أجمل رسائل بريد الجمعة

الطفل المشاغب ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

قرأت رسالة ( السؤال الصامت ) للشاب الذي أصيبت خطيبته في حادث تصادم بشع نتج عنه إصابتها بشلل نصفي ، والذي يشكو من ضغط بعض من يهمهم أمره عليه لكي ينسحب من حياتها بعد الحادث ورفضه لذلك ومناشدته من مر بتجربة مشابهة من القراء أن يكتب له عن تجربته .

وأنا أريد أن أروي له تجربتي مع هذه المحنة .. فأنا سيدة أبلغ من العمر 27 عاماً تزوجت منذ خمسة أعوام وأنا طالبة بالسنة النهائية بكلية عملية ، من مهندس شاب علي خلق كريم وبدأنا حياتنا الزوجية سعيدين متحابين ولم تمض فترة قصيرة حتى دب جنين الحب في أحشائي .. وعرفت أنني حامل وسعدت بذلك كثيراً .

وبعد ستة أشهر من الزواج جاءت شقيقتي الصغيرة المخطوبة ذات يوم لتزورني في مسكن الزوجية وبعد انتهاء الزيارة قررت أن أعود معها إلي بيت أسرتي لزيارتها ، وفي الطريق تعرضت السيارة التي نركبها لحادث مؤلم ولم نشعر بأنفسنا إلا وكل منا طريحة الفراش في حجرة واحدة بأحد المستشفيات الحكومية ، وفتحت عيني فكان أول ما رأيت هو وجه زوجي الحبيب والدموع تنهال من عينيه تألماً لما أصابني ، وعرفت أنني قد أصبت بكسور مضاعفة في الفخذين والساقين والحوض .. وأنني أكثر من ذلك قد فقدت جنيني الذي كنت أستعد لإستقباله بعد شهور قليلة، وتلفت حولي فرأيت أختي ترقد في السرير المجاور لي وقد أصيبت هي أيضاً بكسر في ساقيها وقطع في أوتار يدها .

وبعد قليل تم نقل كل منا في سيارة إسعاف مختلفة إلى مستشفي خاص لإجراء الجراحات المتعددة التي قررها الأطباء ودخلت غرفة العمليات فأمضيت بها ست ساعات كاملة قضتها أسرتي وزوجي في أسوأ حال وهم يشهدون خروجي من الغرفة لتدخلها بعدي مباشرة أختي ويتواصل القلق والألم إلي النهاية.
وانتهت الجراحات وما تلاها من معاناة قاسية .. وبعد شهر طويل غادرنا معا المستشفي محمولتين على نقالتين إلي بيت أسرتي لقضاء فترة النقاهة فيه.

وفي بيت الأسرة رقدت طريحة الفراش عاجزة عن تحريك نصفي الأسفل وسيدات الأسرة يقمن بمساعدتي في تناول طعامي وشرابي وفي رفعي لقضاء حاجتي في السرير .. وزوجي يصر على أن يتحمل العبء الأكبر في كل ذلك وبالذات في مساعدتي علي شئوني الخاصة والابتسامة لا تفارق وجهه ويجلس إلى جوار فراشي ساعات طويلة يخفف عني ببشاشته ما أصابني .. ورغم ذلك فلقد كان نفس التساؤل الذي راود فتاة كاتب رسالة ” السؤال الصامت ” وهو : هل يتخلى عنها فتاها بعد أن أصبحت قعيدة ..

يراودني أيضاً في تلك الفترات وتخذلني شجاعتي وتمنعني من أن أنطق به ، وحين واتتني الجرأة على أن أوجهه إليه سبقتني دموعي وأنا أسأله نفس السؤال .. فأجابني بالدمع الغزير .. وهو يطالبني بالصمت وعدم الإشارة مرة أخرى إلى الفراق لأنه يحبني وسوف أشفى بإذن الله .. ونواصل مسيرتنا معاً في الحياة كما أرادها لنا الله حين اختار كلا منا للآخر .. فكانت كلماته دواء لي .. وبعد ثلاثة شهور من مغادرتنا للمستشفي وقفت أختي على قدميها بفضل الله وعادت إلى مواصلة حياتها بطريقة طبيعية..

