أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

خاطر فى النهار !! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

قرأت رسالة “خاطر في الليل” للزوج الذي تزوج من فتاة وأحبها وتبادلا الحب والاحترام والوفاء وشربا معًا كؤوس السعادة والصفاء لمدة 7 سنوات ثم شاءت الأقدار لها أن تُصاب بشلل نصفي يُقعدها في البيت وكيف إنه بعد 3 سنوات من ذلك يراوده “خاطر في الليل” يدعوه للزواج لأنه في عنفوان شبابه وهو يحب زوجته ولا يريد إيلامها لكن نفسه لا تهدأ .. وأفكاره تلح عليه أن يفعل .. لذلك كتب إليك يستشيرك فرددت عليه برأيك الصائب في المشكلة .. وقد استوقفتني فيه عبارة مؤلمة وقفت أمامها طويلاً ..

وفكرت فيها كثيرًا ثم لم أتردد في الكتابة إليك لأترجم هذه العبارة من مجرد افتراض تضعه أمامه إلى تجربة إنسانية يطلع عليها قارئك لعله يقتنع بأنه لا أحد يملك مصيره .. وأننا سفن صغيرة تتلاعب بها الرياح كيف تشاء ..

وأننا كما قلت له يصدق علينا دائمًا أن نحتمي من غدر الدنيا بألا نظلم فيها أحدًا بقدر الإمكان ولقد قلت له يا سيدي في دعوتك له بأن يتمسك بزوجته الوفية المحبة التي ترعى بيته وشئونه رغم ظروفها الصحية وتستقبله بابتسامة وتودعه بابتسامة ، قلت له : ماذا لو كنت أنت لا قدر الله من شاءت له الأقدار أن يتعرض لهذا الحادث وأن يضطر للبقاء في البيت مقعدًا أكان يقبل من زوجته المحبة الوفية أن تستجيبة إلى نفس هذا الخاطر الذي يراوده الآن .. أم كان سيسعده بالتأكيد أن تتمسك به زوجته وأن تعيش له ولأطفاله مهما حدث وأن تتكيف مع ظروفهما الجديدة ؟

هذه هي العبارة التي توقفت عندها .. عقب قراءتي للرسالة في هذا الصباح فقررت كخاطر ملح عليّ “في النهار” أن أمسك بالقلم لأكتب لك تجربتي في الحياة لأني أنا يا سيدي الوجه الآخر للعملة في مثل هذه التجربة الإنسانية الأليمة .. فأنا زوج قُدِّر عليه أن يُصاب بشلل نصفي بعد حادث وهو في عنفوان شبابه .. وأنا أب منّ الله عليه بطفلين قبل ذلك الحادث مازالا في حاجة ماسة إلى الرعاية حتى يشبّا عن الطوق .. وأنا المريض الذي قرر الأطباء في مصر وفي الخارج ألا علاج له ولا أمل إلا في وجه الله سبحانه وتعالى – وأخيرًا فأنا المقعد الذي مازال مقعدًا منذ ست سنوات أو يزيد وقد وقع لي ذلك الحادث وأنا في عنفوان شبابي وزوجتي في مقتبل حياتها كالوردة اليانعة التي أزهرت وأثمرت وفاح أريجها فماذا كان من أمر هذه الزوجة الشابة المفعمة بالحيوية والنشاط ؟

