أجمل رسائل بريد الجمعة

ابتسامة الرضا ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

قرأت رسالة ماكينة الخياطة التي تحكي قصة ذلك الشاب المناضل الذي وجد من يقيله من عثرته عندما ضاقت به الأحوال منذ نحو عشرين عاما, عندما كان طالبا في كلية طب الأزهر, ثم أرسل لكم راجيا مساعدته في العثور علي ذلك الصديق القديم في محاولة صادقة لرد الجميل

والحقيقة أنني أعدت قراءة تلك القصة مرات ومرات مستمتعا بما تحمله من معان جميلة, وجاء ردكم عليه في كلمات بليغة وعميقة ووافية بأن مسلسل العطاء والوفاء ليس بالضرورة أن يكون عبر من امتدت يدهم الينا وقت الحاجة, ولكن من الأفضل أن يمتد الي آخرين ربما يكونون في نفس خندق الحاجة الذي كنا نقف فيه سالفا, وبالتالي فهم أحق بالعطاء من غيرهم.. والحقيقة أن تلك الرسالة جاءت في وقت يعتقد فيه البعض أن الوفاء أصبح عملة نادرة فأعادت إلينا الثقة بالحاضر والمستقبل وأن الخير سيظل في أمتنا بإذن الله الي يوم الدين.

ولقد ذكرتني تلك القصة بواقعة لاتزال محفورة في ذاكرتي برغم مرور الأيام والسنين.. ففي عام 1979 كنت أعمل مديرا لمكتب أحد أعضاء مجلس الإدارة في شركة كبري للمقاولات في مصر, وجاءني أحد المهندسين المعاقين وبرفقته شقيقه الأصغر يدفعه علي عجلة طبية خاصة, وهو يكاد يبكي لأن الادارة التخصصية المقرر تسلمه العمل بها في الشركة رفضت قبوله بسبب إعاقته الحركية برغم موافقة الادارة العليا علي مبدأ التعيين,

وأن قرار تعيينه مهدد بالإلغاء بسبب ذلك ويومها هدأت من روعه وتسلمت أوراقه المبللة بدموع الإحساس بالقهر والظلم ودخلت بها الي عضو مجلس الادارة الذي أعمل معه فأشر علي الأوراق بتسلمه العمل فورا حتي ولو بقي علي قوة مكتبي مؤقتا الي أن يتسلم عمله الرسمي في الادارة التخصصية التابع لها, ولا أستطيع أن أصف لكم علامات الرضا والسعادة التي هللت وجه هذا المهندس الشاب في ذلك اليوم, وكأنه لايصدق نفسه, وراح يتمتم بكلمات الدعاء والشكر لكل من ساعده في مهمته,

وتسلم الشاب عمله مع مديره الذي قبله علي مضض, ولكنه اكتشف مع مرور الأيام أنه أكثر كفاءة من بعض زملائه الأصحاء وتدرج في وظيفته حتي صار رئيسا للقسم الذي يعمل فيه متخطيا ـ عن استحقاق ـ العديد من زملائه, ومرت الأيام وشاءت الأقدار أن يصاب هذا المدير بفيروس C نشيط فأقعده عن العمل فكان أول من زاره في منزله هذا المهندس المعاق,

وبكي المدير عندما لمحه يدخل عليه وكاد يقبل يده الممدودة بالسلام قائلا سامحني لم أعلم أني ظلمتك الا عندما أصبحنا في بحر الألم سواء وبكي المهندس الشاب قائلا : مؤكد أنك لم تقصد ايذائي سامحك الله, وبعد شهور قليلة توفي هذا المدير وهو نادم علي فعلته ..