رائج :   صورة تذكارية .. رسالة من بريد الجمعة

أما أنا فلقد انتظرت الشفاء ستة شهور أخرى وحين استطعت الجلوس لأول مرة لم أستطع الوقوف أو المشي ، فبدأت أستخدم المقعد المتحرك . وعند ذلك طلب زوجي أن نعود إلى شقتنا لنستأنف حياتنا في عشنا الصغير ، وعارضت أمي ذلك بشدة ، إذ كيف سأستطيع القيام بالواجبات المنزلية وأنا فوق كرسي متحرك؟؟

لكن زوجي أصر علي عودتنا وأكد لها أننا سنستطيع بحبنا وتعاوننا معاً أن نواصل حياتنا كما كانت ، وعدت بالفعل إلي شقتي الحبيبة بعد سبعة شهور ونصف الشهر من مغادرتي لها مع شقيقتي ذلك اليوم، ورجعت إليها علي مقعد متحرك بدلاً من أن أدخلها على قدمي وفوق ذراعي وليدي ، وقلبي مثقل بالهموم والأماني المؤودة ناهيك عن أثار العمليات الجراحية في نصفي الأسفل ، لكن زوجي كان سعيداً بعودتي لبيتي ..

وتصرف معي منذ اليوم الأول بطريقة طبيعية ووجدت فيه الزوج والأب والصديق ، وبدأنا على الفور نواجه ظروفنا الجديدة فكان يساعدني في طهي الطعام ويحمله عني إلى المائدة ويساعدني في ترتيب الشقة وكي الملابس وأقوم بغسل الملابس ويقوم هو بنشرها وجمعها ، وكل ذلك والابتسامة لا تفارق وجهه وبلا أي لمحة تذمر أو ضيق أو كلمة جارحة لمشاعري ..

وكلما غمرني بحبه وعطفه شعرت بالألم له وأحسست بالذنب تجاهه.. ويتزايد إحساسي بذلك في بعض الأحيان فتنتابني حالة ضيق وحزن على حالي فأطلب منه الطلاق وأنصحه أن يبحث له عن فتاة أخرى توفر له الحياة الطبيعية فيصرخ في وجهي مستنكراً ذلك ومؤكداً لي حبه ، ثم ينظر إلي نظرته العاتبة ويسألني السؤال الذي كنت أقف أمامه دائماً عاجزة وهو : ماذا لو كنت أنا ضحية هذا الحادث .. هل كنت ستتخلين عني ؟؟وقبل أن أجيبه بشيء يقول لي باسماً : أنك قدري في الحياة والتسليم بالقضاء والقدر من أركان الإيمان فهل تشككين في إيماني ؟؟؟

وأسمع ذلك وأري نظرته العاتبة فيرق قلبي وأزداد حباً وإكباراً وإحتراماً له إلى أن أضعف مرة أخري فأكرر عليه الطلب ويتكرر الرد.

وبدأ العام الدراسي الجديد وكنت قد أجلت امتحاني النهائي بعد وقوع الحادث ، فطلب مني زوجي أن أتكيف مع ظروفي الجديدة وأعود إلي كليتي لمواصلة الدراسة واستجبت لرغبته فاتفق مع سيارة ربع نقل لكي تحملني وتحمل المقعد المتحرك معي إلي الكلية

وأصبح ينزل معي في الصباح كل يوم فيحملني من الكرسي المتحرك إلي المقعد الأمامي للسيارة بجوار السائق ثم يضع الكرسي فوق ظهر العربة ويجلس إلي جواري ونذهب للكلية ، وهناك ينزل المقعد من السيارة ويحملني لأجلس عليه ثم يسلمني لزملائي بالكلية الذين استقبلوني بحفاوة واهتمام جزاهم الله عني كل خير ، وينصرف زوجي إلي عمله فأصبح مسئولية زملائي منذ هذه اللحظة وينتقلون بي من مدرج إلي مدرج إلي المعامل ويوفرون لي احتياجاتي إلى أن يعود زوجي بعد انتهاء محاضراتي ومعاملي ويتسلمني منهم شاكراً ..

