بعد إعلان روسيا و فرنسا و إنجلترا الدخول فى الحرب يقابلهم النمسا – المجر و ألمانيا و تجهيز الجيوش كان الهم الأكبر للنمسا – المجر هو تأديب صربيا و بالتالى تجميع أغلب قوام جيشها فى جبهتها تاركة جزء صغير فى الجبهة الشمالية لمساعدة ألمانيا التى واجهت الآن حرباً على جبهتين الشرقية مع روسيا و الغربية مع فرنسا و لكن النمسا – المجر اختارت بإرادتها التوجه جنوباً تجاه صربيا ..
( النمسا و المجر ) حاولت إثارة الفزع و الرعب قدر المستطاع فى نفوس الصرب الذين كان سلاحهم الأول حرب العصابات فأصبح المدنيون يهاجمونهم من مناطق لم يستعدوا جيداً لها فما كان الرد إلا أنهم زادوا معدل القسوة الذى يتعاملون به مع الصرب فصار الهجوم ضد المدنين و حدثت فظائع فى حق الرجال و النساء و الشيوخ و الأطفال ..
أصبحت المشانق المنصوبة فى كل مكان مظهر عادى .. جثث تصل لمئة و أكثر مفصولة العنق .. جثث مشوهة .. لم يسلم منهم أحد و صارت حصيلة القتلى فى أول شهور الحرب 4000 قتيل و أكثر و لكن كان الرد الصربى قاسى لأنه مع أول مواجهة مباشرة بين الجيش الصربى و الجيش النمساوى إستدرجوهم إلى منطقة لطالما كانوا يتدربون عليها بسلاح المدفعية و فجأة دون سابق إنذار إنهالت عليهم ضربات المدفعية الصربية مما كبد الجيش النمساوى المجرى خسائر بالجملة على مستوى الأفراد و الأسلحة الثقيلة مما جعل فكرة أن الحرب الصربية ستكون نزهة فكرة خرافية و تأكد لدى الجميع أنها ستكون حرباً طويلة و مرهقة و مكلفة حتى للطرف الفائز فيها ..
على الطرف الأخر كانت ألمانيا بجيش تعداده 3.8 مليون مقاتل تواجه خطر الحرب على جبهتين فاختارت كبداية تقليم أظافر فرنسا غرباً و لكن المواجهه المباشرة معها قد تكبد الجيش خسائر كبيرة مع عدم التكهن بالمدى الزمنى للحرب فإختارت ألمانيا تطويق الجيش الفرنسى عن طريق الهجوم على بلجيكا ذات الدفاعات الأضعف و كانت البداية هى تدمير حصن لونكين البلجيكى .. بلجيكا كانت أقل عدداً و أقل عتاداً و أقل حداثة من ألمانيا و كانت تضع كل ثقتها فى الحصون الخرسانية المدججة بمدافع كروب الألمانية الصنع ..
فى المقابل ألمانيا كانت قوية بحق .. 40 عاماً بلا حروب .. إزدهار إقتصادى كبير و ثورة صناعية فى غرب البلاد .. أسلحة جديدة و حديثة .. و فى الوقت التى وضعت بلجيكا ثقتها فى حصونها الخرسانية لحمايتها من مدافع الألمان كانت ألمانيا تحضر معها مدفعها الجديد بيرثا الكبرى .. مدفع يجر على جزئين عن طريق 36 حصاناً تهتز الأرض تحت أرجل الجنود حين يمر أمامهم .. وحش آلى لم تصمد معه حصون بلجيكا كلها و ليس حصن لونكين فقط ..
بدا مع الوقت أن الجبهة الغربية قد أخترقت من الجيش الألمانى و إن لم تتحرك إنجلترا الآن لدعم بلجيكا و من وراءها فرنسا لوجد البريطانيين الجيش الألمانى يلهو فى ساحات و ميادين لندن و على الفور تحركت قوة مؤلفة من 100 ألف جندى بريطانى حتى وصلت إلى مدينة مونز البلجيكية و الذين ما إن وصلوا إليها حتى باغتهم الجيش الألمانى و حاصر أكثر من 70,000 جندى منهم و هاجمهم بقوة تصل إلى 300 ألف جندى ألمانى و معه تم تدمير القوة البريطانية بصورة شبه تامة و حدث معه إنسحاب ملحمى لقوات الحلفاء واجتاحت ألمانيا مونز و تقدمت حتى حدود باريس و معها نزح أكثر من مليون شخص إلى الجنوب تجاه بوردو و هو ما كان يمثل ثلث عدد سكان العاصمة وقتها ..
الوضع الحالى يشير إلى إجتياح ألمانيا لباريس و إذا اجتاحت باريس فلن يصمد أمامها أى منطقة أخرى ..
التقدم الألمانى كان سريعاً متأثراً بالانتصارات الأخيرة و ظن القادة الألمان أن إجتياح فرنسا مسألة وقت ما عدا رئيس الأركان هيلموت فون مولتك الذى رأى أن الإجتياح الألمانى كان أسرع مما يتوقعه أحد و أنه رغم أن شمال فرنسا كله تقريباً أصبح تحت سيطرتهم إلا أنهم لم يأسروا جنوداً أو يستحوذوا على أى آليات عسكرية للفرنسيين و لا حتى البريطانيين .. فأين ذهبت ؟
التقدم الكبير تسبب فى بعد الجيش الألمانى عن نقاط إمداده و أصبح بهذا الشكل أن القوات الألمانية يجب عليها الإنتصار فى المعركة القادمة بالعدد الموجود و بسرعة أيضاً لإن لو طال أمد المعركة حينها تكون قوات الحلفاء أكثر و خطوط إمدادهم أقرب و لم يكن يعتقد أى قائد ألمانى أنه كان يتم التجهيز لمعركة فاصلة جمعت لها فرنسا أغلب قواتها .. معركة مارن ..
