بقلم الكاتب : أحمد كامل
بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى تم تحميل الإمبراطورية الألمانية أخطاء الحرب بالكامل ثم تم تجريدها من لقبها الإمبراطورى و أخيراً تم إتخاذ كل التدابير الممكنة لمنعها من إعادة تكوين إمبراطوريتها مجدداً .. شروطاً مجحفة تلك التي نصت عليها معاهدة فرساى أثرت على النمو الإقتصادى الألمانى و ضمنت تبعيته الكاملة لمعسكر الحلفاء المنتصرين فى الحرب ..
– تم تحميل ألمانيا مسؤولية إشعال الحرب و عليه تم تغريمها بمبلغ 269 مليار مارك تسددها على 42 قسط سنوى ( لاحقاً تم تخفيضها إلى 112 مليار مارك فقط )
– تم تجريد ألمانيا من مستعمراتها الخارجية إضافة إلى خسارة بعض أراضيها .
– تم تقليل عدد أفراد الجيش إلى 100 ألف جندى فقط .
– تم تقييدها ب 15000 جندى للقوات البحرية مع تجريدها من غواصاتها المقاتلة .
– تم تفريغها من عنصر الكفاءة بتحديد 12 عاماً كأقصى مدة إنخراط للجنود فى الجيش و 25 عاماً للضباط .
– تم إلغاء التجنيد الإلزامى من الأساس .
– أخيراً تم منعها من إنشاء قوة جوية .
* بإثقالها بالديون و إجبارها على عدم تكوين جيش قوى يضمن لها قدرتها على إسترداد هيبتها مجدداً صار من شبه المستحيل على ألمانيا أن تعيد بناء نفسها مرة أخرى و إذا ما تخطينا السياق التاريخى فى العشرون عاماً التالية و ما قام به هتلر من نهضة صناعية وعسكرية في ألمانيا مكنها من إنشاء جيش قوى و تقليل أعداد البطالة لأقصى حد إلى آخر تلك الأمور فالأثر السلبى الذى عاد على الدولة هو الهزيمة للمرة الثانية فى حرب عالمية أخرى كلفت ألمانيا كل ما تملك .. نحن نتحدث هنا عن دولة خسرت كل مقوماتها الإقتصادية تقريباً و كان مطلوباً منها أن تبنى نفسها من الصفر أو من تحت الصفر إن شئت الدقة ..
المدن الألمانية كانت خراباً .. البنية التحتية فى كافة المدن الألمانية كانت شبه مدمرة .. نقص حاد في الغذاء و الدواء .. وزعت السلع بنظام الحصص .. انهارت قيمة الرايخ مارك لأقصى حد و ضرب التضخم كل شيء .. خسرت ألمانيا حدود الـ 6 ملايين جندي و 3 ملايين مدنى فى الحرب .. و هذا بخلاف المصابين بعاهات مستديمة .. أصيب سوق العمل الألماني بعجز كبير في القوى العاملة .. من سيملأ هذا الفراغ .. و كيف فى تلك الظروف نتحدث عن نهضة ..
النساء فى تلك المرحلة كانت لهم الأغلبية فى سوق العمل بسبب أن أغلب الرجال قتلوا فى الحرب .. صاروا هم المكون الرئيسى لسوق العمل بل إنهم حلوا محل الرجال فى المهن التى كانت حكراً عليهم سابقاً .. برز فى تلك المرحلة ما عرف تاريخياً بإسم نساء الأنقاض أو ال Trümmerfrau حيث ساهم نشاط هؤلاء النسوة فى إعادة تهيئة العاصمة من جديد بإزالتهم أنقاض المنازل و تجميعها فى تلال عالية على أطراف المدينة .. أيضاً كان لهم دوراً فى بث الروح المعنوية فى نفوس الشعب عن طريق ترديدهم لهتافات و شعارات مثل ألمانيا لا تعرف المستحيل ..
عام 1949 تم تقسيم ألمانيا إلى دولتين .. ألمانيا الشرقية و قد أضحت تابعاً إلى الإتحاد السوفيتي وألمانيا الغربية التي تبعت المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .. بدأت بعد هذا الإنقسام تظهر الملامح الاقتصادية لألمانيا التى نعرفها فى يومنا الحالى .. ألمانيا الشرقية اتخذت المسار الإشتراكى منهجاً لها وهو ما لم يثبت أى نجاح يذكر على مدار أربعة عقود .. أما ألمانيا الغربية فقد إتخذت المسار الرأسمالى و قد حققت نجاحاً كبيراً فى تلك التجربة .. ما يهمنا هنا هو تجربة ألمانيا الغربية بحكم أنها الأكثر نجاحاً .. ذلك النجاح الذي تحقق نتيجة عدة عوامل سنحاول توضيحها فيما هو قادم ..
لودفيج إيرهارد .. اقتصادي ألماني فذ تم تعيينه وزيراً للمالية و رئيساً للمجلس الاقتصادي بالبلاد بعد إنتهاء الحرب .. ساهم إيرهارد برؤيته فى وضع النظام الإقتصادى الذى ستسير عليه ألمانيا لتحقيق نهضتها .. إيرهارد أطلق عليه إسم نظام السوق الإجتماعى و وصفته الصحف العالمية حينها بالمعجزة الاقتصادية الألمانية بسبب الأثر السريع الذى تركه على الاقتصاد الألمانى المتهالك بشدة وقتها .. بالطبع لا يمكن إغفال دور خطة مارشال و كم الدعم الكبير الذى لاقته ألمانيا الغربية إلا أن هذا الدعم كان من الممكن ألا يأتى بنتيجة إذا لم يكن هناك أساس قوى ينظم و يدير تلك المساعدات .. نظام السوق الاجتماعي هو واضع ذلك الأساس ..