رائج :   خلع القناع ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

قبل أن أجيب عن هذا السؤال سأقول لك أننا تزوجا قبل هذا الحادث بسبع سنوات وأنه كان بيننا من الحب ما يكفي ويزيد لبناء بيت صغير بدخل صغير لموظفين في مقتبل العمر وفي بداية حياتهما العملية والزوجية وما يكفي ويزيد من الحب والترابط والتراحم لمواجهة ما قد يعترض هذا البيت الصغير من عواصف الحياة بعناد وصمود ودفاع عن البقاء وبقينا سبع سنوات نلاطم الدنيا وتلاطمنا ..لنا أحلامنا الصغيرة .. وإنجازاتنا الصغيرة أيضًا التي كنا نسعد بها سعادة طاغية كفرش غرفة كانت شبه خالية من الأثاث في الشقة أو شراء تليفزيون .. أو قضاء أجازة سعيدة بأقل التكاليف أو شراء جهاز للمطبخ يوفر على زوجتي بعض متاعبها وفي كل يوم يزداد حب كل منا للآخر ويزداد ارتباطه به ويزداد احترامه له إلى أن وجهت إلينا الدنيا ذات يوم ضربة تحت الحزام فكان هذا الحادث وكان هذا الواقع الجديد الذي فُرض علينا .. ولم يعد أمامنا مفر من مواجهته .. ورويداً رويدًا بدأنا نفهم حقيقة ما حدث .. فلا علاج يجدي ولا شفاء يُرتقب .. ولا أمل إلا في الله رب العالمين .

فماذا فعلت زوجتي الشابة ؟

سأتسرع بالإجابة لأني أكاد أتخيلك وأنت تقرأ هذه الرسالة وتستعد لصدمة تخيب أملك في الوفاء والحب والإخلاص بل وفي رأيك الذي أبديته ونصحت به كاتب الرسالة .. فأقول لك يا صديقي الذي لا أعرفه أني لو كنت “جاحظ البيان” أو “متنبي القوافي” لما وفيت هذه الزوجة الوفية حقها من الامتنان والعرفان والشكر ..

فماذا أقول لك يا سيدي .. هل أقول لك أنها لم تتغير عما كانت عليه قبل هذه الضربة القاضية تحت الحزام؟
أكون كاذبًا لو قلت ذلك .. لأنها تغيرت فعلاً .. ولكن إلى مزيد من الحب ومزيد من الرقة ومزيد من الحنان ومزيد من الفهم الواعي لحقائق الأمور ومزيد من الصبر والاحتمال وتقبل كل الأمور بواقعية وبصدر رحب وأمل باسم في الله دائمًا .

هل أقول لك أنها تعتني بي كما لو كنت شقيقًا ثالثًا لطفليها ؟! أم أقول لك أنها ترعاني حتى لكأنها تفتش في عيني دائمًا عن مطالب قد يتحرج عن الإفصاح عنها لساني لتسرع إلى إجابته بغير طلب منّي ؟ أم أقول لك أنها لم تشعرني برجولتي وكرامتي كزوج أثير محبوب قبل مرضي كما تشعرني بهما الآن وأنا ما أنا عليه من عجز وشلل !

رائج :   دليل الوقاية الشامل لتأمين بيتك وأسرتك ضد فايرس كورونا

بل أكثر من ذلك كم تحملت في صبر وتسامح حالات نفسية مريرة لا يخفى عليك كم يتعرض لها مريض في مثل ظروفي ، وعملت بكل جهدها على تجنب تكرار هذه الحالات . ايه يا سيدي .. لاشك أن أجمل ما في الدنيا هو لحظة الوفاء فما بالك لو كان عمرًا ممتدًا من الوفاء والإخلاص والتفاني ؟
وها أنا ذا بعد كل ما جرى مازلت أحب من الدنيا أنها أعطتني هذا الملاك الذي يرعاني .. بقدر ما أعتب على الدنيا أنها حرمتني من صحتي وشبابي .. ولكن هل على الدنيا من عتاب ؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

صدقت يا سيدي فلا لوم ولا عتاب على الدنيا مهما فعلت بنا بل قبول وتآلف مع ما قضيت به المقادير مهما كان أليمًا ومؤلمًا – فمالا نقدر على تغييره لا حيلة لنا فيه .. ولا معنى للوقوف أمامه ، ولا لوم ولا عتاب على الدنيا يا سيدي لأننا لا نملك من أمرنا فيها الكثير ولأن أبعدنا فيها “نظرًا” .. لا يعرف ماذا ينتظره منها بعد حين .. ومهما تحصنّا من المقدور لنا فيها بالحصون .. فأين المفر ؟ لذلك فإن أقربنا إلى النجاة فيها من أسلم وجهه لخالقه وكف أذاه عن الآخرين ومن عجيب يا سيدي أني كنت قبل أن أقرأ رسالتك هذه أقرأ في بعض أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي هذين البيتين الفريدين اللذين كثيرًا ما أتأملهما .. وأعجب من صدقهما ،

فلأمر ما وسر غامض
تسعد النطفة أو يشقى الجنين
فوليد تسجد الدنيا له
ووليد في زوايا المهملين !