رائج :   الحل الصعب ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

ونعود إلي بيتنا فيساعدني في طهي الطعام وإعداده ونقل المحاضرات ويهيء لي الجو الملائم للاستذكار وظل مواظباً على ذلك طوال العام الدراسي حتى جاء الامتحان ونجحت وحصلت علي البكالوريوس بتقدير جيد ، وكانت فرحتنا معاً بنجاحي هائلة ، لأنه لم يكن مجرد نجاح في الدراسة فقط وإنما في قبول الواقع والتكيف معه ، كما كان أيضاً نجاحاً لحبنا وتعاوننا معاً في مواجهة أعباء الحياة .

ثم تهيأت لي بعد ذلك الظروف للسفر إلى الخارج لإجراء جراحة في ساقي على أمل أن أستعيد قدرتي على المشي والحركة وسافرت مع زوجي فوق المقعد المتحرك وأجريت الجراحة الدقيقة التي توقف عليها أخر أمل لي في استعادة حركتي ، ونجحت الجراحة والحمد لله وعدت من سفري وأنا أتأبط ذراع زوجي بيد وأستند بالأخرى على عصا تعينني على السير ، ولم أستعد رغم ذلك حركتي كاملة ، فقد كنت أعاني من مشقة بالغة في السير ومن بطء في الحركة لكنه يكفيني أنني قد تخلصت من المقعد المتحرك بعد هذا العناء ..

وعدنا إلي عشنا ونحن أكثر ارتباطا وتمسكاً بحياتنا الجميلة معاً .. وأنعم علي ربي بالحمل والإنجاب وعوضني عن جنيني الأول الذي فقدته بطفل جميل مشاغب ولقد أصبح عمر هذا الطفل الآن عامين ونصف العام ، ومازالت مشيتي غير سوية ومازلت أحس بالتعب والإرهاق من أقل مشوار أقوم به، ومازال زوجي الحبيب يقوم بمساعدتي في أعمال البيت وتربية الطفل شاكراً ربه علي ما أنعم علينا ، وكلما مرت بي سحابة ضيق بظروفي أعانني زوجي على اجتيازها بحبه وكرم أخلاقه ، وأخلاق أسرته الطيبة التي لم تقصر تجاهي في شيء ، ولم تجرح كرامتي أو مشاعري بكلمة واحدة أو إشارة بل تحبني وتدعو لي بالشفاء الكامل ، وهذا من فضل ربي ونعمته أيضاً.

وأقولها لك صريحة يا سيدي .. أنه لولا وقوف زوجي إلي جواري في محنتي هذه ووجودي في حياتي لحدث شرخ لا يلتئم في شخصيتي ولتدهورت صحتي النفسية وسكنت المرارة في أعماقي حتى النهاية.

ولقد أدركت هذه الحقيقة من تكيفي الآن تماماً مع وضعي الجديد ومن تخلصي من أية حساسية تجاهه وتقبلي لأي نقد أو تعليق بصدر رحب وبطريقة طبيعية .. ففي أحيان كثيرة يقوم طفلي ” الشقي ” أمام زوجي أو أسرته أو أسرتي بتقليد مشيتي غير السوية وهو يقول: ماما تمشي هكذا .. فأداعبه ضاحكة شاكرة ربي على عطائه لي وكرمه معي ..

أما شقيقتي الصغرى فقد تم عقد قرانها على نفس خطيبها الذي تمسك بها هو وأسرته منذ وقع الحادث ، وهي تستعد الآن للزفاف والحمد لله.

وقد أردت أن أروي تجربتي هذه لكاتب رسالة السؤال الصامت ليستفيد بها ولأضم صوتي إلى صوتك في مطالبتك له في ردك بأن يعطي نفسه فرصة كافية لاختبار مشاعره تجاه خطيبته قبل أن يتخذ قراره وسوف يكون قراره في صالح الارتباط بها وعدم التخلي عنها وأبشره بأن الله سبحانه وتعالي لن يتخلي عنهما وسيوفر له من السعادة والهناء ما لن يجده مع سواها بإذن الله.

