أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الاتجاه المعاكس .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة في الثلاثين من عمري من عائلة محترمة وأبي رحل عن الحياة وشقيقاتي كلهن متزوجات وحياتهن هادئة‏,‏ وقد حصلت على مؤهل متوسط ولم أعمل‏,‏ وأنا جميلة ورشيقة وطيبة وحنون ومتسامحة‏..‏ بل وضعيفة الشخصية كما يقول عني أهلي وأهل زوجي على السواء‏,‏ فأنا زوجة وأم لطفل عمره‏ 9‏ سنوات وزوجي يعمل موظفا حكوميا بمدينة من مدن الأقاليم‏..‏

وأقيم في شقة في منزل أسرة زوجي ‏..‏ ومنذ اليوم الأول لزواجي قبل عشر سنوات وأنا قنوعة وراضية بحياتي وأحترم زوجي وأسرتي من الكبير إلى الصغير‏,‏ وأقوم بالأعمال المنزلية لشقتي وللبيت الكبير الذي يضم أهل زوجي طوال النهار والليل‏,‏ وأم زوجي في غاية الشدة معي وتعاملني أنا وطفلي أبشع معاملة في الوقت الذي تحنو فيه علي بناتها المتزوجات حين يرجعن للإقامة عندها بالأسابيع هن وأبناؤهن‏,‏ ومع ذلك فأنا لا أشكو وأقوم بخدمتهن وخدمة زوجي وطفلي وأعمال منزلي‏ ..‏

ولو اعتذرت عن أي عمل لمرض أو تعب ألم بي تتهمني أم زوجي بادعاء المرض وينفجر في زوجي بأبشع السباب ويضربني إرضاء لأمه‏,‏ ناهيك عن أخت له تفتعل دائما المشاكل معي وتهينني وتضرب ابني ضربا قاسيا لشقاوته‏,‏ وتدس لي عند زوجي وتشحنه ضدي‏,‏ وأنا لا حول لي ولا قوة ولم أحاول طوال السنين الماضية الاحتكاك بها أو الرد  عليها‏,‏

ولقد شحنت زوجي ضدي ذات يوم وأنا حامل في طفلي الثاني في الشهر الثامن فكانت النتيجة أن ضربني ودفعني على السلم فتدهورت عليه وحدث لي نزيف بشع ومات الجنين في أحشائي‏,‏ ونقلت للمستشفي وتم إجراء عملية قيصرية لي لإخراج الجنين كدت أهلك خلالها واحتجت إلى كمية كبيرة من الدم ولم تكن فصيلتي متوافرة‏,‏ لكن أهلي تجمعوا وسارعوا بالتبرع لي بالدم وسألوني عما أصابني فتكتمت الأمر‏,‏ وسترت على زوجي وزعمت لهم أنني أصبت بنزيف مفاجئ لا أعرف له سببا‏.‏

واحتجت بعد ذلك إلي فترة طويلة لكي أسترد صحتي البدنية والنفسية‏,‏ ولم تمض شهور بعد ذلك إلا وكانت نفس هذه الأخت قد شحنته ضدي من جديد فضربني ضربا مبرحا لمدة ثلاث ساعات متصلة دون أن تتدخل أمه أو أخته لمنعه‏,‏ وأصبت من جديد بنزيف وبصدمة عصبية‏,‏ وتوقفت الغدة الدرقية عن الإفراز‏,‏ وانقطعت عني بعد ذلك الدورة الشهرية قبل أن أبلغ الثلاثين من عمري‏,

‏ وأرسلني زوجي إلى أهلي دون ابني‏,‏ وأصبت بإغماء في الشارع قبل أن أصل إليهم‏,‏ ورآني أهلي وأنا في حالة إعياء شديدة‏,‏ وجسدي متورم فاصطحبوني إلى المستشفى وتم عمل محضر اعتداء لزوجي بالتقارير الطبية‏,‏ وأحيلت القضية للنيابة‏..‏ وبعد ثلاثة أشهر تم الصلح بينه وبين أهلي وقبلت بالعودة إليه من أجل ابني الذي حرمت منه هذه الفترة وتنازلت عن الشكوى ضده‏,‏

رائج :   قصة التلميذ الذي لم تكن تحبه معلمته

وتصورت أن حياتي سوف تستقر بعد كل هذه المصائب التي عانيتها وسأحيا أيامي في هدوء‏,‏ فإذا بزوجي بعد قليل يفكر جديا  في الزواج من أخرى لأنه يريد الإنجاب ثانية‏,‏ حيث لم أحمل من جديد بعد توقف إفراز الغدة النخامية‏,‏ وانقطاع الدورة‏,‏ وبحجة أن طفلي قد بدأت تظهر عليه أعراض ضمور العضلات وهو يريد لنفسه أطفالا أصحاء‏..‏ ولهذا فهو يرفض علاجي مما أصبت به والإنجاب مني‏!‏

