. وقبل أن يصل اليه أذن لصلاة العشاء في مسجد المحطة الصغير فاتجه اليه زوجي بدلا من عبور القضبان, وأدي الصلاة, وغاب بعد ذلك عن نظري فلم ألاحظه وهو يتجه الي غايته أو يرجع منها, ومضي الوقت وطال بغير أن يرجع.. وبعد نصف الساعة مرت من جواري سيارة إسعاف تدوي صفارتها المزعجة وانقبض صدري..
وبعد ساعتين أخريين غادرت السيارة لأبحث عن زوجي, فإذا بي أعرف أن قطارا قد دهم رجلا لحظة عبوره لشريط القطار عند المحطة, وأنه نقل بسيارة الإسعاف وهو في حالة سيئة الي المستشفي.. وبطريق الصدفة البحتة اكتشفت من أحاديث من حولي أن هذا الرجل هو زوجي, ومادت بي الأرض وسقطت مغشيا علي.. وتعاون الناس علي حملي للسيارة وإعادتي للبيت حيث تأكدت من رحيل زوجي عن الحياة ـ يرحمه الله ـ وتحملت الصدمة المؤلمة وحدي وصبرت علي أقداري ومصيبتي في أعز إنسان لدي في الوجود,
والآن وبعد عشرة أشهر علي وفاته لا أستطيع أن أصف لك عمق حزني عليه وهو من كان زوجي وحبيبي وأخي وكل من لي في الحياة.. ولقد مرضت بالسكر وساءت حالتي الصحية والنفسية, وأصبح السؤال الذي يؤرقني ويضاعف من همومي وأحزاني هو: هل دعائي علي زوجي بالموت هو الذي عجل بوفاته؟ وهل استجاب الله سبحانه وتعالي لدعائي المذموم هذا عليه أم أنه قدر مكتوب من قبل أن يأتي إلي الحياة؟,
انني مؤمنة بقضاء الله وقدره وصابرة علي أقداري لكن ضميري يعذبني وأعاني من الاكتئاب والإحساس المؤلم بأنني السبب في وفاة زوجي, وأدعو له الله بالمغفرة والرحمة وأتعلق بالأمل في أن يكون موته عقب خروجه من المسجد مباشرة كما علمت إشارة إلي أن الله ـ سبحانه وتعالي ـ قد غفر له كل ذنوبه, لكن عقلي يكاد ينفجر كلما تذكرت الطريقة الفظيعة التي لقي بها زوجي مصرعه.. ـ رحمه الله.
وأرجو من قرائك جميعا أن يقرأوا له الفاتحة ترحما عليه وأخيرا فإني أتساءل.. ألا يحق لي أن أقاضي هيئة السكك الحديدية لمسئوليتها عن مصرع زوجي حيث كانت محطة القطار عند عبوره لها مظلمة تماما فلم ير القطار الذي دهمه, وبعد الحادث تم إصلاح الإنارة فيها؟
وهل أجد من قرائك من المحامين من يتبني هذه الدعوي القضائية ولدي كل الأوراق والمستندات المؤيدة لها!
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
هوني علي نفسك ياسيدتي, فإن الآجال لا شيء من دعاء البشر يعجل بها أو يؤخرها, وإنما هي كما جاء في الأثر كالرزق والسعادة, تقدر علي الانسان وهو في رحم أمه,
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ صدق الله العظيم]
غير أنه ليس من المستحب, أن يرجو الإنسان موت أحد مهما كان حانقا عليه أو مكلوما منه .. خاصة اذا كان هذا الإنسان شريكا له في حياته أو قريبا منه, لكنه ينقم عليه فقط بعض أفعاله, ومن الأفضل دائما أن يعتصم المرء بالحلم والصبر علي من آذوه, وأن يدع أمرهم لخالقهم راجيا أن ينصفه ـ سبحانه وتعالي ـ منهم بعدله ورحمته. فإذا ما نزلت بهم النوازل لم يشمت في مصيبتهم ولم يفرح لها, وإنما اكتفي بالاعتبار.. والصمت.. والتفكر في عدالة السماء وعبرة الاحداث.
ومن الأفضل كذلك إذا اشتد ضيق المرء بجناية البعض عليه وظلمهم له أن يدعو بدعاء الرسول صلوات الله وسلامه عليه ـ المأثور عنه: رب أعني ولا تعن علي, وانصرني ولا تنصر علي, وامكر لي ولا تمكر علي, واهدني ويسر الهدي لي, وانصرني علي من بغي علي.
وفي ذلك ما يغني المرء عن تمني الأذي للآخرين انتصافا لنفسه أو ثأرا لها منهم, وما يطهر الصدور من سخائمها, ويعفي الانسان من الاحساس المرير بالذنب إذا تصادف أن أصابت الأقدار من اشتد به حنقه عليهم فرجا لهم الأذي, ومن دعاء الرسول الكريم كذلك ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ:
رب تقبل توبتي, واغسل حوبتي واجب دعوتي, وثبت حجتي وسدد لساني, واهد قلبي, واسلل سخيمة صدري
ومن سداد اللسان وهداية القلب وخلو الصدر من سخيمته ألا يستجيب الإنسان لنوازع الغضب والحنق فينطق لسانه بما يندم عليه, أو ينطوي قلبه وصدره للآخرين علي مايكرهه لنفسه من الأحاسيس والمشاعر. غير أن الإنسان خلق عجولا فما ان يضيق صدره بشيء حتي يطلق العنان للسانه وتمنياته, التي لاتعدو أن تكون في أغلب الأحيان أكثر من إطلاق للبخار المكتوم في صدره, ولا تعبر في حقيقة الأمر عن رغباته وتمنياته الحقيقية.. وما أسرع ما يندم عليها المرء لو تحققت في أرض الواقع.
وحالك خير مثال علي ذلك ياسيدتي, فلقد ضقت باهتمام زوجك بتلك السيدة ورفضه الاستجابة لك, مع استمراره في الخضوع لها والاستجابة لرغباتها, فكان أن تمنيت الموت له, فما أن أصابته الأقدار في موعدها المقدور حتي عضك الندم, وعانيت الوحدة والوحشة وفقدان الرفيق, واستشعرت جسامة الخسارة الانسانية التي أصابتك, ورجوت لو كانت الحياة قد امتدت برفيق الحياة ولو كان في العمر مافيه من الحسرات
فأما مصرعه وقد خرج لتوه من المسجد ذاكر القلب واللسان, ومتطهرا, فلعله من علامات القبول والإجابة, باذن الله, وأما عن مقاضاتك لهيئة السكك الحديدية لمسئوليتها عن مصرع زوجك الراحل ـ يرحمه الله ـ فهي من حقك بل من واجبك أيضا تجاه نفسك وزوجك الراحل وأبنائك, ذلك أن سكوت صاحب الحق المنهوب عن حقه قد يجعل المعتدي صاحب حق في الاعتداء, أو يغريه بمواصلة عدوانه علي الآخرين بلا رادع ولا عقاب!