قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || عملية نشل

لم يدر لماذا قفز إلى تلك الحافلة المزدحمة، في ذلك الوقت من اليوم، الذي تتخم فيه وسائل المواصلات عادة، بالعائدين من أعمالهم، والمرهقين المنهكين من نهار شاق، على الرغم من أن جيبه كان يمتلئ بحافظة كبيرة؛ مكدسة بأوراق النقد، مما يجعله قادرًا على استئجار سيارة سياحية خاصة، تقله إلى منزله، في ذلك الحي الشعبي الشهير، الذي قضى فيه عمره كله ..

ربما هو حكم العادة ..
بالتأكيد هو كذلك ..
لقد كان يشعر بنشوى الظفر، التي تلازمه عادة ، كلما نجح في نشل حافظة متخمة كهذه، من إحدى المناطق الراقية، التي اعتاد مزاولة النشل فيها في الآونة الأخيرة، ولكنه لم يكد يلمح الحافلة المزدحمة، حتى دفعته غريزته القديمة إلى القفز داخلها، وكأنما هو قدره ..
نعم .. هو قدره حتمًا ..

جالت هذه الفكرة في رأسه بشدة عندما وقع بصره على تلك الحسناء الفاتنة، ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين، التي انحشرت وسط الركاب، وقد بدا الشيق والتأفف في ملامحها، كأنما هي لم تعتد ذلك الزحام أبدًا ..
وشعر بقلبه يخفق بين ضلوعه، لأول مرة في عمره ..
لقد قضى عمره كله في النشل، حتى أنه لم يجد من قبل لحظة واحدة للحب ..
ولقد هبط هذا الحب على قلبه كالصاعقة ..

ودون أن يدري، وجد نفسه يشق طريقه وسط الزحام، حتى وصل إليها وهو يلهث، وقلبه يخفق بمزيد من القوة، وروحه تهفو إليها، ولم يكد يملأ أنفه برائحة عطرها الرقيق، حتى أدارت عينيها الجميلتين إليه ..
والتقت الأعين ..

وجف لعابه من شدة وجده، ولم يجد أمامه سوى أن يبتسم لها ..
ولقد استقبلت هي ابتسامته بابتسامة حائرة، ثم لم تلبث أن أشاحت عنه بوجهها، وكأنما تتحاشى تلك النيران في نظراته ..

وبكل لهفته، همس:
ـ أهي أول مرة؟
أدارت عينيها إليه في حيرة، فابتسم مستطردًا:
ـ أعني بالنسبة للحافلة والزحام.
ابتسمت في ارتباك، وهي تغمغم:
ـ نعم .. إنها أول مرة .

صمتت بعد قولها، ثم لم تلبث أن استطردت، وكأنما ترغب في أن يشاركها شخص ما مشكلتها:
ـ لقد تعطلت سيارتي، ولم أجد سيارة من سيارات الأجرة، في طريقها حيث أقيم، ولما كنت مرتبطة بموعد هام مع خطيني، فلم يكن أمامي سوى أن أستقل الحافلة، على الرغم من ازدحامها.
لم يفهم من كل هذا سوى أمر واحد.
أنها مخطوبة..

وتحولت لهفته كلها إلى مزيد من الغيظ والحنق؛ لأنها من نصيب غيره ..
وامتلأت نفسه بالغضب.
ياللخسارة !!..
لم يخفق قلبه إلا لفتاة مخطوبة ..
ياللغيظ ! .

وفجأة دفعه غضبه إلى البحث عن وجه آخر للظفر، فاقترب منها أكثر، وعبثت اصابعه المدربة بقفل حقيبتها، وهو يسألها في براءة:
ـ وأين تقيمين؟
أجابته في بساطة:
ـ قريبًا من هنا.
نجح في فتح حقيبتها، والتقط كيس نقودها، ودسه في جيبه، وابتسم تلك الابتسامة الظافرة، وهو يقول:
ـ إنها إجابة مبهمة.
ابتسمت ابتسامة واسعة، وهي تقول:
ـ لا بأس بها، في مثل هذه الظروف..
لاذ كلاهما بالصمت لحظات، ثم ابتسمت ابتسامة هادئة، وقالت:
ـ سأنزل هنا.

تابعها ببصره وهي تدفع جسدها وسط الأجساد، لتبلغ باب الحافلة، ثم تقفز منها في مهارة، تتنافى مع كونها أول مرة تفعل فيها هذا، وراودته فجأة فكرة أنها مخادعة، وأنها على الرغم من جمالها وحسنها، مجرد فتاة متوسطة الحال، اعتادت ركوب الحافلة في رواحها وغدوها، وراهن نفسه على أن كيس نقودها لن يحوي أكثر من الجنيهات الخمسة، و …

فجأة تجمد بصره، وخفق قلبه في شدة، واندفع يحاول شق طريقه بين ركاب الحافلة، ليلحق بها ..
ولكن هيهات ..
لقد انطلقت الحافلة مبتعدة ..
وضاعت الفرصة ..
وبكل مرارة راح يتطلع، عبر فجوة الزحام، إلى تلك الفاتنة، والحافلة تبتعد وتبتعد ..
ورأى حسناء الحافلة الشقراء تبتسم في سخرية، وهي تفتح حقيبتها، وتعيد إليها كيس نقودها، بالإضافة إلى تلك الحافظة المتخمة بأوراق النقد، التي كانت تحتل جيبه هو منذ قليل ..
نعم .. إنه قدره ..

قدره ألا يقع إلا في حب واحدة مثلها ..
نشالة ..

____________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ المندوب ـ رقم 6)

رائج :   الاختيار الحر ‏! .. رسالة من بريد الجمعة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *