من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا شاب في السادسة والعشرين من عمري أعاني مشكلة تؤرقني بشدة, وكم رغبت في الكتابة إليك عنها لألتمس منك النصح والإرشاد, ولكنني كنت أتكاسل أو أجبن, إلى أن قرأت رسالة الأبواب المغلقة للفتاة التي أغلقت قلبها دون أبيها لتركه لها بعد طلاقه من أمها دون أن يتحمل أي مسئولية عن تربيتها إلى أن أصبحت تبخل عليه الآن حتى بمشاعر الكراهية, وتتمنى موته لتستريح من تأنيب الضمير لها بسبب مشاعرها العدائية تجاه أبيها,
ووسط هذه الظروف كان أبي وأمي يعملان في الغربة على فترتين صباحية ومسائية, وأنا وأخي محبوسان دائما لا نخرج إلا للمدرسة أو في أوقات قليلة مع أبي وأمي للتسوق, وطبعا كل ما كان يهم أبي هو إطعامنا فقط أما المشاعر والصداقة فهي الرفاهية بعينها, فلا مزاح ولا ضحك وإنما هم وغم وسخرية لا أول لها ولا آخر,
فمزاحه معنا هو سخريته منا وانتقاصه لنا, وكم حاولت معه أمي أن يعدل من طباعه ويجعلها أكثر لينا ولكن دون فائدة, فلا رأي يعلو رأيه كبرا لأن الجميع من وجهة نظره لا خبرة لهم بالحياة ولا يفقهون شيئا, وفي هذا الجو المشحون بالقسوة والغرور أصبحت أقسو أنا بدوري على أخي الصغير رغم حبي له, ولم تكن تسنح لي فرصة للشجار معه إلا وأذقته ما أذاقني أبي من الضرب والإهانة.
وحين كنت طفلا أبيت كل ليلة باكيا بعد أن يقسو علي أبي, كنت أستيقظ في اليوم التالي وأقابل أبي ببراءة الأطفال وقد نسيت قسوته علي وشدته معي وربما ضحكت في وجهه ببراءة وهكذا استمرت سياسة الضرب من أبي والصفح والنسيان مني لسنوات حتى بدأت نفسي تتغير تدريجيا تجاهه وبدأت أحمل له في داخلي بذور الكراهية خصوصا بعد أن بدأت تتشكل ملامح شخصيتي وهي الجبن والخوف والانطواء وعدم القدرة على مواجهة الناس,
وأصبحت لا أطيق ضعفي وهواني وذلي, كما أصبحت أسيرا لأحلام اليقظة وأحيانا أسيرا لأفكار إجرامية ملكت علي عقلي, ولم أعد أطيق أن يأمرني أبي بفعل شيء وبالرغم من أن أبي قد امتنع منذ فترة عن إيذائي بدنيا إلا أنه لم يكن يتورع عن إيذائي نفسيا وربما أمام أصدقائي أيضا.
والآن فقد تخرجت في كليتي وعملت بإحدى شركات القطاع الخاص, وأريد الزواج من فتاة أحبها وهي على خلق ودين ومن أسرة محترمة, وقد حدثت أمي عنها فطلبت مني أن أنتظر قليلا حتى تفاتح أبي في هذا الموضوع, وتسأل عن الفتاة وكانت النتيجة في مصلحة الفتاة فهي حقا فتاة طيبة وعلى خلق ودين ومن أسرة محترمة وطيبة وشهادتها الجامعية تقارب شهادتي ومن نفس بلدي,
ولكني للأسف لن أتزوجها, هل تعرف لماذا؟ لأن أسرتها أقل من أسرتي اجتماعيا وماديا, فهل أترك فتاة يميل إليها قلبي وشهد الجميع لها ولأسرتها بالدين والخلق لأن أهلها ليسوا من أصحاب الألقاب اللامعة؟
وهل أتخلى عن هذه الفتاة وأضيف إلى نفسي محنة جديدة؟ أم استمسك بها حتى ترضي أمي ويرضي أبي؟
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
أخطأ والدك بلا شك في قسوته عليك في طفولتك وصباك وبواكير شبابك.. وفي اعتماده لسياسة القسوة المفرطة معك والإيذاء البدني والمعنوي لك بلا تبصر ولا اعتدال لكن أخطاء الآباء في تعاملهم مع أبنائهم تتفاوت درجاتها وتختلف دوافعها في كثير من الأحيان,
وهناك فوارق كبيرة بين خطأ ينبع من الاهتمام الشديد بأمر الأبناء مع سوء اختيار الوسيلة للتعبير عن هذا الاهتمام, وبين خطأ يصدر عن الاستهتار بحقوق الأبناء على الأب.. أو النكوص عن القيام بالواجب الإنساني تجاههم كما هو الحال في ظروف كاتبة رسالة الأبواب المغلقة التي تخلي والدها عن مسئوليته عنها منذ الصغر, فحفر في أعماقها أثرا لم تستطع الأيام محوه.