دمج النظام بين التوجهين الرأسمالى و الاشتراكى حيث أخذ مزايا كل توجه و أخرجها فى صورة قوانين ساعدت فى إقالة الإقتصاد من عثرته .. لودفيج إيرهارد رسم إستراتيجيته على المحاور الآتية :
– استبدل العملة القديمة ( الرايخ مارك ) بعملة أخرى جديدة ( المارك ) لتقليل حدة التضخم و لإستعادة الألمان الثقة فى عملتهم .. كل 50 رايخ مارك تم تحويلهم إلى مارك مع إعطاء منحة لكل مواطن تقدر ب 50 مارك .
– ألغى نظام تحديد أسعار السلع و هو ما مهد الأرض لتقبل السياسات الرأسمالية المزمع تطبيقها .
– بعد تمهيد الأرض قام بتطبيق سياسات رأسمالية صريحة مثل حرية تملك وسائل الإنتاج و الإستثمار .
– إتخذ سياسات إشتراكية فى نفس الوقت و لكن بمنظور إجتماعى مثل التحكم فى أسعار الفائدة من خلال البنك المركزى و هو ما ساهم فى السيطرة على معدلات التضخم المرتفعة .
– سمح بتدخل الدولة فى سن القوانين التى تضمن مستوى معيشة الطبقة الفقيرة .
– سن قوانين تسمح بإشراك العمال فى مجالس الإدارات و هو ما قلل من تسلط أصحاب رؤوس الأموال فيما يخص حقوق العمال .
– إهتم بالمشاريع الصغيرة و متناهية الصغر لأبعد حد و وضعها كأساس للهرم الإقتصادى تليها الشركات المتوسطة و أخيراً وضع الشركات العملاقة على رأس الهرم الإقتصادى الألمانى .
– وضع برنامج لإقراض المتعطلين عن العمل بفوائد بسيطة جداً بشرط أن يكون القرض مخصصاً لبدء مشروعات جديدة لتقليل العجز فى بعض السلع و الخدمات التى احتاج لها السوق .. ساهم هذا فى تقليل نسب البطالة و تقليل معدل الإستيراد و أيضاً رفع معدل الإستهلاك و ضبط الأسعار .
تطبيق النظام بالشكل السابق أسس لزيادة عدد الشركات العاملة فى السوق فى كافة المجالات فتخصصت الشركات الصغيرة ومتناهية الصغر فى تصنيع قطع الغيار و المنتجات التكميلية التى تحتاجها الشركات الكبيرة فى السوق وتخصصت الشركات المتوسطة فى الإستيراد و التصدير و الصناعات المتوسطة و التى يحتاجها السوق بشكل دائم مثل المصنوعات الخشبية و المنسوجات و المنتجات الغذائية و ت
خصصت الشركات العملاقة فى مجالات صناعة السيارات و الأدوية و الإتصالات و المجالات التكنولوجية فأصبحت الشركات الصغيرة مورداً هاماً للشركات الأكبر حجماً لا يمكن الإستغناء عنه و هذا ساعد على تكافل الإقتصاد بالكامل و أعطى هذا النظام البديع الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة بفاعلية فى عملية النهوض بالاقتصاد ممثلاً أغلب عربات القطار الإقتصادى مع احتفاظ الدولة بدور قائد القطار و صاحبة العربة الأولى فيه ..
فى ذلك الجزء استعرضنا لمحة تاريخية سريعة على وضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى و الثانية و كيف أن خسارة حربان عالميتان حولوا ألمانيا من إمبراطورية أوروبية عظيمة إلى دولة مديونة مقسمة حتى أن عاصمتها برلين قسمت إلى 4 أجزاء بعد إقتحامها من الحلفاء .. استعرضنا أيضاً الملامح الرئيسية لنظام السوق الإجتماعى حسب ما طبقه مبتكرة الفذ لودفيج إيرهارد ..
نتائج هذا البرنامج ستكون مبهرة بحق .. نحن نتحدث عن شعباً وصل به الحال أن يأكل الحيوانات النافقة فى الطرقات بسبب نقص الطعام فى الأسواق .. لو سألت أى إنسان على وجه الأرض عن رأيه فى هذه الأمة لقال لك أن هذا الشعب سيقتل بعضه بعضاً بمرور الوقت بحثاً عن قوت يومه .. إلا أن ذلك لم يحدث .. على الرغم من كل التحديات التى ستقابل ألمانيا إلا أن إيرهارد و برنامجه الإقتصادي سيثبتان أن ما سيقوما به في العقود التالية يعد إنجازاً فريداً من نوعه و أن مسمى المعجزة الإقتصادية الألمانية لم يأتى من فراغ ..
فى الجزء القادم سنتعرف أكثر على الجارة الشرقية و كيف استفادت ألمانيا الغربية منها .. ماذا عن هدم جدار برلين والوحدة من جديد .. ماذا عن تحديات ما بعد الوحدة .. و الأهم .. ماذا عن الحالة المصرية و قدرتها على الاستفادة من برنامج اقتصادي عبقرى مثل نظام السوق الاجتماعي ..