أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الملابس الرثة .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

كنت أعتزم أن أكتب إليك هذه الرسالة منذ فترة طويلة‏ ..‏ وأتردد في ذلك إلي أن قرأت رسالة الفخر الجميل للشاب الذي كتب بكل الحب والاعتزاز عن أبيه المضحي من أجل أبنائه بعد وفاة أمهم ‏..‏ وحياته الخيرة العامرة بالحب للبشر والأبناء والحياة‏ ..‏ إلى أن رحل عن الدنيا راضيا مرضيا‏,‏

 فهزتني هذه الرسالة من أعماقي ودفعتني لأن أكتب إليك ‏..‏ فلقد نشأت في أسرة كبيرة العدد كثيرة الأبناء في إحدى مدن القناة‏,‏ ومنذ نعومة أظفارنا ونحن لا نجد من أبينا أنا وإخوتي سوى الوجه العبوس والتسلط في كل أمور الحياة حتى ولو كانت تافهة‏,‏ فهو‏,‏ وعفوا لما سوف أقول‏,‏ فظ غليظ القلب لم تعرف المحبة طريقا إلى نفسه حتى لأقرب البشر إليه وهم أبناؤه

 وهو أناني إلى أبعد حدود الأنانية‏,‏ بخيل في أعلى مراتب البخل والشح في كل شيء إلا على نفسه فكل ما يعنيه في الحياة هو نفسه ولا شيء سواها‏,‏ ويرى أن كل من هم حوله دونه ولا يرتقون إلى مرتبته مما جعله بلا صداقات أو معارف أو علاقات اجتماعية‏!‏؟ إذ ما سمعته يوما يذكر أحدا بخير حتى أمه رحمها الله في أثناء حياتها وبعد وفاتها لم تسلم من دعائه عليها بأن تهوي إلى قاع الجحيم‏!‏

وبفضل من الله وتوفيقه وبالرغم من هذا الجو البشع  الذي كنا نعيش فيه أنا وإخوتي فقد تمسكنا بمبادئ الدين الحنيف وجاهدنا جهادا كبيرا لكي نتعلم ونحصل على شهاداتنا وكانت تلك مشكلة كبيرة لأن كل هدفه كان بعد الحصول على الثانوية العامة أن يلحقنا بالجهة نفسها التي يعمل بها حتى نستمتع بمزايا المرتب الكبير والمسكن الإداري ولكننا تمسكنا بالتعليم أولا تمهيدا للبعد عنه وعن الجو الخانق الذي فرضه علينا جميعا‏,‏ وعندما التحقنا بالجامعات كان شرطه الوحيد هو عدم مسئوليته عن تعليمنا إذ يكفيه أن يوفر الطعام لباقي الأخوة والأخوات‏.‏

رائج :   القصة الكاملة للقومية للأسمنت .. دليلك لفهم الفشل في مصر

ولولا ظروف التهجير وإعانات التهجير التي كنا نحصل عليها من الشئون الاجتماعية لما تمكنا من استكمال تعليمنا‏.‏ وبعد انتهاء الدراسة الجامعية التحقت بالقوات المسلحة وكانت المشكلة التي تواجهني هي الإجازات الميدانية‏,‏ فكنت أمكث بالوحدة وأحل مكان زملائي الحاصلين على الإجازات لكيلا أعود إلى بيت الأسرة وبعد انتهاء التجنيد وتسلم العمل الذي ألحقت به خلال التجنيد لم يكن لوالدي من هدف إلا أن يقوم هو بتسلم راتبي الحكومي كله مقابل إعطائي مصروفا بسيطا وجاءت المصيبة التي لا تغتفر حين فكرت في أن أستقل بحياتي وأتزوج لتصبح لي أسرة صغيرة أجد فيها كل ما حرمت منه من حنان وحب‏.‏

وكانت أياما صعبة وكفاحا مريرا للاستقلال بحياتنا ولكم عانيت أنا وجميع إخوتي فمنهم من أكمل تعليمه ومنهم من لم يكمله وكان كل تفكيرنا هو أن نبتعد عنه خاصة بعد وفاة والدتنا رحمها الله اتقاء لأذاه وبالرغم من ذلك  فلقد كان يفتعل المشكلات معنا جميعا بلا استثناء سواء مع زوجاتنا أو أزواج شقيقاتنا‏,‏ ومازال من الأمور التي تسبب لنا الحرج الشديد أن يتعمد ارتداء الثياب الرثة والبالية ويظهر بها أمام أصدقائنا وأقاربنا ومعارفنا وجيراننا شاكيا من أن أبناءه يهملونه ويتركونه على هذا الحال بلا سؤال عنه علما بأننا بالرغم مما نعانيه منه لم يمر يوم دون أن يكون أحدنا عنده للسؤال عنه والاطمئنان عليه حتى أن أحد الأشقاء الذين هربوا من جحيم المعيشة معه وهاجر إلى الخارج وحصل على الجنسية وأقسم ألا يعود إلينا مرة ثانية

