فكر و ثقافةقضايا وأراءكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

هل تأملت نهرا ؟ || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

نُشر في: الأحد 20 يوليو 2008

هناك قصة شهيرة جداً عن خروشوف، رئيس الحزب الشيوعي السوفييتي، الذي كان سليط اللسان لا يجامل. وهو أول وآخر رجل ينزع حذاءه ليدق به على المنصة في الأمم المتحدة. عندما زار معرضاً للفن الحديث، ظل يمشي بين اللوحات صامتاً ثم قال في النهاية:

”هذه اللوحات مرسومة بذيل حمار، وأنا لا أقول هذا كناقد فني بل كرئيس اللجنة المركزية للحزب!”.
طبعاً، عندما تقال هذه الكلمة في أميركا أو أوروبا، فهي لا تعني سوى إحراج الفنان، بينما عندما تقال في بلد شمولي شيوعي فمعناها أن الفنان قد انتهى… صار بطَّة ميتة.

الحق أنني عندما أتأمل لوحات الفنانين الجدد الحداثية أفهم رأي هذا الرجل جيداً، وأضيف أنه من الأفضل إعدام هؤلاء الفنانين جميعاً ليكونوا عبرة لسواهم. فأنت لا ترى إلا ألواناً تنسكب على ألوان وخطوطاً تقتحم خطوطاً، بحيث يستحيل أن تفهم أي شيء أو تشعر بأي متعة. ولقد رأيت على شاشة التلفزيون لوحات رسمها ”درفيل” أكثر روعة وإتقاناً من هذه.

رائج :   طريقة مجانية للحماية من فيروس الفدية

المصيبة عندما يظهر أحد أساتذة الفنون ليتكلم عن (البنية اللونية في تشييء الموجودات، والتعامل الوحشي مع اللون بشكل يقترب كثيراً من التصوف. إنه الجدل الذي لا ينتهي بين المادة والروحانيات).
أبحث في اللوحة عن بنية لونية وتعامل وحشي فلا أجد حتى التعامل الإنسي. ولا أرى أي تصوف في اللوحة… لا يوجد جدل بين المادة والروح إلا لو كانت المادة تعني المال والروحانيات تعني المشروبات الروحية. هنا أفهم… الفنان كان ثملاً ورسم الصورة لأنه محتاج إلى المال.

المشكلة أنك لا تستطيع أن تعلن هذا. انتهى العصر السعيد عندما كان بوسعك أن تقول عن اللوحة الرديئة إنها كذلك. كلهم عباقرة مبدعون وأنا الجاهل الوحيد.
تذكرت قصة جميلة لأندريه موروا تحكي عن فنان مبدع مغمور لا يبيع لوحة واحدة من لوحاته. زاره صحفي من أصدقائه فرقَّ لحاله، واقترح عليه أن يدعي أنه ابتكر أسلوباً جديداً في الفن اسمه (الطريقة النفسية التحليلية).

رائج :   مرحب شهر الصوم || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

”هل يمكنك أن ترسم لي بعض اللوحات التي تحوي كلاماً فارغاً؟ مثلاً، امرأة جميلة وحولها أوراق مالية كناية عن حب المرأة للثراء. أو رجلاً بديناً متأنقاً حوله دموع ودم كناية عن أغنياء الحرب… هل تستطيع ذلك؟”.
”بالتأكيد”.

”إذن نفذ عشر لوحات بهذه الطريقة وسوف أكتب أنا مقالاً عن طريقتك العبقرية وعن معرضك المقبل”.
وهكذا أنجز الفنان هذا الكلام الفارغ في ليلة واحدة، وجاء يوم المعرض الذي احتشدت باريس كلها لتراه. كان هناك حشد من النقاد الفنيين، فقال الصحفي للفنان:

”لا تخف… كلما سألك أحدهم عن معنى (الطريقة النفسية التحليلية) اكتف بأن تنفث دخان الغليون في وجهه، وقل: هل تأملت في حياتك نهراً؟، سوف يتظاهرون بأنهم فهموا!”.
نفذ الفنان التعليمات. كلما التف حوله نقاد أو صحفيون وسألوه عن مغزى أسلوبه، نفث الدخان في وجوههم وقال: ”هل تأملتم في حياتكم نهراً؟”.

رائج :   اليابان .. كيف بدأت المعجزة || ج1

هكذا يصيحون في انبهار:
”هذا صحيح… يا له من عبقري!”.
انتهى المعرض بعدما بيعت اللوحات بثمن باهظ. وصار الفنان أهم فنان في باريس.
جاءه الصحفي ضاحكاً بعد رحيل الناس وقال:
”هل رأيت كيف خدعنا هؤلاء القوم بلوحاتك عديمة القيمة؟”.
نظر له الفنان في حزم وقال:

”هل أفهم من هذا أنك تنتقد طريقتي النفسية التحليلية؟”.
صاح الصحفي في غيظ:
”هلم!… لا تصدق نفسك. أنت تعرف أنه لا يوجد شيء اسمه (الطريقة النفسية التحليلية)”.
هنا نظر له الفنان طويلاً ثم نفث دخان الغليون في وجهه وقال:
”هل تأملت في حياتك نهراً؟!!!”.

مقالات ذات صلة