أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الورقة المطوية .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة في الخامسة والأربعين من عمري، متزوجة من رجل ميسور الحال،  وقد عشنا حياتنا الزوجية في سعادة وهدوء، وأنجبنا ولدا وبنتا، وننتمي لأسرة مترابطة تحرص على القيم والتقاليد، وتربى أبنائها التربية الحديثة ونعيش معا حياة هادئة سعيدة,وما من مشكلة تعترضنا وتهددنا بتعكير صفو الحياة إلا وجدنا لها الحل بيني وبين زوجي بالإقناع والتفاهم , وفى بعض الأحيان نشرك أبناءنا فى حل هذه المشاكل ونتفق على الحل المناسب , ويشعر كل منا بمشاركته واتفاق آراءنا فيه وقد تخرج ابني الأكبر فى الجامعة ومازالت ابنتي تواصل دراستها الجامعية . وقد ربيناهما كما ذكرت لك فى البداية التربية الحديثة , فتعلما في مدارس مختلطة , ويذهبان إلى النادي ويصادقان فيه أصدقاء من الجنسين ..وكل شئ واضح وصريح أمامنا , فنحن نعرف أصدقاءهما ويحضرون معهما إلى البيت ويخرجون معا .

ومنذ عامين تعرفت ابنتي على شاب من أصدقاء “الشلة” فى النادي وأحبته وكان عمرها حينذاك 16 عاما وصارحتني بذلك ونصحتها كما تنصح كل أم ابنتها فى مثل هذا الموقف وفى هذه المرحلة من العمر فقلت لها أنها مازالت صغيرة وأن المستقبل عريض أمامها وسوف تلتقي بأشخاص كثيرين ستجد فى أحدهم فتى أحلامها المناسب لها , فكانت تسمع لما أقول وتصر على أنها تحب هذا الشاب وتريد أن تكمل باقي مشوار حياتها معه , وأمام إصرارها اتفقنا على أن تظل العلاقة فى حدود النادي وفى وجود باقي الأصدقاء وعلى أن نكون على علم بكل شئ وبصراحة تامة . وبعد ذلك فلا بأس من رؤيته أو مكالمته فى حدود الأدب.

واستمر الحال على ذلك عامين وأنا ووالدها نعلم ونسكت على مضض , أما ابني فهو في قمة الاستياء لأنه لا يرى فى هذا الشاب شخصاً مناسبا لأخته عائليا واجتماعيا وماديا , فضلا عن أنه لم يكمل تعليمه بعد.
وعشنا على أمل أن تدرك هي هذه الحقائق حين تكبر وتنضج وتعرف أنه عبث أطفال وليس حبا حقيقيا وأنها كانت مخطئة فى اختيارها ومشاعرها , إلى أن فوجئت بها ذات يوم فى موعد رجوعها من الجامعة تدخل البيت مسرعة , وورائها أخوها الذي راح يضربها ويلعنها وهى تبكى وتصرخ وانزعجت بشدة وتساءلت عن الأمر..

فعلمت من شقيقها أنه رآها مع هذا الشخص يجلسان فى مكان عام ويشربان الشاي ! وكان ذلك صدمة بالنسبة لى , فقد تركت لها الحرية بشرط ألا تكذب وألا تخفى عنى شيئا وأن تكون العلاقة في حدود النادي ولم نمنعها من شئ ولم نتشدد معها , لكن يبدو أن هذه كانت غلطتنا الكبرى التى أعترف لك بها وأعترف أيضا بأننا قد أخطأنا فى هذه التربية الحديثة التى يتبعها معظم أبناء جيلنا اذ لو كنا قد تشددنا معها من بادئ الأمر ومنعناها من رؤيته لما حدث ما حدث , إذ بعد أن ضربها أخوها غادر البيت غاضبا , ودخلت هى غرفتها وراحت بكى بحرقة , ودخلت وراءها وطالبتها بقطع علاقتها بهذا الشاب , لأنها قد كذبت على ولم تلتزم بوعدها لى بألا تخرج معه , فانهارت فى بكاء أشد وقال لى أنها لا تستطيع ذلك.

ثم نهضت وأخرجت لى ورقة مطوية وقدمتها لى فأخذتها مندهشة وفتحتها , فما أن فعلت ذلك حتى مادت بى الأرض ولم أدر بما حولي , ولم أفق من غشيتي إلا بعد ساعتين , فوجدت ابنتي تبكى وتقبل يدي وقدمي وترجوني الصفح عنها ..فقد كانت الورقة المطوية قسيمة زواج شرعي بهذا الشاب الملعون ! ولا أستطيع أن أصف لك مشاعري حين استوعبت ما قرأته فى هذه الورقة , فقد وجدتني أشعر بكراهية شديدة لابنتي التى داست على كل شئ , وداست على نفسها وأشعر فى الوقت نفسه بالعطف عليها وهى تتوسل لي وتعترف بخطئها وتطلب منى الوقوف بجوارها وألا أتخلى عنها فى محنتها .