على مشارف باريس و أثناء تقدم الألمان ظهرت ثغرة بين الجيش الأول و الثانى الألمانى و هو ما استغلته القوات البريطانية و وضعت نفسها بينهم مما عزل الجيشين عن بعضهم ..
بدأت المعركة يوم 5 سبتمبر 1914 و على إمتداد 300 ميل شارك فى المعركة 7 جيوش ألمانية فرعية أمام 9 جيوش فرنسية فرعية بالإضافة إلى الحملة البريطانية فى فرنسا بالإضافة إلى جنود متطوعون من باريس .. حفرت الخنادق و تمركز الجنود .. أطلقت المدافع .. هدمت البيوت .. جثث بالآلاف ..
خُيل للبعض أن الوضع سيستمر للأبد فلا يظهر فى الأفق بوادر إنتصار لأحد الطرفين .. الجنود الفرنسيين أظهروا بسالة غير طبيعية بحكم أنها بلدهم و أن إنتصار ألمانيا فى تلك المعركة قد يفنيهم عن بكرة أبيهم ..
مع إمتداد المعركة على تلك المساحة و مع تمركز الجنود فى الخنادق فكان لابد من عنصر تفوق لأحد الجانبين و مع بطء الإمدادات للجيش الألمانى لبعد المسافة كان الجانب الفرنسى هو المستفيد من ذلك العنصر .. المراقبة الجوية ..
الطائرات و المناطيد الفرنسية كانت الأقرب لجبهة القتال و بالتالى كانت الأسرع فى تنفيذ هجماتها التى آذت الجيش الألمانى بشدة و مع تدهور حالته المعنوية بالأساس لأن بمقاييس ذلك الزمن كان دفاع الجنود عن أنفسهم أمام ذلك الطائر المتوحش ضرباً من ضروب الخيال ..
إنهارت دفاعات الألمان نسبياً مع إنهيار حالتهم المعنوية و معها و فى 8 سبتمبر 1914 أمر الكونت كارل فون بلوف قائد الجيش الثانى قواته بالانسحاب و بعده بيوم أمر الكونت فون كلوك قائد الجيش الأول قواته بالانسحاب أيضا ثم تبعهم باقى قادة الخمس جيوش المتبقية و إبتداءاً من يوم 12 سبتمبر 1914 كانت كل الجيوش الألمانية خلف نهر آين و معها إنتهت معركة مارن بخسائر تقدر بنصف مليون جندى مناصفة بين الطرفين ..
بعد إنتهاء معركة مارن تم التأكد من طول فترة الحرب و أن ألمانيا يجب عليها أن تسخر كل مواردها للإستعداد لتلك الفترة الطويلة .. و بقدوم شهر نوفمبر تراجع الجيش للمناطق الأعلى و تم حفر الخنادق على امتداد 500 ميل من القنال الإنجليزى و حتى سويسرا و معها صارت بلجيكا و شمال و شرق فرنسا تحت الإحتلال الألمانى حرفياً و بالتبعية 11 مليون مواطن بلجيكى و فرنسى و مثله مثل أى إحتلال قام الجيش الألمانى بفظائع يذكرها له التاريخ ..
- نهبوا الثروات المعدنية لبلجيكا و فرنسا و شحنوها كاملة إلى ألمانيا ..
- جاء الأمر من القيادة بالعيش على حساب الأرض المحتلة ..
- أخذوا الأطعمة المخزنة من قبل الشعب ..
- هدموا المنازل و الكنائس على سبيل اللعب ..
- سرقوا المحاصيل الزراعية .. الملابس .. قش المزارع .. لم يتركوا شيئاً ..
- صادروا كل الأسلحة ..
- طالبوا بإتاوة ربع مليون فرنك ذهبى ..
- نهبوا الثروة الحيوانية ..
- نهبوا أقبية المنازل و ما فيها من خمور ..
- خربوا البنية التحتية عامدين ..
- جمعوا آلاف من الشعبين للعمل بالسخرة ..
- أخذوا أسرى من الشعب ضماناً لعدم إظهارهم أى نوع من المقاومة ..
كل هذا و أكثر تم فعله ببلجيكا و فرنسا على أيدي الألمان .. ألمانيا بالتأكيد فقدت أكبر فرصة أتيحت لهم لغزو الجبهة الغربية و لم تسنح لهم فرصة أخرى طوال الحرب لفعلها مجدداً .. الآن على الأقل أمنت تلك الجبهة و أخذت فرصة لإلتقاط الأنفاس و عليها الآن الإلتفات للجبهة الشرقية و أيضاً الضغط على بريطانيا لضمان عدم مشاركتها بكامل قوتها فى الجبهة الغربية ..
كيف تجعل إمبراطورية كبيرة مترامية الأطراف كإنجلترا من أن تهاجمك بكامل ثقلها من جبهة واحدة ؟!
لم تكن الإجابة أوضح من ذلك .. هاجم مستعمراتها بالخارج و شتت تفكيرها و اجعلها توزع قواتها على تلك المستعمرات و بالتالى يخف ضغطها عليك فى جبهتك الرئيسية .. ألمانيا كانت متقدمة بحق .. قوية بحق .. جيشها كبير بحق .. و لكن هل نجحت فى تنفيذ مخططها ؟!!