ثم جاءت رسالتك لتشاركني هذا التأمل الباطني الذي أثاره هذان البيتان فهل يستطيع أحد أن يكتشف “القانون” الذي بمقتضاه تسعد النطفة أو يشقى الجنين ؟

أو هل يستطيع أحد أن يقول أنه قد توصل إلى “السر” الذي يجعل الدنيا تسجد لهذا الوليد .. أو تنهال عليه بهراوتها الثقيلة ؟ لا أحد بالطبع لأنها دنيا يا صديقي .. أو دنيا بنت دنيا كما يقولون ورغم كل ذلك فلابد أن نحياها .. ولابد أن نؤدي إليها حقوقها علينا وواجباتها فيها والإنسان الذي لا يملك من أمر نفسه الكثير هو نفسه الذي قال عنه سوفوكليس صادقًا منذ عشرات القرون إنه “أعظم أعجوبة في العالم” لأنه يستطيع أن يحيل حياته إلى نعيم بالرضا والحب والتسامح والعطاء والترفع عن الصغائر والسمو بنفسه عن الدنايا ويستطيع في نفس الوقت أن يحيلها إلى عذاب بأحقاده وصراعاته .. وتطلعاته .. وتكالبه وقصر نظره .

رائج :   قصة حب .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

وما جرى لكما بعد هذا الحادث الأليم خير دليل على صدق ذلك فلقد تفهمتما واقعكما الجديد وتآلفتما معه .. وتشاركتما في الحب والعطاء والوفاء والإخلاص ولم يدُر برأس أيكما خاطر في الليل ولا في النهار واعتبرتما القضية غير مطروحة من الأصل للحوار كما ينبغي لبشر يعيشون لما هو أكثر من طعامهم وشرابهم ولأعمق وأرقى وأكثر دوامًا من نوازع النفس الزائلة فتحولت حياتكما إلى واحة وسط هجير الحياة وصعوباتها وكم في الدنيا من ممتحنين بالشدائد من أمثالك .. وكم فيها من بشر يحس الإنسان بالقرب منهم بالأمان والسمو من أمثال زوجتك.

وبعض النساء تنطبق عليهن العبارة التي قالها مارك توين ذات يوم عن زوجته : “أينما نزلت كانت هناك جنة!” وبعض النساء بكل أسف ينطبق عليهن الوصف الآخر “أينما نزلت كان هناك جحيم مستعر” لكنه من حسن الطالع أن كانت زوجتك من النوع الأول الذي يجمِّل الحياة ويهون على المرء قسوتها في بعض الأحيان .. فاشكر ربك إذا نسيت ولا تفقد الأمل أبدًا في الشفاء فماذا نعرف نحن عن أمر الغيب لكي “نجزم” بأنه لا شفاء من هذا المرض أو ذاك ..

إن كل ما نستطيع أن نقوله في ذلك هو أن العقل البشري لم يكتشف بعد علاجًا ناجعًا له .. لكنه يواصل جهوده للتوصل إليه وسيتوصل إليه بكل تأكيد حين يأذن الله بالكشف عنه في يوم قريب بإذن الله فنحن نقف في أماكننا يا صديقي لكن “الفُلك المحرك دائر” كما يقولون ولسوف يدور دورته بإذن ربه ويحمل لك الشفاء .. ويتم الله عليك نعمته ويجزيك خير الدنيا والآخرة بإذن الله مع كامل محبتي واحترامي لك ولزوجتك العظيمة .. ومع كامل إعجابي وانبهاري بهذه المعاني السامية التي أردت برسالتك أن تنقلها لي ولغيري من القراء فشكرًا لك والسلام .

مقالات ذات صلة