أما مشاعري تجاه هذا الشاب فقد كانت كراهية طاغية ومقتا طاغيا لا يخالطهما أى إحساس أخر! ولا أعرف كيف تحرك مؤشر الساعة فحل الظلام وأنا وابنتي فى هذا الموقف العصيب ..ولا أذكر إلا إنني كنت أشعر فى بعض اللحظات كأنني فى كابوس مزعج سأصحو منه بعد قليل , ثم أعيد قراءة هذه الورقة اللعينة فأجده واقعا وليس حلما مزعجا , وبعد أن هدأت بعض الشئ عاودت قراءة هذه الورقة فإذا بى أكتشف أيضا بأن تاريخ الزواج قد مضت عليه سنة طويلة , كانت ابنتي تخرج وتدخل علينا خلالها فى براءة وهى تخدعنا وتخفى عنا أنها قد تزوجت هذا الشاب اللعين وعمرها 17 عاما فقط . فيا لها من مصيبة ويا لها من مصيبة كبرى !

رائج :   بعد الأوان .. رسالة من بريد الجمعة

وتكتمت الأمر عن زوجي وعجزت عجزا تاما عن مصارحته به , وفوجئنا بعد ذلك باتصال من أسرة هذا الشاب يطلبون فيه زيارتنا بهدف التعارف والتمهيد للخطبة وجاءوا بالفعل لزيارتنا , ولا أعرف كيف تحكمت فى مشاعري وأنا أرى هذا الشاب أمامي , وبعد خروجهم وجدت زوجي غاضبا ورافضا الخطبة رفضا قاطعا لأن ابنتنا مازالت صغيرة , ولأن هذا الشاب غير مناسب لها كما أنه لم ينته من تعليمه ولا يرى أى مبرر للاستعجال فى هذا الأمر! ولم أدرى ماذا أقول له عن هذا “الأمر” الذي أطار النوم من عيني وأفقدني سلامي وسعادتي .. ولم أجد ما أفعله سوى تشديد الرقابة على ابنتي فمنعتها من الذهاب إلى النادي , وراقبت التليفون بصفة دائمة , حتى بدأت تكرهني , ومازلت فى حيرة من أمري وأحاول أن أتماسك أمام زوجي , وأبحث عن حل بلا جدوى لقد كانت غلطتنا الكبرى هى أننا أمنا بالتربية الحديثة , وقلنا لأنفسنا وما الضرر وكثيرات من البنات يصادقن الشباب ويخرجن مع زملائهن فى أعياد الميلاد والى دور السينما والمطاعم , وقلنا ان كل الشباب يفعلون هذا, وأن أبناءنا أفضل من غيرهم والحمد لله أنهم لم يدمنوا المخدرات ولم ينزلقوا ولم نتصور أنهم يمكن أيضا أن يخطئوا وأن نشقى نحن بأخطائهم ونفقد السعادة والأمان .

ولهذا, فإني أستحلفك بالله أن تنصح كل الآباء والأمهات بأن يضعوا أبناءهم تحت الميكروسكوب , وألا يعتمدوا كما فعلنا نحن على أنهم أحسنوا تربية أبناءهم والباقي بعد ذلك على الله , اذ يشهد الله والناس أننا قد ربينا أولادنا أحسن تربية ولم نتركهم وحدهم ونذهب للعمل فى بلد أخر كما يفعل غيرنا ولم نكن نخرج للسهر أو للسفر وندعهم وحدهم لا نعلم عنهم شيئا , وابنتي هذه يشهد لها الجميع فهى متفوقة وذكية فى دراستها ومهذبة جدا , وفى البيت مطيعة ومحبوبة وتشارك فى أعمال البيت وتصلى وتصوم وتقرأ القرآن , ولا أدرى ما أصابها حتى فعلت بنا وبنفسها ما فعلت كما لا أدرى هل حدث ما حدث نتيجة تقصير فى التربية , أم لأن ابنتي ساذجة إلى هذا الحد حتى يخدعها هذا النذل , أم أنه عقاب لنا من السماء ؟! .. ولكن أى ذنب جنيناه يا رب لنعاقب عليه هذا العقاب الشديد , وأنا لا أذكر أنني آذيت أحدا أو فعلت ما يغضب الله ؟!

