أجمل رسائل بريد الجمعة

القــرار ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أريد أن أروي لك قصتي رغم غرابة بعض فصولها لعلها تساهم في إطلاع قرائك على وجه آخر من وجوه خبرة الحياة الثمينة .

فأنا الابنة الوسطى لأب مهندس يملك عمارة كبيرة في أحد أحياء القاهرة وأرضاً زراعية في محافظة قربيه منها , وكنا ثلاث شقيقات على قدر كبير من الجمال نشأنا في رعاية أب يعرف حدود ربه ويرعاها وأم طيبة , تكاتفا على تربيتنا حتى تخرجنا في كليات مرموقة فتخرجت أختي الكبرى مهندسة وتخرجت أنا طبيبة ودرست أختي الصغرى في كلية العلوم , ثم تزوجت أختي الكبرى وأقام لها أبي زفافها في أحد الفنادق الكبرى وسعدت بحياتها , فلم تمض بضعة شهور على زواجها حتى مرض أبي مرضاً عارضاَ ورقد في فراشه بضعة أيام ثم تحسنت صحته بعد قليل فاستبشرنا خيراً .

لكن صحونا ذات صباح ففوجئنا به يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أيدينا وليس في الشقة سواي وأمي وأختي فانطلقت صرخاتنا وعويلنا يشق الجدران , ولم ندر ماذا نفعل فإذا ببضعة رجال يطرقون باب الشقة بعنف وأفتح لهم بلا وعي فيندفعون للداخل وهم يتساءلون بانزعاج عما حدث , وأدركنا بصعوبة أنهم موظفون بشركة القطاع العام التي تحتل شقتين في عمارتنا بالدور الأسفل …

فواصلنا الصراخ والبكاء وأدركوا الموقف على الفور فدخل احدهم إلى غرفة نوم أبي فستره بالغطاء وفتح مصحفاً إلى جواره وراح يتلو من آيات الذكر الحكيم وقام آخر على الفور برفع قطع الأثاث من الصالة استعداداً لوضع مقاعد المعزين .. وطلب ثالث نوتة التليفونات الخاصة بنا وجلس بجوار التليفون يتصل بكل من فيها ويبلغه بالخبر المؤلم وخرج رابع إلى مكتب الصحة لاستخراج شهادة الوفاة وذهب خامس إلى المدافن لإعداد اللازم وغادر سادس الشقة للاتفاق مع متعهد الفراشة لإقامة السرادق وإحضار الكراسي للصالة ونحن في ذهول ولا ندري ماذا كنا سنفعل لو لم ينقذنا هؤلاء الرجال . وطوال هذه الساعات الكئيبة كان الموظف الذي دثر أبي بالغطاء يخرج من غرفة النوم من حين لآخر ليطمئن على الإجراءات ثم يعود ليواصل القراءة في المصحف .

ولازمنا هؤلاء الأشخاص الكرماء حتى انتهت كل المراسم الحزينة وعدنا من المدفن إلى البيت بعد الظهر وفي المساء أقيم السرادق وحضروا جميعاً إليه وبعد انتهاء العزاء صعدوا إلينا ليطمئنوا على أحوالنا ثم نزلوا للشارع واشتروا لنا خبزاً وجبناً وزبادي لكي نتناول العشاء بعد أن أمضينا اليوم كله بغير طعام .. وتحايلوا علينا لنتناول بعض اللقيمات بدعوى إننا لابد أن نأكل شيئاً يسيراً من الطعام لكي نستطيع أن نستقبل المعزيات في الصباح .

وبعد يومين خف زحام المعزيات فصعد إلينا الموظف الذي غطى جثمان أبي ليعرض علينا كشف حساب نفقات المراسم والعزاء , وكنت في يوم الوفاة قد أخرجت من الدولاب مبلغاً كبيراً لم أعده في ذهولي وأعطيته له ليتولى الإنفاق منه فأحصاه أمامي وسجله على ورقة ثم عرض حسابه بالتفصيل فكان أقل كثيراً مما توقعنا …وأعاد لنا باقي المبلغ وكان أكثر من نصفه .. فشكرته أمي كثيراً على ما فعل هو وزملاؤه فاحمر وجهه خجلاً وانصرف . ومضت الأيام والأسابيع والشهور وواجهنا الحياة بعد غياب أبي للأبد لأول مرة ..

