أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الأيام القليلة .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا زوجة عشت حياة هادئة‏,‏ لم تخل ككل حياة من المشاكل العادية‏..‏ وقد فقدت في بداية زواجي طفلي الأول وفرحة عمري وأول جنين يتشكل في أحشائي‏.‏ وحزنت عليه حزنا عميقا ‏..‏ ثم سلمت بإرادة الله ومضت حياتي في طريقها المرسوم ‏..‏ وحملت بعد ذلك وأنجبت طفلة‏,‏ ومرضت عقب ولادتها مباشرة بالسكر‏,‏ وكان تفسير الأطباء لمرضي المبكر به هو شدة الحزن على ابني‏,‏

إلا أن فرحتي بطفلتي طغت على مرضي فأحببتها بجماع نفسي وكرست وقتي لها ‏..‏ وأشفقت عليها من وحدتها في الحياة بلا أخ لها ولا أخت‏.‏

وشغلني مصيرها وما سيئول إليه أمرها حين نرحل أنا ووالدها عن الحياة ذات يوم‏,‏ وكان زوجي يهديء من خواطري دائما ويقول لي إننا سوف نتركها حين يأتي الأجل في رعاية الله‏,‏ وأننا إذا أحسنا تربيتها فلا خوف عليها إن شاء الله‏.‏

وهكذا مرت الأعوام إلى أن بلغت ابنتي الثامنة من عمرها‏,‏ ويئست أنا تماما بعد عدة تجارب فاشلة من إنجاب أخت أو أخ لها‏,‏ ثم فوجئت ذات يوم بأعراض الحمل تظهر علي وبالأطباء يؤكدون لي نجاحه واستمراره هذه المرة‏ ..‏ وبالفعل مضت شهوره بسلام وأنجبت طفلة ثانية فرحت لها فرحة طاغية وشعرت معها بشعور مختلف تماما عن إحساسي بابنتي الأولى‏,‏

وراقبت الطفلة الوليدة وهي تنمو ببطء حتى احتفلنا بعيد ميلادها الأول ونحن في قمة السعادة ‏..‏ وبعد عيد  ميلادها بأيام بدأت الطفلة تعاني أعراضا مرضية لم يستطع كبار الأطباء الذين عرضناها عليهم معرفة سرها‏,‏ وتكررت محاولاتي العلاج بلا جدوى‏,‏ والطفلة تتألم ‏..‏ وتذبل إلى أن نصحنا أحد الأطباء بالسعي لعلاجها في الخارج إذا كنا قادرين على ذلك‏,‏ ودبرنا تكاليف السفر إلى إنجلترا وسافرنا بابنتي ‏..‏ وصدمني الأطباء هناك صدمة قاسية بمصارحتي بحقيقة مرضها‏,‏ واضطر زوجي بعد فترة من الوقت للعودة لبلدنا‏,‏

وبقيت أنا هناك‏8‏ أشهر قضيت بعضها في المستشفي مع ابنتي للعلاج‏,‏ والبعض الآخر خارجه للمتابعة وتماسكت وأنا أرى ابنتي تذبل بين يدي من قسوة العلاج عليها‏.‏ لكي استطيع رعايتها‏.‏

وبعد انتهاء برنامج العلاج الرهيب بشرني الطبيب المعالج بأنني استطيع العودة مع ابنتي إلى بلدي بعد أن شفيت من المرض على أن أرجع كل شهر مرة للمتابعة‏,‏ وحمدت الله كثيرا على ذلك وعدت إلى بيتي وزوجي وابنتي الكبرى‏.‏ وخفق قلبي بالأمل وأنا أرى دماء العافية ترجع إلى وجه الطفلة الصغيرة ومضى الشهر سريعا ورجعت للمتابعة‏..‏

وطمأنني الطبيب على حالتها‏,‏ وبدأت أشعر بأن هذه المحنة سوف تزول نهائيا من حياتنا بإذن الله‏..‏ لكن الآلام عاودت طفلتي الحبيبة بعد أسبوعين فقط من العودة من زيارة الاطمئنان والبشرى بالشفاء‏..‏ وبدأنا رحلة العذاب من جديد ورجعت إلى الغربة‏..‏ والخوف‏..‏ والتعلق بالأمل الواهي‏..‏ وأصبح اليوم الواحد يمر علي وكأنه سنة أو أكثر‏,‏

والأطباء يهزون رءوسهم ويقولون لي في بساطة إن الحالة قد أصبحت ميئوسا‏ منها وتمسكت بالرغم من ذلك بالأمل إلى  أن جاء يوم ونصحني الطبيب بحزم بأن أرجع بطفلتي إلى بلدي لتعيش أيامها بين أهلها ومن يحبونها وانهمرت الدموع من عيني كالمطر ‏..‏