اننى فى حالة ذهول , ولا أدرى ماذا أفعل ليقف بجواري ونستدعى هذا الشاب الملعون ونجبره على طلاقها حيث انه تزوجها وهى فى السابعة عشرة من عمرها , وما أعلمه هو أن الفتاة لا تستطيع أن تزوج نفسها وهى دون الثامنة عشرة , وإذا حدث ذلك وطلقها فماذا سيكون مصيرها بعد هذه الفضيحة وكيف ستتزوج مرة أخرى بغير أن يفتضح أمرها ؟! أم ترى هل أنتظر حتى يتخرج هذا “الجبان” وأضغط على زوجي حتى يزوجها له وان كنت أشك كثيرا فى موافقته على ذلك , وإذا فعلت هذا فكيف سأتحمل هذه السنوات التالية حتى يتخرجا فى الجامعة ويتزوجا ؟! وكيف أستطيع أن أتقبل هذا الإنسان وأتعامل معه وأنا أمقته مقتا شديدا وأعرف أنه سبب تعاسة هذه الأسرة بكاملها ؟! وكيف أتعامل أيضا مع ابنتي وأنا أشك فى كل تصرفاتها؟! أرجو أن ترشدني إلى الحل مع العلم بأن هذا الشاب لا يعلم حتى الآن أنني أعرف بزواجه من ابنتي.

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

من أشد أحزان الحياة إيلاما للنفس , أن يصدمنا الأحباء فيهم فنصحو ذات يوم من اطمئناننا الغافل إلى ثقتنا فيهم على طعنة دامية من جانبهم ,ونتوقف ذاهلين ونتساءل : فيم أخطأنا معهم ..وكيف قست قلوبهم علينا إلى هذا الحد ..ولماذا باعونا بهذا الثمن الرخيص ..ونحن الذين أفنينا العمر فى محبتهم ورعايتهم وكانوا دائما منا ذوب القلب وأمل النفس الحزينة ؟؟!

إنها لحظة مريرة يا سيدتي , لا يدرك بعض الأبناء للأسف عمق قسوتها على القلب الطعين..ولا يستشعرون أبدا غصتها فى نفوس الآباء والأمهات ..ولن يستشعروها إلا حين يكرر أبناؤهم معهم هذه الطعنة الدامية في قادم الأيام, فتمتزج عندها حسرتهم من أبنائهم..بحسرتهم على إباءهم وأمهاتهم الذين أدموهم من قيل بهذا الخنجر المسموم , والحياة ديون يسددها الإنسان كاملة ولا مهرب له من فواتير السداد.

لكن ماذا نملك لأبنائنا إذا هم طعنونا وألقوا بأنفسهم فى اليم, ثم ولوا صارخين طالبين منا النجدة ؟..هل نستطيع حقا أن ننكص عن مد أيدينا إليهم بطوق النجاة؟.. ولو تجرعنا نحن غصص الألم كارهين؟!
إننا لا نملك يا سيدتي , ولا نستطيع أن ندعهم لأقدارهم تتلاعب بهم رياح الحياة كريشة تتطاير فى الهواء , ولا مفر أمامنا من أداء مسؤولياتنا تجاههم حتى النهاية , ثم فليكن بعد ذلك من أمرهم ما يكون .

وفى قصتك هذه لا مفر من التسليم بالأمر الواقع الذي أراد هذان الفتيان أن يضعاكم أمامه . وفى بعض مواقف الحياة المؤلمة يكون التسليم بالهزيمة والقبول بها شجاعة أدبية ويكون التعامل مع معطياتها , هو التصرف الأمثل والأفضل من المقاومة اليائسة التي لا تثمر فى النهاية إلا تكريس الأمر الواقع مع مضاعفة الجراح والخسائر النفسية , واتساع دائرة الذيوع والعلانية لما ينبغي أن نتستر به عن الآخرين .

لهذا فلست أرى مصارحة عم ابنتك بالأمر واستدعاء هذا الشاب وإجباره على طلاق ابنتك , إذ لن تسفر المحاولة غالبا إلا عن الفشل وتشبث الفتى بموقفه الخاطئ من البداية ولجوئه إلى أسرته وربما إلى السلطات المختصة أيضا لمنعكم من محاولة إجباره على ما لا يريد خاصة أن ابنتك لا تريد هذا الطلاق ولا تطلبه , وقد تخذلكم مرة أخرى أمام الغرباء , فيتعمق الجرح ويزداد الألم .

وإنما أرى ألا تصارح بهذا الأمر سوى زوجك ..ليس فقط لأنه شريك حياتك وصاحب الحق الأكبر في أن يعلم بما كان من أمر ابنته , وإنما أيضا لأنه الولي الشرعي الذى ما كان لها أن تتزوج بغير إذنه , وهي الفتاة غير الرشيدة , ولا أعرف كيف سمح ضمير هذا المأذون الذي عقد قرانها له بأن يعقد لها على فتاها بغير وليها وهى فى السابعة عشرة من عمرها.

نعم يا سيدتي لا مفر من أن يشاركك زوجك ما تعانين من ألم وحيرة وشعور موجع بالهوان على ابنته إلى الحد الذي تضعه معه أمام هذا الموقف العصيب , ثم لا مفر بعد ذلك من التعامل مع الموقف بواقعية تفرضها الظروف المحيطة بالقصة وكلها , فتسلمان معا بما حدث , وتستكملان شكليات الخطبة أمام الجميع كأنما لم تخرج ابنتكما عن طوعكما ولم تتزوج فتاها فى السر , ابتداء من قراءة الفاتحة في حضور الأهل ..إلى الخطبة العلنية ..إلى تقديم الشبكة والاتفاق على “عقد القران” بعد تخرج الخطيبين في الجامعة ,على أن تتعامل ابنتك مع فتاها خلال هذه الفترة كما تتعامل الخطيبة مع خطيبها في حدود ما تسمح به علاقة الخطبة .

ولسوف تكون السنوات الباقية على تخرجهما معا هي الاختبار الحقيقي لإمكانية استمرار هذا الارتباط واستكماله بالزواج والمساكنة , أو تعثره فى الطريق وانكشاف التجربة عما كشفت عنه من قبل معظم تجارب زواج المراهقين من فشل مرجح خلال سنوات وبعد نضج الشخصية وتغير المشاعر واختلاف المزاج النفسي من مرحلة المراهقة إلى بداية مرحلة النضج.. فإذا فشلت التجربة وانتهت نهايتها المحتملة , فليتم الطلاق سرا , ولتواجه ابنتك المجتمع كفتاة سبقت لها تجربة الارتباط دون زفاف.
وإذا تمسك كل منهما بالأخر , ورغبا فى استكمال المشوار , فلقد سلمتما من البداية بما لم يكن منه بد. .وهو التنازل عن اعتباراتكما العائلية فى الشخص الملائم لها لأنها اختارت بمعاييرها هى , ولا مهرب لها من أن تتحمل تبعية اختيارها .

أما كيف تتعاملين مع هذا الفتى خلال فترة الخطبة وأنت تمقتينه مقتا شديدا وتعتبرينه المسؤول الأول عن هدم سعادة أسرة بأكملها , فما أكثر ما تضطرنا ظروف الحياة الى أن نتعامل مع من لا نطيق , رعاية لاعتبارات الأعزاء , والاعتبارات العائلية والاجتماعية الأخرى , والمهم هو ألا يحملنا كرهنا لأحد على أن نبخسه حقا من حقوقه , وألا يحملنا حبنا لأحد على أن نأثم فيه فنعطيه ما ليس من العدل والحق أن يناله منا , كما ينصحنا بذلك إمام المتقين على بن أبي طالب رضي الله عنه . إذ لو انسقنا وراء مشاعر الحب والكراهية وحدهما في تعاملنا مع الآخرين لحدنا عن العدل والحق , ولعجزنا عن أن نتعامل مع الكثيرين .

وأما ابنتك فلسوف تعاملينها بما علمتك التجربة أن تعامليها به , فلا تركني إلى ثقتك الكاملة السابقة فيها بعد أن كشفت لك التجربة أنها لم تكن أهلا لها , ولا تستسلمي تماما إلى شكوكك وهواجسك تجاهها , فتتوتر علاقتكما أكثر وتنقطع الخيوط بينكما وإنما قربيها منك أكثر وامنحيها بعض الثقة وليس كلها ولا تعفيها بعد ذلك من رقابتك وإشرافك ومتابعتك لكل خطواتها , لكيلا تتحول فترة “الخطبة ” إلى زواج فعلى قبل الموعد الملائم وتتضاعف المشاكل.
والمثل الفنلندي القديم يقول : إن الإنسان لا يخدع إلا من يثق به , وهذا صحيح لأن من يتشكك فينا يصعب علينا عادة أن نخدعه أما من يثق فينا فهو للأسف من ننجح عادة فى خداعه اعتمادا على هذه الثقة , وليس من حق ابنتك على أى حال أن تضيق بعدم ثقتك فيها , لأن من يخون ثقة الأهل به على هذا النحو الفادح لا يحق له أن يلومهم إذا تشككوا فيه , ولا أن يشكو من عدم ثقتهم به ..بعد أن وضع نفسه موضع الريبة والتهم .