وليس ذلك فحسب بل إنه يريدني أن أقبل بزواجه في نفس الشقة التي نقيم فيها وأحيا معه ومع زوجته الجديدة في مكان واحد وأخدمه وأرعى طفلي وأقوم بشئون البيت‏,‏ وهنا كان الأمر قد فاض بي‏..‏ ولم يعد في صبري واحتمالي أي مزيد وغادرت بيت الزوجية إلى بيت أهلي‏,‏ وجاء هو ليطلب مني العودة من أجل ابني والقبول بزواجه فرفضت أن أعود إلا إذا تراجع عن زواجه الجديد‏,‏ وصمم هو عليه وقال لي إن زواجه أمر لابد منه ولكنه يريدني في نفس الوقت ولا يستطيع الاستغناء عني‏,‏ وأنه يمكن لي أن أبقى زوجته وأقيم في بيت أهلي ويتردد هو علي من حين لآخر ومعه طفلي لأراه‏..‏

ولقد أصبح ابني الآن في حالة سيئة ويبكي كثيرا ويطلب مني ألا أتركه‏,‏ كما بات منطويا وحزينا‏,‏ فهل من العدل أن أحرم منه على هذا النحو ولهذا السبب‏,‏ وهل تقبل لي أو لغيري مثل هذا الوضع يا سيدي‏..‏ وهل ترضى لي أن أحيا مع ضرة في شقتي وأكون خادمة لها ولزوجي من أجل ابني‏..‏ أم هل تنصحني بالانفصال عنه فلا أرى ابني‏..‏ ولا أرعاه عن قرب‏.‏؟‏!‏
إنني أرجو ألا تبخل علي بنصيحتك التي ستتوقف عليها حياتي‏.‏

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

من قواعد الدراما قاعدة تقتضي أنه إذا بلغ الكاتب في تصاعد الأحداث ذروة التأزم فإن اتجاه الأحداث بعد ذلك لابد أن يتخذ طريق الانفراج والحل إلى أن يصل إلى نهاية القصة‏,‏ فإذا أخطأ الكاتب بعد بلوغ هذه الذروة وأضاف فاجعة جديدة أو أزمة أخرى اعتبر ذلك عيبا خطيرا يضعف من أثر القصة ويشتت ذهن القارئ أو المشاهد‏..

‏ وأطلق النقاد على هذه الفاجعة الزائدة تعبيرا غريبا هو عكس الاتجاه‏,‏ لأنه جاء في اتجاه التصعيد بدلا من أن يمضي على منحنى الانفراج وحل العقدة‏.‏ وزوجك يا سيدتي قد انتهك قواعد الدراما التي حددها الفيلسوف أرسطو بعنف في قصتك معه مرتين وليس مرة واحدة‏,‏ ولندع جانبا الآن الحديث عن قواعد المعاملة الإنسانية ونواهي الدين وأوامره والمبادئ الأخلاقية والإنسانية‏,‏ فأما الانتهاك الأول فلقد حدث حين بلغ الذروة الدرامية في إساءة معاملتك وامتهان كرامتك وإيذائك بدنيا ونفسيا‏,

‏ بضربك ودفعك بوحشية على السلم وأنت حامل في شهرك الثامن‏,‏ فقتل جنينك في أحشائك وعرض حياتك للخطر‏,‏ وبدلا من أن يعتبر بما قاده إليه الحمق والتهور ويقدر لك تسترك على جريمته البشعة وحرصك على حمايته وتمسكك به بالرغم من ذلك‏..‏ ويبدأ في التكفير عن جريمته وبإحسان عشرتك وإزالة آثار هذه الجناية عن معنوياتك ومشاعرك‏,‏

إذا به بعد قليل يضيف إلى ما بعد الذروة فاجعة أخرى ويضربك مرة أخرى ضربا وحشيا ينجم عنه توقف الغدة الدرقية عن الإفراز وانقطاع الدورة الشهرية وحرمانك من القدرة على الإنجاب بل ويطردك من بيته أيضا‏,‏ وبدلا من أن يقدر لك تسامحك معه بعد كل هذه الأهوال وتنازلك عن الشكوى القضائية ضده وعودتك إليه وقبولك بعشرته بالرغم من كل ذلك‏,‏ فإذا به يواصل انتهاكه لكل القواعد الدرامية والأخلاقية‏,‏ والإنسانية‏.‏

ويخرج عليك ــ عكس الاتجاه ــ مرة ثانية ــ بما هو أشد وطأة عليك وأنكى‏,‏ فيسعى لإرغامك علي القبول بالحياة مع زوجة جديدة له في حياة مشتركة وتحت سقف واحد‏..‏ وإلا كان العقاب الوحشي لك هو الحرمان من طفلك‏.‏