وظللت طوال رحلة الطائرة أدعو الله سرا وعلانية أن ينقذ ابنتي ويحفظها لي‏,‏ وبعد عودتي من السفر بيومين انطفأت الشمعة الصغيرة التي كانت تنير حياتي بالأمل والحب والسعادة‏,‏ وأظلمت الدنيا من حولي وأصبحت أرفض الحياة وكل شيء حولي‏,‏ وأعيش على ذكري ابنتي وأتذكر الأيام القليلة السعيدة في حياتها‏,‏ وبعد أن كنت أحب الصحبة أصبحت أريد العزلة والبعد عن الجميع‏,‏ وبعد أن كان يوم الجمعة يوما مقدسا في حياتي العائلية لابد أن نخرج فيه أنا وزوجي والبنتان لنتناول الغداء في الخارج‏,‏ أصبح موعد زيارتي لابنتي في مثواها الأخير ومن أصعب أيام حياتي‏.‏

وتحيرني أشياء أريد إجابات شافية لها‏..‏ هل كانت ابنتي التي لم تكمل الثالثة من عمرها تشعر بقرب النهاية وتريدني أن أشبع منها قبل الفراق الأبدي ؟‏..‏ هل يرى الأطفال ملاك الموت وهو يقترب منهم ؟ لقد كانت شديدة الالتصاق بي في أيامها الأخيرة‏..‏ وتريد أن أكون معها كل الوقت دون أي إنسان آخر حتى والدها أو أختها‏..‏ وتنظر إلي نظرات إشفاق غريبة كأنها تشفق علي مما سأعانيه بعد رحيلها‏..‏ فما معنى هذه العلامات ؟ وما قيمة الحياة حين نفقد أغلى ما فيها ؟

إنني لا أعرف ماذا يمكن أن تقدمه لي في هذه المحنة‏,‏ لكني أرجوك ألا تنصحني بالصبر لأنني كرهت هذه الكلمة من كثرة ما سمعتها من الناصحين ومن رجال الدين الذين أحضرهم لي زوجي‏..‏ وشكرا لك‏.‏

رائج :   الجائزة الكبرى .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏ (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :‏ 

لن أكرر عليك ما سبق أن قيل لك مرارا وتكرارا حتى ضقت به‏,‏ لكني سأقول لك فقط أنه مهما تكن مرارة الأحزان التي تكتوي بها جوانحنا فإننا مطالبون بأن نعين أنفسنا على الصمود لها واجتياز فتراتها العصيبة بأقل قدر ممكن من الخسائر النفسية والصحية‏..‏ ذلك أن مضاعفة البلاء لا تفيد أحدا‏ ..‏ وإنما تضر بنا وبمن حولنا ممن يعتمدون في حياتهم علينا ‏..‏ ومن واجبنا دائما تجاه هؤلاء الأعزاء وتجاه أنفسنا ألا ننهزم أمام آلام الحياة القاسية ‏..‏ وأن نتلمس كل السبل لترويض الأحزان‏ ..‏ ومصادقتها ‏..‏ والتواصل مع الحياة ونحن نطوي الصدور علي بصماتها‏.‏

لقد كان من تقاليد البحارة حين يلتقون بحوت كبير في البحر أن يلقوا إليه بقارب صغير فارغ لينشغل بمهاجمته عن مهاجمة السفينة الأصلية حتى لا يغرقها ‏..‏ ثم يحاولون ـ خلال انشغاله بملاطمة القارب الفارغ ـ صيده أو النجاة بسفينتهم بعيدا عنه ‏..‏ وكذلك ينبغي أن نفعل نحن أيضا مع حوت أحزاننا وهمومنا لكيلا يلتهمنا ويقضي علينا‏,‏ أن نشغله عنا ‏..‏ بالاندماج في العمل والحياة الاجتماعية والعلاقات العائلية والمجاملات الإنسانية ووسائل الترويح المشروعة عن النفس‏..‏ وبالتفكير في المستقبل ‏..‏ والعمل من أجله ‏..‏

ونتذكر حقوق الأعزاء علينا وعمق احتياجهم لنا وواجباتنا تجاههم وبالاهتمام بالأشياء الصغيرة في الحياة‏,‏ التي تصرف أذهاننا ولو للحظات عن التفكير في أحزاننا‏,‏ فالطبيعة ضد الفراغ ‏..‏ وخلو عقل الإنسان مما يشغله من الأمور الإيجابية ولو   للحظات لا يعني إلا تسلل الهموم والأحزان إليه‏,‏ والفارق بين من يعين نفسه على أحزانه‏..‏ ومن يعين أحزانه عليه هو الفارق بين من يهلع لقضاء لا راد له‏,‏ ويظل مقيما على هذا الهلع بعد فترة الصدمة الأولى وإلى ما لا نهاية‏..‏

وبين من يتصبر ويتجلد أمام القضاء حتى ولو كان قد انفطر قلبه من الحزن الصادق في البداية فيصبح كمن قال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي‏:‏
وصابر تلهج الدنيا بنكبته
تخاله من جميل الصبر ما نكبا

ولأنك لا تريدين مني أن أنصحك بالصبر ‏..‏ فلن أفعل ‏..‏ وإنما سأرجو لك الله سبحانه وتعالى أن يخفف عنك أحزانك ويعينك عليها ‏..‏ ويخرجك من دائرتها الخانقة إلي الرحاب الواسعة من حولك بإذن الله‏.‏

  • نشرت عام 2001

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || حلم

  • من أرشيف جريدة الأهرام

رائج :   قطعة الشيكولاتة الأخيرة || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

مقالات ذات صلة