ومرت سنوات وعصفت الظروف بالشركة وانقلبت الدنيا رأسا علي عقب بسبب تصرفات بعض أعضاء مجلس الادارة والتي اعتبرتها الرقابة الادارية في ذلك الوقت تجاوزات يحاسب عليها القانون, وتعقدت الأمور وكادت تلك الأزمة تطيح بعضو مجلس الادارة الذي كنت أعمل معه لأنه لم يكن لديه من الأوراق ما يبريء ساحته, لأن أحدا لم يتخيل أن يجيء يوم كهذا فأسلم أمره للمولي عز و جل وقرر التنحي عن موقعه,

وفوجيء مسئول الرقابة الادارية بمهندس معاق يأتي بسيارة اسعاف علي نفقته الخاصة من المستشفي الذي يرقد فيه منذ شهور برغم تحذير الأطباء له من خطورة الحركة علي حياته ـ للإدلاء بشهادته ولتقديم أوراق مهمة تبريء ساحة عضو مجلس الادارة وفاء لدين قديم معلق في رقبته علي حد قوله, وعندما علمت بذلك ذهبت الي المستشفي لأشكر له وفاءه واخلاصه, فأبلغني أقرباؤه أن روحه فاضت الي بارئها بعد عودته من الرقابة الادارية بساعات قليلة وعلي وجهه ابتسامة تنطق بالرضا والوفاء.. رحمه الله وطيب ثراه..

ومنذ عامين تقريبا وفي واقعة فريدة لاتحدث الا في الأفلام وعقب وصولي الي مطار القاهرة في رحلة قادمة من كندا, اكتشفت فقد جواز سفري المصري قبل منطقة الجوازات وكنت علي وشك الإحالة الي جهاز أمن الدولة للتحقيق معي, وفوجئت بأحد موظفي الجوازات يندفع نحوي بشدة ويكاد يحتضنني بشوق زائد برغم أني لا أعرفه, وقام بجهد خارق لإنقاذي من ورطتي وقام بحملة تفتيش دقيقة كانت نتيجتها أن ظهر جواز السفر بعد أن فقدت فيه الأمل تماما..

وذهبت مندهشا الي هذا الشاب النبيل لأشكره علي جميل صنيعه ويا للمفاجأة فقد كان هو الشقيق الأصغر للمهندس الشاب الراحل والذي كان بصحبته يوم جاءني في مكتبي منذ نحو خمسة وعشرين عاما وعندما داعبته معلقا علي قوة ذاكرته قال لا ينسي الإحسان والمعاملة الطيبة الا كل ناكر للجميل لقد كان أخي رحمه الله يدعو لكم صباحا ومساء.

رائج :   من فيض القلب ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

لا عجب يا سيدي فيما ترويه فتجارب الحياة العديدة وخبرات الماضي وقصص التراث العربي قد علمتنا كلها ما سبق ان علمته للشاعر العربي حين قال:

من يفعل الخير لايعدم جوازيه
لايذهب العرف بين الله والناس!

وهذا صحيح ـ ومعناه ان من يفعل الخير لابد ان يجزي خيرا ذات يوم ان لم يكن ممن قدم اليه الخير حين يملك ان يفعل ذلك, فمن الله سبحانه وتعالي الذي يجزي كل انسان بما فعل ولا يضيع عنده العرف أي المعروف.

ولإدراكهم هذه الحقيقة فإن اهل الصلاح لاينزعجون كثيرا إذا لمسوا إنكار بعض من قدموا لهم الخير لجميلهم أو جحودهم.. ولا يستسلمون لوساوس الشيطان فيكرهون العطاء بدعوي ان معظم البشر لا وفاء لهم.. وإنما يواصلون طريقهم اعتمادا علي ان ما يضيع عند الناس لا يضيع عند الله.. وعلي ان جوائز السماء خير وأبقي.. لأنها قد تكون خيرا ظاهرا وقد تكون خيرا مستترا يحجب شرا مستطيرا وهكذا.

فضلا عن ان بعض الناس كما يقول الشاعر الاديب جبران خليل جبران:يعطون بفرح ويكون فرحهم هذا هو جائزتهم علي ما قدموا من عطاء.. وشكرا لك لإطلاعنا علي هذه القصة الجميلة.

مقالات ذات صلة