رائج :   الزيارة المفاجئة‏ !! .. رسالة من بريد الجمعة

وبالرغم من ذلك فإنه يتصل به دوريا للاطمئنان عليه وفي كل مناسبة يرسل إليه مبالغ مالية كبيرة وكما كبيرا من الملابس صيفا وشتاء بالرغم من أنه يتقاضى معاشا كبيرا وله رصيد كبير في البنك‏,‏ وكانت آخر هدايا أبي لنا أن افتعل عدة مشكلات معنا ومع زوجاتنا وأزواج شقيقاتنا ثم طلب منا عدم زيارته أو الاتصال به لأن كل ما يشغله حاليا هو أن يقطع علاقته بنا لكي يتفرغ للزواج بالرغم من أنه قد تخطي العقد السابع من العمر‏,‏ فضلا عن أنه لم يترك أحدا نعرفه أو يعرفنا إلا ورمانا أمامه بالعقوق ودعا علينا بكل المصائب أن تحط علينا وألا يبارك الله لنا في شيء‏.‏
فهل نحن عاقون حقا إذا قاطعناه وتجنبنا شروره؟‏!..‏ إنني وإخوتي جميعا نتوجه إليك لكي نجد إجابة لسؤالنا‏.‏


ولكاتب هذه الرسالة أقول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) ‏:‏

لكل غرس حصاد‏ ..‏ ومن لم يزرع بذور الحب والعطاء  لأبنائه في الصغر ليس من حقه أن يشكو حصد الجفاء في الكبر‏..‏ كما أن الوحدة دائما هي عقاب الإنسان الكاره للبشر المنحصر في ذاته العاجز عن العطاء للغير وأولهم الأعزاء‏..‏ لكن ماذا نفعل في الالتزام الديني والأخلاقي الذي يطالبنا بإحسان صحبة مثل هذا الأب مهما بلغ من بشاعته وعقوقه هو لأبنائه صغارا وكبارا؟

إنه التزام لا مفر منه‏..‏ وإنما نحن نؤديه اتقاء غضب الخالق العظيم وطلبا لرضائه قبل أي شيء آخر‏..‏ وبالتالي فإن مقاطعتك أنت وإخوتك لأبيكم توقعكم في دائرة الإثم رغما عنكم‏,‏ وحتى لو لم يكن والدكم قد قدم لكم من قبل ما يستحق معه بركم به والأكرم والأرعي لحدود الله هو أن تتجنبوا مقاطعته مهما ابتزكم ماديا وإنسانيا‏,‏ وأن تؤدوا إليه حقه عليكم تجنبا للومه‏ ..‏ وكفا لأذاه عنكم وبعدا بأنفسكم عن مظنة العقوق والجحود وتفاديا لسوء السمعة بين معارفكم‏,‏

رائج :   انكسار القشرة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

و مع تسليم الجميع بظلمه لكم في الماضي والحاضر‏,‏ فإذا كنتم قد نجحتم بالرغم من الجو الخانق الذي فرضه عليكم في النجاة بحياتكم ومبادئكم وأخلاقياتكم من التأثر بقيمه الفاسدة وأنانيته وكراهيته للبشر وحققتم نجاحكم في الحياة‏,‏ فإن من شكر النعمة أيضا أن تصدعوا بما أمركم به ربكم من إحسان صحبته والصبر على أذاه‏,‏ وأن تبذلوا كل جهدكم لتفادي أشواكه وحصر أضراره المعنوية عليكم في أضيق دائرة ممكنة‏,‏

وهناك دائما فارق كبير بين عطاء الحب الذي يشعر صاحبه بالفرح الداخلي وهو يقدمه لمن يستحقه‏,‏ وعطاء الواجب الذي لا يشعر صاحبه وهو يقدمه إلا بأنه قد خلاه ذم على حد التعبير  البلاغي القديم أي بأنه قد تجنب بهذا العطاء أن يكون موضعا للذم ممن يتقبل العطاء أو من الآخرين الذين سيسعي هو للإساءة إلي سمعته بينهم‏.‏ وغني عن البيان أن عطاء الحب غامر ويفيض عن حاجة المعطي إليه‏..‏ وعطاء الواجب محدود بالقدر الذي يسد الذرائع ويتقي به صاحبه اللوم‏.‏

فصلوا أباكم بالرغم من كل شيء‏,‏ ليس طلبا لحبه أو رضاه عنكم لأنه لن يرضى إلى أن ينزل إلى ما تحت الثرى وإنما عمل بقول الشاعر‏:‏

ومن لم يتق الشتم‏..‏ يشتم‏!‏

والأمر لله من قبل ومن بعد‏!‏

نشرت عام 2001

من أرشيف جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة