حضارة قرطاجة
«ونحن أيتها الحضارات نعرف أننا إلى زوال فكم سمعنا عن اختفاء عوالم كاملة، وعن امبراطوريات غرقت بأهلها وألغازها !… ونعرف أيضا أن كل هذه الأرض التي أمامنا إنما صنعت من رماد، وأن هذا الرماد إنما يدل على شيء ما…
ولمحنا عبر ضباب التاريخ أشباح السفن الضخمة حاملة معها الغني والفكر……
إن وجدت حضارة قديمة تجعلنا نتذكرها تلقائيا حينما نقرأ ما كتبه الشاعرالفرنسي «بول فاليري»، فإنما هي بالتأكيد تلك الحضارة التي تولدت منها قرطاجة وامبراطوريتها، هذه الحضارة التي غيبتها لجة التاريخ .
ولدت هذه الحضارة فعلا قبل حوالي ثلاثة آلاف عام، لترث تاريخا فينيقيا أوجد قبلها بآلاف السنين. فماذا بقي اليوم من تجوال سفنها؟ … وماذا بقي من بصمات ذلك الشعب الحذر والمغامر في آن واحد، والذي اقتدى برواده البحريين؟…
وضمن مايطلق عليه اسم «العصر القديم» لايحتل المصير
الفريد لقرطاجة سوى مكان ضئيل، وعلى كل حال فإن تاريخنا يفرد بعض الصفحات عن ذلك عند الحديث عن الغزو الروماني الذي يسمى «الحروب البونية ».
إن هذه المواجهة المأساوية التي دارت حوادثها المفاجئة في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، تظهر لنا بما فيه الكفاية مقدار قوة هذا المتروبول الأفريقي ومناهل الحضارة القرطاجية ..
بيد أن هذه القوة كانت تقترب من نهايتها، إذ أن مصادرها كانت في طريقها إلى السقوط بين يدي منافستها «روما»
لقد كان ذنب قرطاجة أنها كانت عظيمة في وقت كان فيه شأن روما يرتفع .
*لفظة البونيين مشتقة من اللفظة اللاتينية «Poeni» أو «Poenic» التي استخدمها الرومان للدلالة خاصة على الفينيقيين الغربيين أي القرطاجيين .. وهي مخففة من اللفظة اللاتينية Phoenic التي اقتصر استخدامها للدلالة على الفينيقيين الشرقيين سكان ساحل الشام .
*كلمة قرطاجة كلمة فينيقية الأصل (قَرْتْ) : يعني قرية بمعنى مدينة و(حَدَشْتْ) : بمعنى حديثة أو جديدة .
قرطاجة : معناها المدينة الجديدة
تاريخ مزور لقرطاجة
قرطاجة دامت دولة وإمبراطورية حوالي الألف سنة وفد أهلها الأوائل الكنعانيون من صور السورية، وكانوا قد وفدوا إلى سورية من حضرموت اليمن، إنهم فرع من الحميريين، من حضرموت اليمن .
بالطبع لولا أن قاطني إفريقية كانوا كرماء و أوفياء و لديهم من القوة و الإستعداد الحضاري ما يكفي ويفيض لما قامت لهذه المملكة قائمة خاصة أن الفينيقيين لم يأتوا إليها غزاة و لم يفرضوا حكمهم بالقوة بل أتوا إليها ضيوفا و انصهروا في عرقياتها الأصلية وأقام الشعبان حضارة كبيرة اشتهرت في التاريخ .
ولكن حقيقة قرطاجة مغمورة في تشويه روما واحقادها الموروثة فاتخذها الوارثون الغربيون، واللاتين بالأخص، كأنهم مبهورون و مجذوبون بالتارات التي اختزنتها روما ضد قرطاجة !! وبالمخاوف التي عانتها من هانيبعل !!
وانتقل الثأر من الحرب إلى الاقتصاد إلى الحضارة وإلى الاسم الكنعاني رمه و جميعا، وإلى الإثم الكنعاني .
الواقع المر أن أكثر ما شوهته روما المنتصرة و أكثر ما بشعته هو ذلك التاريخ المزور عن قرطاجة والحضارة المائية وعن هانيبعل و هملقار وحنون ؛ فهو كله كذب وافتراء يفتری ..۔
وأول ما يواجه المنقب والباحث هو الإفتراء واللعنة ، وأن قرطاجنة حاكمها أعداؤها بدون استجواب ولا حضور و بدون محضر أو دفاع، وتبنت النخبة اليونانية الأحقاد الرومانية، وقد استزلمت الأولى للثانية بعد النصر الروماني، فأمعن المثقفون المأجورون في ورشة التشويه الحضاري أمعنوا الإنتقام من العظمة القرطاجية ومن الحقيقة الكنعانية العربية .
قرطاجة يتيمة من تاريخ ومن مؤرخين !! لقد محقه ومسحه ومحاه = هكذا شبه لهم – المنتصرون الغزاة السفاحون النهابون.
ومن شدة خوفهم من أن يطلع شعب روما والامبراطورية على الحقيقة ، محوا من التاريخ ما طالت أيديهم وما زورت أقلامهم وما هدمت معاولهم ونيرانهم ! التاريخ الباقي لقرطاجة هو من صنع أعدائها أعداء إيل وسورية وكنعان وصور والحميرين واليمن والعرب والآروبة ..
سطوة القلم الروماني
المجرم كتب تاريخ الضحية ، واللجيون الهمجية أزالوا آثار المعمار والمكتبات والمنشآت الاجتماعية ولم تبق حجرأ على حجر في عملية نشر السلم الروماني المزعوم.
إن ذلك السلم الروماني المزعوم كان سلسلة حروب غير منقطعة تتسم بالهمجية والغزو والسلب. ولسوف يتبين لنا أن الشعوب المقهورة ذات الحضارة والشعوب التي حثت على
مقاومة تلك الحروب قد رفضوا جميعا سيطرة روما واللاتين طوال عمر الامبراطورية التي قامت على السيف وماتت بالسيف على يد اقوام واعم جعلت من تدمير روما العاتية
والكافرة واجبا دينية وتكليفا إلهيا .
وتحت سطوة القلم الروماني المنتصر والمنتقم محيت طرق البحار القرطاجية ومحيت مسالك الصحاري وذكر القوافل والتبادل والتجارة والزراعة والصناعة والعمران، ومحيت
الحواويز العجائبية التي انبثقت من حضارة سبق أن أقامت سدود اليمن وحضرموت ومأرب ، والحدائق المعلقة في بابل وقنوات دمشق والغوطة وسدود لبنان وجنات القاسمية
والدامور وصيدون وبيروت وطرابلس وآبار الأنباط وحفارة كريت وهندسة صور وأساطيل فنيقيا وجلالي الكروم في منحدرات لبنان .
تحت القلم الروماني الحقود إمحت أسرار الصاغة والمعاملات والصكوك والاقتصاد الذي كان عالميا وإمحت المزارع السرية ومصايد السمك الخفية ومرابط الجمال والنوق حتى إنه لا أحد يعرف كيف اختفى الجمل في أيام الاستبداد الروماني وكيف ظهر فجاة في أفريقيا بمجرد ما أن تولى عرش روما امبراطور عربي من قرطاجة أو من حوران أو من حمص !!
وما من من مؤرخ عربي تساءل مرة أو انتقد ماذا كانت تنتج روما من الإقتصاد المحلي أو العالمي ؟ وما هي الصناعة الرومانية العظمى والأساسية ؟ ما هي تجارتها الأصلية؟ بل وماذا كانت المهمة الواعية الحضارية في الوجدان الروماني؟.