فإذا كان الأب قد تحمل مسئولياته الإنسانية والأدبية عن أبنائه بشرف ولم ينكص عن أداء الواجب الإنساني تجاههم.. لكنه أخطأ الوسيلة فلقد يشفع له ذلك في التسامح مع خطئه.. والتجاوز عنه, حتى ولو ترسبت في النفس بعض المرارة من أثر ذكريات الليالي المظلمة في الطفولة والصبا, والقسوة المفرطة مع الأبناء أمر مرفوض تربويا ودينيا وإنسانيا وبكل المعايير, وهي نوع من التعسف في استخدام السلطة الأبوية علي الأبناء, يذكرنا بما حذر منه المفكر الفرنسي الكبير مونتسكيو, بقوله: عبرة أزلية أن كل رجل يحوز سلطة مطلقة يميل إلى التعسف فيها, ومع أنه يتحدث في ذلك, عن السلطة بمفهومها السياسي,
إلا أن العبارة تنطبق كذلك على العلاقات الإنسانية وعلى علاقة الآباء بالأبناء أيضا, ذلك أن الأب إنما يملك في الحقيقة سلطة مطلقة على أبنائه الصغار الضعفاء الذين يخضعون لولايته ويعيشون في كنفه ويعتمدون عليه في حياتهم, وليس هناك من عاصم يحميهم من هذا الميل شبه الغريزي للتعسف في استخدام مثل هذه السلطة المطلقة معهم سوى ما غرسه الله سبحانه وتعالي في قلوب الآباء من الرحمة بأبنائهم..
وما حثنا عليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من الرفق بالضعفاء, منبها أن الله سبحانه وتعالى يحب الرفق في الأمر كله, ويكفي دليلا على سوء عاقبة القسوة في التعامل مع الأبناء ما تقوله أنت نفسك من أن معالم شخصيتك قد تشكلت بسبب قسوة الأب عليك فاتسمت بالجبن والخوف والانطواء والعجز عن مواجهة الناس, بل وما تقوله أنت كذلك من أنك قد اكتسبت ـ كرد فعل لهذه القسوة ـ شيئا من السادية في تعاملك مع شقيقك الأصغر, فرحت تنفس فيه بعض ما كابدته من عنف أبيك وقسوته وإيذائه لك,
غير أن كل ذلك قد انطوت صفحته من حياتك الآن ولم يعد يبرر لك أن تحمل لأبيك وأنت في سن الشباب مثل هذه المشاعر الكريهة, ولا أن تجافيه وتقاطعه إنسانيا كما تفعل حاليا, فلقد أنقضت مرحلة الإيذاء البدني وذكرياتها المريرة.. ولم يعد والدك يستحق منك الآن سوى التجاوز عن أخطائه القديمة وتأويلها برغبته الصادقة في تنشئتك التنشئة القويمة وحمايتك من الفشل الدراسي والتعثر, حتى ولو كان قد أخطأ التعبير عن هذه الرغبة. وكثيرون من الناجحين في الحياة تعرضوا في طفولتهم وصباهم لصور مماثلة من هذه القسوة,
فلم يسمحوا لها بعد أن شبوا عن الطوق وأدركوا حقائق الحياة, بأن تفسد عليهم مشاعرهم تجاه آبائهم, وإنما تجاوزوا مراراتهم وحققوا نجاحهم في الحياة وأقاموا أسرهم الصغيرة فنشأوا أبناءهم على الحب والعطف والتراحم.. وحموهم مما تعرضوا هم له في طفولتهم وصباهم, وقال قائلهم: ليس في صدري لمن أحبني سوي الحب.. ولمن آذاني سوى الإشفاق!
وأتبعوا نهج الإمبراطور الروماني الحكيم مرقس أورليوس الذي قال: خير وسيلة للأنتقام ممن أساءوا إلينا هو ألا نصبح مثلهم! فافعل أنت أيضا ذلك أيها الشاب.. وطهر قلبك وصدرك من المشاعر السلبية تجاه أبيك طلبا للسلام النفسي والتواصل السليم مع الحياة..
وتخلص من بصمات القسوة القديمة على شخصيتك فاعرف كيف تدافع عن اختياراتك في الحياة وكيف تقنع بها من يختلفون معك في الرأي حولها فإذا كنت مقتنعا حقا بصلاحية الفتاة التي تحبها فثابر على إقناع أبويك بها إلى أن يتبصرا وجهة نظرك ويتنازلا عن اعتراضهما عليها.. ولن يتحقق لك ذلك إلا إذا تطهرت أولا من مشاعرك الكريهة تجاه أبيك التي تحول بينك وبين التواصل معه.. ومع الحياة بصفة عامة بشكل سليم.
من أرشيف جريدة الأهرام
نشرت سنة 2004