تاريخ

الحرب العالمية الأولى .. الجزء الرابع || ألمانيا

ألمانيا التى لم تكن تعلم أن حرب الإمبراطورية النمساوية المجرية على صربيا ستتحول إلى حرب عالمية و أن موافقتها على تلك الحرب كان بسبب رغبتها فى إثبات وجودها كعنصر مؤثر و فاعل فى السياسة الدولية جاء قرارها متسرعاً و بدون دراسة متأنية للوضع و مع الوقت وجدت أنها تقريباً تحارب وحدها لإن ( النمسا – المجر ) منشغلة تماماً بمعاركها مع صربيا بالإضافة لأنها تدريجياً تتهاوى و بات واضحاً أن تلك الحرب ستغير كثيراً من موازين القوى فى العالم .. لو عاد الزمن للوراء لرفض القيصر الألمانى مساندة ( النمسا – المجر ) .. لقد كان قراراً خاطئاً و لا شك ..

العداء كان تاريخياً بين ألمانيا و روسيا .. الصراع على مناطق النفوذ كان كبيراً .. الصراع على الأقليات التى تتبع كل دولة كان كبيراً أيضاً .. الأوكران و الكروات و الليتوان و حتى اليهود كانوا مجرد ذريعة لزيادة التوترات بين البلدين .. و مع دخول ألمانيا كطرف مساعد للنمسا و المجر لم تجد روسيا أى صعوبة فى إعلان قرار الحرب على النمسا و ألمانيا و هم ألد أعدائها على مر التاريخ ..

روسيا أيضاً كانت فى وضع لا تحسد عليه .. فهى تشترك فى حدود طويلة جداً مع البلدين و يجب عليها الأخذ بزمام المبادرة و إلا هوجمت من قبلهما و هو ما قد يصيبها بخسائر فادحة قد لا تستطيع تعويضها .. و عليه قامت فى 17 أغسطس 1914 بعبور الحدود الألمانية لأول مرة و بعدها مباشرة عبروا الحدود المجرية و حاصروا مدينة بريزميشيل المحصنة ..

حصار قاتل إمتد لـ 6 شهور مع إطلاق قذائف بشكل شبه يومى عليها .. نتيجة لذلك كان يموت داخل المدينة كل يوم 300 قتيل إما بفعل القنابل و إما بفعل الجوع .. أرادت روسيا تلك المدينة بشدة و بالفعل إستطاعت دخول المدينة بلا قتال تقريباً .. أسباب ذلك الدخول السهل كان خفياً قبل الإقتحام و لكنه صار أوضح بكثير بعده ..

الإمبراطورية النمساوية المجرية كانت مريضة هى الأخرى و قد تكون أكثر مرضاً من الإمبراطورية العثمانية .. عدم الولاء كان السبب الأبرز فى إحتلال الروس للمدينة بسهولة فقوات النمسا المجر كانت تتألف من عرقيات و قوميات مختلفة و يكفى أن تعرف أن الأوامر اليومية كانت تتلى بـ 15 لغة مختلفة ..

رائج :   الحرب العالمية الأولى .. الجزء السادس || التفكك الداخلى

تلك القوميات كانت ترى نفسها مظلومة و أن إمبراطوريتهم لا تعاملهم بالعدل و هو نفس السبب الذى أوغل صدر جافريلو برينسب و قاده لقتل ولى عهد الإمبراطورية معلناً بداية تلك الحرب ..

الإقتحام السهل للقوات الروسية جعل ألمانيا تشعر بالخطر فقد تنهار المجر و بالتالى تصبح ألمانيا محبوسة من ثلاث جهات خصوصاً و أن بعدها بفترة قصيرة ستنضم إيطاليا و رومانيا إلى قوات الحلفاء و بالتالى فخسارتها للحرب ستكون مؤكده .. و بناءاً عليه نقلت ألمانيا 8 فرق كانت متمركزة فى الجبهة الغربية إلى الجبهة الشرقية الضعيفة نسبياً ..

الآن ألمانيا و النمسا يقاتلون سوياً مكونين جيشاً من 300 ألف جندى بروح معنوية عالية لطرد الروس من أماكنهم و أيضاً إقتحام أراضيهم و بالفعل نجحوا فى ذلك مع إستخدام تقنية تكنولوجية تم إستخدامها لأول مرة فى قرية بوليموف فى بولندا نقطة تماسهم مع الروس غاز الكلورين و بهذا تم تسجيل أول حالة هجوم كيميائى فى التاريخ .. مع الوقت ظهر جلياً أن ألمانيا لم تكن مجرد دولة قوية ساندت إمبراطورية شبه منهارة .. بل ظهر جلياً أن ألمانيا تحارب وحدها تقريباً ..

فى الوقت التى كانت قوات الحلفاء تحصل على حلفاء جدد لم تقف ألمانيا و النمسا – المجر مكتوفة الأيدى فبالإضافة للإمبراطورية العثمانية فقد تحالفوا مع بلغاريا .. بلغاريا التى كان لها دور فعال فى الهجوم على صربيا العدو الأول للإمبراطورية النمساوية المجرية ..

فى 6 أكتوبر 1915 تم غزو صربيا عن طريق قوة مشتركة نمساوية و ألمانية من الشمال و فى نفس التوقيت تم غزوها من الشرق عن طريق بلغاريا و بلا شك أدى ذلك الهجوم إلى السيطرة على العاصمة خلال يومين .. مع ذلك الإقتحام لم يعد أمام الجيش إلا القتال للنهاية أو الإستسلام .. إستمرت المناوشات حتى يوم 24 نوفمبر 1915 حين أعلن الجيش و الحكومة بياناً مشتركاً يرفضون فيه التعامل مع العدو و الإنسحاب غرباً نحو ألبانيا ..

بمقاييس ذلك الزمن فإنسحاب دولة بأكملها لدولة أخرى سيراً على الأقدام عن طريق سلسلة جبال وعرة دون تجهيز جيد و بدون ترتيب بالإضافة لضعف الإمكانيات العلاجية كان بلا أدنى شك ينذر بكارثة .. كارثة لم تقل بأى حال من الأحوال عن كارثة تهجير الأرمن عن طريق الجيش العثمانى ..

رائج :   الجندي تشارلز دومري و اكلي لحوم البشر

حاول أن تتخيل ذلك المشهد المأساوى .. رجال و نساء و شيوخ و أطفال يسقطون الواحد تلو الأخر إما من الجوع أو من المرض يبيتون الليل فى جو غاية فى البرودة يعانون من صعوبة التضاريس سواء فى السير أو النوم .. قوة الجيش الصربى كانت حوالى 400 ألف جندى وصل منهم حوالى 200 ألف فقط و غير معلوم عدد المدنيين الذين توفوا ..

استمر إنسحاب القوات الصربية و حاولوا تنظيم أنفسهم و واجهوا القوات النمساوية فى معركة موجكوفاك لكنهم أدركوا أنهم إذا إستمروا فى القتال سيتم إبادتهم بالكامل فقرروا التراجع تحت غطاء من قوات مملكة الجبل الأسود التى تحالفت معهم ..

القوات الألمانية و النمساوية كانت أقوى بكثير من قوات الجبل الأسود و الصرب الذين كانوا فى مرحلة إنسحاب تاريخية و كنتيجة طبيعية إجتاحت القوات النمساوية مملكة الجبل الأسود و إنتهت بهذا معركة صربيا خصوصاً بعدما تم إجلاء باقى الجنود الصرب عن طريق سفن إلى اليونان و تم تقسيم صربيا بين الإمبراطورية النمساوية المجرية و بلغاريا .. نهاية تعتبر سعيده لهم و خير إنتقام لموت ولى العهد النمساوى فرانز فيرديناند ..

الوضع فى الشرق مطمن و مبشر و الوضع فى الجنوب ممتاز مع إكتساب حليف جديد .. المؤشرات تبدو جيدة و الحرب تسير فى إتجاهنا .. ماذا بقى لدينا لتأكيد السيطرة .. الجبهة الغربية.. بعد حفر الخنادق بطول 500 ميل من القنال الإنجليزى و حتى سويسرا بقى الوضع شبه جامد لا يتخلله سوى بعض المعارك التى لا يمكن القول أنها ستحسم دفة الصراع و بقى الأمر على ذلك الوضع لشهور ..