رائج :   العتاب المر ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وبدأت أمي تتعامل مع مزارعي الأرض وسكان العمارة وفي كل يوم تحتاج إلى القيام بإجراء إداري أو استخراج أرواق إلخ … وانفض السامر من حولنا بعد بضعة شهور فقلت زيارات الأقارب وأصبحنا ثلاث نساء في شقة بلا رجل يحمينا .. نمضي معظم ليالينا وحيدات بعد عودتي من عملي وعدوة شقيقتي الصغرى من كليتها …وتخيم على أمسياتنا الكآبة وظلال زي الحداد الأسود الذي نرتديه .

وذات ليلة كنت جالسة مع أمي نتسامر فترحمت على أبي الذي كان يقوم عنها بكل هذه الأعباء إلى جانب عمله الأساسي ويحجب عنا كل المتاعب …ثم تساءلت في مرارة ماذا نفعل في هذه الأعباء بعد غيابه ؟ فوجدتني أجيبها بأن أفضل من يصلح لأداء هذه المهام عنه بأمانة هو فلان أي ذلك الموظف الذي وقف بجوارنا في أيام الوفاة وتولى الإنفاق على الإجراءات .

وأيدتني أمي في رأيي لكنها تساءلت عن كيفية ذلك ونحن لا نملك تكليفه بها .. فوجدت نفسي أجيبها ولا اعرف كيف فعلت ذلك بهذا الجواب : أتزوجه .. فيقوم عنا بكل شيء ويكون رجلنا الذي يحمينا ويدافع عنا خلال انشغال زوج شقيقتي بأعماله التجارية . وفوجئت أمي بالفكرة لكنها لم تنزعج لها .. بل راحت تفكر فيها بهدوء ثم بعد أيام تحرت عنه فعرفنا أنه يحمل مؤهلاً متوسطاً ومن أسرة متوسطة الحال .. وتخوفت أمي من ألا يناسبني بسبب ذلك لكني طمأنتها إلى أني قد ارتحت إليه وإلى رجولته من الأيام الأولى وأني لا أعير مسألة المؤهل اهتماماً كبيراً ..

ولم تضيَّع أمي وقتاً طويلاً بعد ذلك فقد طلبت مقابلة مدير الشركة التي يعمل بها وسألته عنه فزكاه له وشهد له بالرجولة والأمانة وبأنه مثقف وواسع الأفق . وبعد أيام استدعته أمي إلى شقتنا .. وبواقعية شديدة عرضت عليه أن يتزوجني ! فاحمر وجه الرجل خجلاً وتساءل مذهولاً وأين أنا منها وهي طبيبة وأنا موظف بمؤهل متوسط ولست ثرياً .. بل وأساعد أبي في تربية إخوتي ولن يتوفر لي ما أفكر في الزواج به من مال إلا بعد زواج شقيقاتي …و …و …! فلم أطق صبراً وكنت أتسمع حديثه فخرجت إليه وقلت له أمام أمي إنني لا أريد منك شيئاً سوى دبلة الزواج لأني رأيت فيك رجلاً أستطيع أن أعتمد عليه وأن يحميني ولا يهمني أي شيء آخر ..ففقد القدرة على النطق تماماً وردد عينيه بيني وبين أمي غير مصدق وأمي تؤكد له ما قلته حتى تمالك نفسه ووافق .