وأين هي معابد قرطاجة الدهرية التى عاشت ألف عام ؟
وكيف إمحت نقابات المعماريين والبنائين الذين بنوا الأهرام ومعابد مصر؟
أين اختفت وبادت طرق القوافل البرية من جبل طارق واسبانيا أو من مرسيليا عبر غاليا وجرمانيا حتى أقاصي
شمالي أوروبة وحتى وادي النيجر جنوبأ؟
وكيف يمكن لإمبراطورية الروم التي قامت على الغزو والسيف والنهب ؛ روما ! أن تفهم وتدرك وتستوعب أسرار إمبراطورية قرطاجية دامت برا وبحرا ألف عام بدون حروب داخلية ولا ثورات اجتماعية ولا ردات قبلية ولا دينية ولا طائفية، ولا طبقية، بل بدون أزمة اقتصادية أو مالية أو نقدية ؟
رواية تأسيس قرطاجة في الأدب اليوناني واللاتيني
ارتبطت قصة قرطاجة بأميرة من صور تدعى «إليسا» التي هربت من صور بعد مقتل زوجها، فعندما مات والدها ورثت إليسا العرش مع أخيها ثم تزوجت الكاهن الأكبر.
إلا أنّ أخيها قتل زوجها فقررت الهرب بأموال زوجها، وأبحرت نحو الغرب بمجموعة كبيرة من الموالين لها ؛ ووصل أسطولها إلى أفريقيا، قرب مدينة تونس الحالية وعند وصولها استقبلت بالترحاب من القبائل المحلية، وسمح لها بشراء قطعة أرض بمقدار ما تستطيع أن تغطيه بجلد ثور وبعدما وافق أصحاب الأرض بكل سرور ..
قصّت الأميرة الشابة جلد الثور على شكل خيوط دقيقة، وحدّدت بها قطعة الأرض التي تريد تملكها، وهكذا حدث الاستقرار. وكان أن تقدم ملك المكسيتانيين يطلب يدها، فأشعلت النار للتضحية بعدد من الحيوانات، ولكنها سحبت سيفاً وصعدت الكومة وطعنت نفسها، وكان ذلك في سنة 814 ق.م.
وهناك سبب آخر للهجرة
هجرة مدينة صور لتعرضها للحصار من نبوخذ نصر وانتهى بخضوعها الاسمي لهذا الملك البابلي، فما كان من أهل صور إلا أن هاجروا إلى قرطاجة.
قيادة هانيبال
ومن نسل إليسا ولَد هانيبال بن هامليكار، القائد المدرّب والقدير، وصاحب الخبرة الواسعة مع القوات الرومانية في الشواطئ الجنوبية لإيطاليا، وحماية المدن البونية في الصقلية. وسرعان ما خطف أنظار الجيش وكان الجنود يرون فيه أباه هامليكار. وعندما مات زوج أخته جاءت الأخبار بأن الجنود اختاروا هانيبال بن هامليكار قائداً عاماً بالإجماع.
بعد الانتهاء من غزواته، اتجه إلى مقره الشتوي في قرطاجة، وهناك وجد سفارة الرومان فاستقبلهم واستمع إلى الرسالة التي كلفوا بها، وهي عبارة عن تعليمات مشدّدة موجهة له، أجاب هانيبال على ذلك مدفوعاً بكل حماس الشباب وكراهيته القديمة لروما، فاتجه إلى ساجنتوم، وحاصرها ـ وبدأت الحرب البونية الثانية، وعبر نهر «الايدو» ..
وبدأ بإخضاع القبائل الإيبرية، ثم عبر جبال البرانس، وعندما وصل إلى نهر «الرون» كان جيشه يقدر بخمسين ألف جندي وتسعة آلاف فارس، وأعطى أوامره للجنود بأن يعبروا النهر، وعلى الضفة الأخرى للنهر استنفرت القبائل الغالية..
ولكن فجأة بدأت النيران تلتهم خيامهم، فأدركوا أنهم غدوا بين فكي الكماشة، فعبرت قوات هانيبال بهدوء وعبرت بعدها الفيلة، وبعد معركة نهر «الرون» اتجه شمالاً إلى جبال الألب.
وتابع الجيش زحفه تتقدمه الفيلة والفرسان، ووصل إلى سهل «بادانا» في حوض نهر البوه، واستغرقت الرحلة خمسة أشهر ونصف الشهر، وقرّر هانيبال أن تكون ساعة الصفر في يوم عاصف من أيام ديسمبر..
وأرسل سلاح فرسانه كاملاً في أثر الفرسان النوميديين، وأتبعهم بستة آلاف من المشاة، بدأ الرومان عبور نهر ترابيا دون مقاومة من القرطاجيين، وتمكن هانيبال من أن يحيط بهم بمجرد خروجهم من الماء، وحين انتهت المعركة كان هانيبال قد قضى على معظم الجيش الروماني، وعلى الفور تابع طريقة إلى «بلاسينتيا»..