رائج :   الحياة السعيدة .. رسالة ن بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

قد يكون للسعادة الزوجية ألف سبب وسبب .. لكن المؤكد أنه ليس من بينها كمال الأجسام أو تمام مواصفاتها الجسدية .. بل أن جمال المرأة نفسه ليس سبباً فاعلاً من أسبابها ذلك أنه مسألة نسبية ويبقى جمال النفس والروح دائماً هو العنصر الأهم ولأبقي ..

والشاعر الفيلسوف الهندي طاغور يقول : أن المرأة الحقيقية تستطيع أن تخلق الجمال في قلب الرجل ولو لم تكن جميلة ، وأحسب أن الرجل الحقيقي يستطيع أن يفعل نفس الشيء في قلب المرأة ولو لم يكن وسيماً أو ثرياً أو مرموقاً والجمال في القلب هو بالضبط هذه الحالة الوجدانية التي تتملك الإنسان تجاه من يحب وتتوافق معه روحه ويحس إحساساً صادقاً أنه من بين كل البشر الذين يدبون فوق الأرض يتمنى أن يمضي رحلة الحياة إلى جواره وليس على استعداد لأن يتخلى عنه إذا اعترضت طريقهما محنة مؤلمة أو عاصفة مدمرة.

والحب الحقيقي يا سيدتي كالزمن كفيل بمداواة الجراح وتهوين الآلام واختبارات الحياة القاسية قد تفصم الروابط بين من تجمعهم المصلحة أو مجرد الجوار في حياة مشتركة لا دور للحب فيها ، لكنها تقرب بين من يجمعهم الحب الصادق والفطرة السليمة.

والفيلسوف الألماني نيتشه كان يقول : إن العواصف التي تعجز عن اقتلاعي إنما تزيدني قوة .

وكذلك الحال مع الحب الحقيقي فكل ما يعترضه من عواصف الحياة ولا يقضي عليه إنما يزيده قوة وعمقاً وتوهجاً كما تصقل النار المعدن النفيس وتزيده لمعاناً فلا عجب إذن في أن تزيدكما المحنة تماسكاً.. واكتشافا لسجايا الآخر ومزاياه .. ولقد تصرف معك زوجك كما ينبغي للإنسان نبيل المشاعر سليم الوجدان أن يفعل مع شريكة حياته في مثل هذه الظروف وسؤاله الذي كنت تقفين أمامه عاجزة سؤال منطقي يهجس دائماً لأصحاب القلوب الحكيمة في الظروف المماثلة ويهديهم إلي التصرف الصحيح مع شركاء الحياة.

وتقديرك لما فعل معك وإقرارك بأنه لولا وجوده في حياتك لكان الشرخ غائراً حتى الأعماق في نفسك ووجدانك ، هو أكبر جائزة يستحقها هذا الزوج الوفي المخلص ، لأنها جائزة العرفان من قلب محب وهي شهادة لك أيضاً بأنك من أصحاب النفوس السوية المبرأة من مركبات النقص والجحود، وإنك ممن يعرفن أن كتمان الشكر جحود وكفر ، لأن من أثني فقد شكر ومن كتم فقد كفر كما جاء في مضمون الحديث الشريف ، تماما كما أن التسليم بالقضاء والقدر خيره وشره من كمال الإيمان ، وأنتي لا تكتمين الشكر بل تجهرين به وبعرفان شديد وحب صادق يؤكد أن كلا منكما يستحق الآخر ويكمله .. ولم يكن يسعد إلا في جواره.

إنني أشكرك على رسالتك الجميلة هذه يا سيدتي .. وأتمنى لك ولمن تحبين حياة سعيدة مثمرة بالخير والعطاء .. وأرجو أن يستفيد كاتب رسالة السؤال الصامت بتجربتك الإنسانية الغنية هذه وأن يتفهم مغزاها.

مقالات ذات صلة