وقد تسألين بعد ذلك , وماذا يكون الحال حين تجدون أنفسكم مضطرين إلى عقد قران ابنتكم على فتاها بعد سنوات لاستكمال الشكل العائلي والاجتماعي للزواج , وفى هذه الحالة فلسوف تجدون أنفسكم أمام خيارين ..الأول :هو أن تستغنوا عن هذه الشكلية اعتمادا على العقد الموجود , مع تدارك المظهر العائلي بأي طريقة ترونها مناسبة لذلك بالاتفاق مع أسرة الشاب. والثاني : هو أن تتمسكوا باستكمال الشكل أمام الآخرين وعقد قران جديد , ولقد استفتيت أحد شيوخنا الأجلاء فى حالة مماثلة منذ سنوات فأفتى بجواز ذلك للضرورة الاجتماعية القصوى واعتبار العقد الجديد بمثابة تأكيد للعقد السابق مادام بين نفس الطرفين مع اعتبار الزوجية قائمة منذ تاريخ العقد القديم.

ونأتي لتساؤلاتك المريرة فى النهاية عن “التربية الحديثة” ونصيحتك للآباء والأمهات بألا يدعوا الأبناء يغيبون عن أنظارهم مهما أخذوا بمظاهر أو دعاوى هذه “التربية الحديثة ” وأقول لك انه فى أعماق الجحيم يتعلم الإنسان الحكمة ولكن غالبا بعد فوات الأوان , لكن المؤلم حقا هو أنني ألحظ في تعاملي مع هموم الآخرين اتجاها مزعجا جديدا لدى قلة من الأبناء لحل مشاكلهم مع أبائهم وأمهاتهم , بتفضيل وضعهم أمام الأمر الواقع الذى يرفضونه , ثم تحمل ثورتهم والتفاوض معهم بعد ذلك على أساس الأمر الواقع الذى فرضوه عليهم عنوة , وبالألم المضني المزلزل , وهو اتجاه شرير وغير أمين فى نفس الوقت , ليس فقط لأنه يكشف عن جحود للآباء وتنكر لهم واستسهال لإيلامهم وإنما أيضا لأنه يكشف وهو الخطر عن بعد فادح عن حدود الله فى تعامل الأبناء مع الآباء والأمهات , وعم عجز أفدح لدى هؤلاء الأبناء عن مواجهة مشاكلهم بشجاعة وأمانة كما يليق بالشرفاء والأمناء مع أنفسهم ومع الحياة .

ومن عجب أن بعض هؤلاء الأبناء قد يبدءون بسلاح العجز هذا قبل أن يخوضوا المعركة ويبدءوا البداية الصحيحة وهى مواجهة الأهل باختيارهم ” والجهاد” معهم لنيل رضاهم عنها مهما طال المدى , وتفسير بعض العجزة لما فعلوا لا يقبله الدين أو العقل ويتركز دائما فى أنهم كانوا “واثقين” من رفض الأهل لاختياراتهم من الوهلة الأولى ففضلوا وضعهم أمام الأمر الواقع وفرضه عليهم !.. أما من أين أتتهم هذه الثقة المتناهية ؟! فمن استشعارهم لحدة الفوارق الاجتماعية أو للتحفظات الأخلاقية الشديدة على هذه الاختيارات , وكلها أعذار أقبح من الذنب وأشد نكرا , ولا تبرر أن تخذل فتاة أو فتى أبويهما ويطعناهما فى سويداء القلب مثل هذه الطعنة الدامية.

أما “التربية الحديثة” التى أدركت أنت يا سيدتي بالثمن الباهظ مسئوليتها عن محنتكم , فالاتجاهات التربوية الأكثر حداثة منها فى الغرب الذى بالغ البعض منا فى نقل مظاهر هذه التربية عنه بلا اعتدال قد بدأت تنادى الآن بالعودة للقيم المحافظة في التربية , والاعتدال فى الحرية الممنوحة للصغار فى فترة المراهقة , وتتحدث عن أهمية غرس القيم الدينية والالتزام الخلقي فى نفوسهم ليحميهم من مهالك الإدمان والجريمة والايدز والإباحية , وتؤكد أهمية دور الأسرة والرقابة العائلية فى تقويم سلوك النشء وحمايتهم من الأخطار.

وفى الالتزام بحدود الله ونواهيه ما فوق الكفاية دائما يا سيدتي لتجنب هذه المهالك , وفى الاعتدال والتوسط فى كل شئ بلا افراط ولا تفريط ما يهدينا إلى سواء السبيل …والسلام

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 1988

مقالات ذات صلة