حيث حارب سمبرونيوس، وأخذ المدينة منه، ومع ربيع سنة 217 ق.م. بدأ سيره متجهاً نحو الغرب، وانتهى السير به وبجنوده إلى ممرّ ضيق بين جبل «كورتونا»، وعند نهايته نصب كميناً في التلال المحيطة به.
وعندما بدأ الرومان الهجوم كقوة واحدة تركهم هانيبال يهاجمون الوسط، حتى إذا ما أصبحوا في السهل، هاجمهم من كلّ جانب، وهكذا أحاط بجند الجيش الروماني مرّة ثانية، وبدؤوا بالتراجع، ممّا دفع بعضهم لرمي نفسه في البحيرة.
وفرّ آخرون على أقدامهم الى مرتفعات الجبال، ولقي آخرون حتفهم في ساحة المعركة، وبعد هذا النصر الكبير بعث إلى قرطاجة يخبرها عن نجاحه في إيطاليا.
شروط الرومان
انتصر هانيبال في معركة «كاناي»، وفي هذه الأثناء عبر سيبو الصغير إلى أفريقيا وضرب الحصار على عتيقة وتمكن من تدميرها، وأرسل القرطاجيون وفداً للتباحث معه على شروط السلام، وأكد لهم أنه جاء إلى أفريقيا للغزو لا للسلام، ولكن أدرك القرطاجيون أن هانيبال هو سبب كوارثهم وجاؤوا يطلبون السلام فلا بأس..
ولكن بشروط: أن يخلوا إسبانيا والجزر الواقعة بينها وبين إيطاليا، وأن يعيدوا كل الأسرى، وعليهم أن يسلموا السفن، ويجب أن تعطى قرطاجة إلى روما خمسمئة ألف بوشل من القمح، وثلاثمئة ألف من الشعير وعلى قرطاجة أن تدفع خمسة عشر ألف تالنت.
لم يقبل هانيبال شروط الرومان، لذلك قرّر أن يخوض المعركة التي وقعت بين الجانبين عام 202 ق.م. وحدثت الكارثة حين ثار الجنود المرتزقة عليه في وسط المعركة وهجروه، فتراجع ما تبقى من جيشه إلى «هدريم» ومنها إلى قرطاجة، وبعدها اضطرت قرطاجة إلى التسليم.
انتهت الحرب البونية، وخرجت قرطاجة منهكة القوى، وكان «هانيبال» قد بلغ الخامسة والأربعين، وانتخب قاضياً سنة 196 ق.م. وكان يسعى لتحقيق المساواة بين المواطنين حتى يتمتعوا بالحرية الكاملة تحت سقف القانون، وسعى ليضمن كراماتهم وممتلكاتهم وحياتهم..
كما عمل هانيبال على إصلاح المؤسسات السياسية والجهاز الإداري.
إجراءات صارمة
اجتمع مجلس الشيوخ الروماني لدراسة ما يمكن اتخاذه من إجراءات لإيقاف هانيبال عند حده، وقرّر إرسال لجنة لتقديم الشكوى والمطالبة بتسليم «هانيبال»، سافرت اللجنة، وأدرك أنه المستهدف، فحاول الهرب، لكنه وجد أبواب القصر محروسة، وعندما أدرك استحالة الهرب تجرع السم الذي في خاتمه.
وفضل الموت على الوقوع في يد الرومان في سنة 183 ق.م. ودفن على شاطئ بحر مرمرة، وانتهت بوفاته ملحمة يحق أن ننعتها بالأسطورة.
المصادر:
1. فرانسوا ديكريه/ كتاب/ قرطاجة أو إمبراطورية البحر.
2. د. شوقي خير الله/ كتاب / قرطاجة العروبة الأولى في المغرب.
3. كتاب “حروب الجمهورية القرطاجية من التأسيس حتى السقوط ١٤٦م” عبدالله يوسف السليمان /نقلا عن فيصل خرتش / موقع البيان ..)