وتحدد موعد لقراءة الفاتحة .. وأبلغت أمي أختي وزوجها وأقاربنا ..فوافقوا على مضض ولم يستطع احدهم أن يفتح فمه بكلمة اعتراض واحدة بعد أن تركونا نواجه الحياة وحدنا طوال السنة الماضية .. وجاء خطيبي مع أسرته وأقاربه وقدم لي خاتم زواج جميلاً وأعطته أمي خِفية سواراً ليقدمه لي أمام الأسرتين ففعل محرجاً , وبعد شهور أخرى تم توفير الشقة بمساعدة أمي وأصر على أن يشتري غرفة النوم وقدمت أنا باقي الأثاث .

رائج :   صائد الأحلام .. رسالة من بريد الجمعة

وتم عقد قراني في شقة أمي في ليلة جميلة وسعيدة وتزوجنا ووجدت فيه نفس الرجل الذي تخيلته حين فكرت في الارتباط به رجلاً تنطق ملامحه وتصرفاته مع الجميع بالرجولة والشهامة ومراعاة حدود الله . ومضى العام الأول من زواجنا فحمل عن أمي كل أعباء حياتها وحياتنا معها وأنجبت طفلة جميلة , ثم طفلاً آخر , وأثبتت الأيام أن معدنه أصيل لا يتغير .. وكسب احترام كل أهلي وثقتهم وأصبح مستشارهم الأول في المسائل المالية والإدارية ويتطوع لخدمتهم قبل أن يطالبوه بذلك ,

وتخرجت أختي الصغرى وعملت وتقدم لها شاب ففوضته أمي في كل شيء فنهض بالمهمة بالأمانة المعهودة فيه كأنما يزوج شقيقته …وادخله زوج شقيقتي في أعماله التجارية من الباطن لثقته فيه فقام بعمله معه بإخلاص …ومازال يحثني على أداء الفرائض ..حتى انتظمت فيها وكنت من قبل أؤديها بغير انتظام ثم راح يلفت نظري برقة إلى مظهري ويتمنى لو تحجبت مؤكداً لي أنه إنما يفعل ذلك رعاية لصالحي قبل كل شيء حتى وجدتني ذات يوم أرتدي الحجاب عن اقتناع وأفاجئه به كما فاجأته ذات يوم بخروجي إليه لأحثه على أن يتزوجني بلا خجل !

ومازال بأمي يؤدي لها أعمالها بأمانة ويدفع إيرادها بالحق وبعدم التفريط في حقوقنا حتى ضاعفه خلال سنوات قليلة …ومازال يطالبها بأن تؤدي فريضة الحج قبل أن يسرقها الزمن حتى اقتنعت فأجرى لها الإجراءات في سرعة البرق وضمن لها راحتها وأدت الفريضة وعادت منذ عامين ثم أقنع زوج شقيقتي الكبرى واديا معاً الفريضة في العام الماضي . وقد مضى على زواجنا الآن سبع سنوات وحصلت خلالها على الماجستير وترقى هو في عمله وقد بلغت الثالثة والثلاثين وبلغ هو الأربعين …

وأنا ازداد كل يوم اقتناعاً بأني قد اخترت الاختيار الصحيح وأحسنت إلى نفسي حين لم أخجل من أن اقترح على أمي أن تسعى لتزويجي من هذا الرجل حتى ولو كان خروجاً على المألوف إذ ماذا يضيرني في أن أكون أنا التي سعيت للزواج منه بغير أن أتعدى حدود الله أو أرتكب حراماً ؟ إنني أرى أن زوجي يستحق مني ألا أخفي هذه الحقيقة بل وأن أفخر بها ..فهل تتفق معي في ذلك …

ثم أقول لكل فتاة إن السعادة الزوجية لا تعني أن تخلو الحياة من المشاكل نهائياً …لأنه لا توجد حياة بلا مشاكل .. لكن السعادة هي أن يكون علاجنا لهذه المشاكل في إطار الحب واحترام كل طرف لمشاعر الطرف الآخر ودليلي على ذلك هو أن حياتنا أيضاً واجهت بعض المشاكل كنظرة الأهل لزوجي في البداية وقد فرضت عليهم جميعاً احترامه …وتكفلت شخصيته هو بعد ذلك وتدينه بدون تزمت في اكتساب هذه الاحترام …كما أن لدينا مشكلة أخرى لم تحل بعد هي أنه مصر على ألا يستقيل من وظيفته الصغيرة ليتفرغ للعمل التجاري مع زوج شقيقتي مع أنه يحقق منه دخلاً أكبر من مرتبه ولو تفرغ لحقق أضعافه لكني أقول رأيي وأترك له القرار في النهاية …والسلام .

رائج :   الوتر المقطوع ! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

كل ما يحقق سعادة الإنسان العادلة المشروعة ولا يتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية لا غبار عليه إذا توسل به الإنسان للوصول إليها …

بل إنه في بعض الأحيان يكون النكوص عن التماس هذه الوسائل المشروعة تقصيراً في حق النفس قد يلام عليه المرء …وقد يفقد جدارته بالسعادة وفرصته العادلة لنيلها والحق أني دهشت قليلاً لجرأتك في طريقتك ” الواقعية ” لاختيار شريك الحياة …ولطريقتك الأكثر جرأة في مساعدتك لهذا الشريك على التغلب على تردده حين برزت إليه من وراء ستار لتضعي أمامه النقط فوق الحروف بلا مواربة , لكني رغم ذلك لا أنكر عليك حقك فيما فعلت بل لعلك لو لم تفعلي لما تغلب على هواجسه بشأن وضعك ووضعه , ولما استشعر جدارته بأن يكون شريكاً أميناً لحياتك .

ولاشك أنه جدير بهذا الاختيار ولقد أثبتت تجربة السنين جدارته وأكدتها ..وأثبتت لك صدق رؤيتك الثاقبة لمعادن الرجال لأننا لا نتعاشر بالشهادات والألقاب ولا نسعد بهما …وإنما نسعد بمن يأوي إليه القلب ويجد لديه ما يتمناه من مشاعر دافئة وفهم وتعاطف وحسن معاشرة ومساندة معنوية تعينه على مواجهة أنواء الحياة .

لقد كسبت الاختيار لأنك أدركت جوهر القضية وهي أن السعادة إنما يصنعها البشر القادرون على خلقها وعلى استشعارها ونجح زوجك في الاختيار وكسب احترام أهلك لأن قيمه الدينية والخلقية ورجولته وشهامته وأمانته قد رشحته لنيل الاحترام والقبول .

ولعل ما ساعده على ذلك رغم التفاوت في المؤهل والمستوى المادي هو سعة افقه وثقافته وطيب معشره وطيب منبته العائلي رغم التفاوت المادي , أما تمسكه بوظيفته الصغيرة فإنه يكشف عن رغبته في ألا يكون اعتماده النهائي في حياته على أسرتك , ولعله مع الأيام يزداد ثقة في جدارته بكل خير …ويختار الوقت المناسب لكي يستغنى فيه عن هذا العمل حين يرى ذلك مناسباً فلا تتعجليه في ذلك ولا تعارضيه إذا تمسك به للنهاية .

أما وسيلتك في الاختيار فلا شك أنها أفضل كثيراً من السلوكيات الملتوية التي تجري في الخفاء ولا تتم تحت أنظار الأهل ويكفيك شرفاً أنها كانت نفس الوسيلة الشريفة التي اختارت بها السيدة خديجة شريكها الصادق الأمين فأرسلت إليه من يذكرها عنده …أما تقييمي النهائي للتجربة بعد ذلك فهو أن قوانين الحياة أولى بالإتباع في الأحوال العادية فإن فرضت الضرورة حالات لا تخضع لهذه القوانين وحققت النجاح والاستمرار فإننا لا نملك إزاءها إلا أن نطبق عليها المبدأ الفقهي المعروف الذي يقول : يبقى الشاذ من الفتيا كما هو ولا يقاس عليه !
وشكراً لك على رسالتك الجميلة .


لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …

مقالات ذات صلة