ألمانيا مرة أخرى .. كم كانت عظيمة ألمانيا فى تلك الحرب .. مبادرة دائماً بالهجوم .. و تعين حلفائها فى حالة تراجعهم بل و تنجح فى ذلك أيضاً .. حتى تلك اللحظة كانت أكبر الفائزين على الأرض داخل أوروبا .. كانت تريد و بشكل ملح أن تحسم ذلك الوضع الراكد .. كانت تريد إحتلال باريس .. ألمانيا درست جيداً عن طريق طائراتها الإستطلاعية خطوط عدوها المباشر الآن فرنسا و رأت أن أقل المناطق عدة و عتاد كانت منطقة فيردان و عليه حسم القادة الألمان أمرهم و جهزوا الجنود و المدافع و الذخائر للإقتحام ..

فى 21 فبراير 1916 إنطلق أكثر من 100 ألف جندى ألمانى لكسر حاجز خنادق الفرنسيين فى منطقة فيردان تظلهم الطائرات الألمانية و على الأرض تشكيلة هائلة من المدافع و على رأسها مدفع بيرثا الكبرى .. أكثر من مليون قذيفة مدفعية تم إطلاقها على الجانب الفرنسى فى ذلك اليوم .. عنصر المفاجأة كان موجود ففيردان كانت آمنة تماماً .. أسوار عالية .. 19 حصن عسكرى محميين بشكل جيد .. لكن النقص الحاد كان فى العنصر البشرى .. فيردان لم تكن تملك عدد الجنود الذى يستطيع رد هجوم كاسح مثل ذلك ..

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (٦) : الخطة “فجر” الموءودة في الفجر

بعد ذلك الهجوم المدفعى و الجوى لم تكتفى ألمانيا بذلك فكانت ترسل وحدة كاملة من الجنود كانت تسمى وحدة_العاصفة يحمل طليعتها سلاح أستخدم لأول مرة ليحصدوا به أرواح من بقى على قيد الحياة و لم يفر من مكانه .. قاذف اللهب .. و خلال ثلاثة أيام فقط سيطر الألمان على أكبر حصون فيردان حصن داومونت ..

ألمانيا لو كانت تملك حلفاء أقوياء لكانت تمرح فى ساحات باريس خلال شهر واحد من إقتحام حصن داومونت و لكن بكل أسف أساءت إختيار حلفاؤها فمع خسائر و تراجع حلفائها فى مواقعهم المنوط بهم حمايتها كانت تضطر إلى سحب فرق كاملة وصلت إلى 8 فرق مرة واحدة كما فى حالة هجوم روسيا على الإمبراطورية النمساوية و بالتالى نقص الأفراد على الجبهة الغربية .. فى المقابل كان هناك تناغم فى آداء الحلفاء فمع تقدم الألمان فى فيردان قامت باقى الحلفاء بتشتيت قوى الألمان فى مناطق أخرى و بالتالى تقليل قدرتها على إمداد الجبهة الغربية بالعدد الكافى لإستمرار القتال ..

ما حدث أن ألمانيا أصيبت بالتشتت و خطوط إمدادها أصبحت أبعد .. و الإمداد نفسه أقل .. فى المقابل صار ثلاثة أرباع الجيش الفرنسى يدافع عن فيردان و المؤن و العدة و العتاد تصل فردان من كل مناطق فرنسا بشكل يومى و على مدار الساعة .. النتيجة كانت تراجع ألمانيا عن فيردان و رجوعها إلى نقاط تمركزها مرة أخرى .. خسروا تقدمهم الذى أحرزوه و لكن بعد تكبيد فرنسا أكثر من 300 ألف قتيل و بالمقابل هم خسروا عدداً يقترب من نفس الرقم .. خسائر بشرية ما كانت لتتحملها ألمانيا وحدها خصوصاً أنها تحارب فى كافة الجبهات تقريباً .. فهل ستستطيع الإستمرار ؟

Related Articles