فأي بشاعة‏..‏ وأي تجبر‏..‏ وأي بعد عن كل ما يقضي به الحق والعدل والدين؟‏!‏

وأي ذل وأي هوان‏..‏ وأي امتهان للكرامة الإنسانية إن أنت قبلت بذلك بعد كل ما تجرعت من مهانة وإيذاء وإذلال عبر السنين‏.‏

إننا ننصح دائما بالتسامح والصبر على الظروف القاسية والتجاوز عن الصغائر‏..‏ بل وبالشرب في بعض الأحيان علي القذى طلبا لاستقرار حياة الأبناء الصغار وإعلاء لمصلحتهم علي الاعتبارات الشخصية‏,‏ لكنه حتى هذا الحرص الحميد على صالح الأبناء والتضحية النبيلة من أجلهم لها حدودها الدنيا التي لا ينبغي للإنسان أن ينزل عنها وإلا رضي لنفسه بالامتهان والإذلال إلي ما لا نهاية‏.‏

وفي الحياة مواقف لا ينبغي أن يراعي فيها أي اعتبار مهما علا قدره إلا اعتبار الكرامة الإنسانية والعدل مع النفس واحترام الذات والضن بها علي الهوان‏.‏

وأنت يا سيدتي قد تأخرت كثيرا عن مواجهة هذا الموقف الذي لا مجال فيه لأي اعتبار سوى اعتبار العدل الإنساني‏..‏ فكان أحرى بك أن تواجهيه ببعض هذا التماسك الذي تبدينه الآن حين وأد زوجك طفلك في شهره الثامن داخل أحشائك‏..‏ ثم كان أحرى بك أكثر وأكثر أن تواجهيه حين ضربك بوحشية فأصابك بعاهة مستديمة وقضي عليك بالحرمان من الإنجاب مرة أخري‏,‏ فإن عجبت لشئ في قصتك هذه وما أكثر ما يثير العجب فيها‏..‏ فلأن قدرتك على اتخاد هذا الموقف المتأخر للغاية وعلى التماسك بعض الشئ أمام زوجك لم تظهر إلا حين رغب في الزواج من أخرى وإرغامك على العيش معها‏,‏ فكأنما تقولين لنا بذلك إن المرأة قد تحتمل أحيانا الأذى البدني والمعنوي وتصبر عليه أو تكظم غيظها بشأنه من أجل أبنائها لكنها لا تطيق الحياة ولا تقبل بها مهما يكن الثمن مع زوجة أخرى لزوجها تحت سقف واحد‏!‏

وهي مفارقة تستحق التأمل بالفعل وتكشف لنا بعض ما لا نعرفه عن أسرار النفس البشرية‏.‏

فتمسكي بموقفك للنهاية ولا تتنازلي عن مطلبك العادل بأن يكتفي بك زوجك بعد كل ما تحملت من سوء عشرته‏..‏ وتجاوزت عنه وبأن يحسن معاملتك ويبذل كل غال ورخيص لعلاجك من أصابك هو به من عجز عن الإنجاب‏,‏ أو يسرحك بإحسان ويعوضك عن كل ما نالك منه من أذى وأضرار وألا يحرمك من حضانتك لطفلك حتى يبلغ السن التي ينتقل فيها لرعايته‏ ..‏ مع استمرار الصلة الإنسانية بينك وبينه في كل الظروف والأحوال‏,‏ فإذا كان قلبك ينفطر لبعد طفلك عنك فلسوف يدفع زوجك ثمن ذلك غاليا‏..‏ مصداقا لقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه فيما معناه‏:‏ من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة‏.‏

ولئن يعاني طفلك الآن مرارة التمزق بين أبويه‏,‏ أهون عليه برغم قسوتها من أن يرى أمه ذليلة مهانة كالرقيق المملوك لصاحبه وتخدم كرها زوجة أبيه‏..‏ وتكتم أحقادها ومراراتها‏,‏ فتهتز كل القيم لديه‏..‏ ويتسمم وجدانه بالمشاعر السلبية الكريهة طوال حياته‏.‏

أما زوجك المتجبر فإنه يذكرني بما قاله شكسبير العظيم في مسرحية يوليوس قيصر على لسان إحدى شخصياتها‏:‏

لو لم يكن أهل روما وعولا لما أصبح قيصر أسدا

فلا يغتررن إذن بجبروته المزيف‏..‏ بما صنع هذا الوهم لديه سوى استسلام زوجته وتسامحها الزائد إلى حد التفريط في الكرامة الإنسانية ولسوف يختبر قوته الموهومة هذه حين يرتبط بزوجة أخرى لا تعرف المسالمة ولا التفريط‏..‏ وإنما تؤمن بقاعدة العين بالعين والسن بالسن‏..‏ ولابد أن تكون مثل هذه الزوجة التي ستضعها الأقدار في طريقه هي عقابه في الدنيا عن جرائمه تلك‏,‏ فضلا عن عقابه الأعظم في الآخرة يوم يكون الحساب‏.‏

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 2001

مقالات ذات صلة