أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

درجات الرأفة ! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله) 

أنا رجل في الثامنة والثلاثين من عمري أعمل عملا مهنيا مرموقا ولدي مكتب خاص‏,‏ هادئ الطباع وطيب القلب ومن أسرة متوسطة الحال لكن لها تراثها في الأخلاق والتربية والأصل الكريم‏..‏

ولقد تعرفت ذات يوم علي زميلة لي في مجال عملي ورشحها الزملاء لي للزواج‏..‏ ووجدتها مناسبة لي فتقدمت لخطبتها وتم عقد القران وتزوجنا‏.‏ وبعد الزواج تكشفت لي شخصيتها الحقيقية فإذا بها إنسانة حادة الطباع سليطة اللسان قبيحة الألفاظ‏..‏

وحاولت كثيرا إصلاحها خاصة بعد أن رزقنا الله بطفلة جميلة ولكن دون جدوي فاستسلمت لأقداري‏,‏ ورضيت بحياتي كما هي واستمر زواجنا ثماني سنوات لم نعش خلالها معا أكثر من بضعة شهور في مجموعها‏..‏ أما بقية الأيام فلقد هجرتني خلالها وأقامت في بيت أهلها علي فترات متقطعة‏,‏ وفي آخر مرات هجرها لبيت الزوجية طلبت الطلاق وأصرت عليه وحاولت بكل ما أملك من حيلة استعادتها مرة أخري‏,‏ وحاول معي الأهل جاهدين ذلك لكنها تمسكت بمطلبها‏,‏ ولم أجد مفرا من اجابتها إليه فطلقتها منذ عامين وأنا حزين لفشلي في حياتي الزوجية‏,‏ ونشأة طفلتي الوحيدة بعيدا عني‏..‏ وزاد من أسفي أنني علمت بعد طلاقي لها أنها حامل في جنين آخر‏,‏ وبعد شهور أنجبت طفلة أخري‏.‏

أما أنا فقد سلمت أمري إلي الله وعشت حياتي في كنف أسرتي‏,‏ وحاولت نسيان مرارة التجربة والتعزي عنها‏..‏ وذات يوم دخلت مكتبي سيدة جميلة هادئة الطباع مع طفل لها في عمل يتعلق بها‏..‏ فأديت العمل المطلوب مني لكني وجدت نفسي منجذبا إلي هذه السيدة باحساس غامض‏..‏

وخلال ممارستي لعملي تبادلت معها أطراف الحديث فعلمت منها أنها أرملة وأن عمرها ثلاثة وثلاثون عاما ولها طفل آخر أكبر من الطفل الذي اصطحبته معها بعامين وشعرت بالرغبة في أن أراها مرة أخري‏,‏ فاصطنعت سببا لتكرار الزيارة وطلبت منها العودة مرة أخري بعد أسبوع لاتمام العمل الذي جاءت من أجله وانصرفت هي شاكرة‏,‏ وترقبت عودتها باهتمام شديد وفي الموعد المحدد جاء من جديد فشعرت بالسعادة داخلي‏..‏ بقلبي يخفق في صدري كالمراهقين‏..‏ وتجاذبت معها أطراف الحديث فاسترحت لحديثها العذب وأسلوبها الجميل وطبيعتها الهادئة وجمالها وأناقتها واحترامها لنفسها ولمن حولها‏,‏ وتبادلنا أرقام التليفونات‏,‏ وبدأت المكالمات التليفونية بيننا وبعد فترة من الاتصالات اعترف كل منا بحبه للطرف الآخر‏,‏ ووجدت هي نفسها معي ووجدت أنا نفسي معها ولمست لديها الحب والتفاهم والثقة بالنفس‏..‏ وكل شيء جميل في الحياة إلي جانب أنها إنسانة مثقفة ولها مركز مرموق في عملها‏,‏ واتفقنا علي الزواج‏..‏

رائج :   ابتسامة الرضا ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وبدأت الاستعداد له فإذا بي أجد نفسي أمام خيار صعب لم يكن في تقديري قبل ذلك‏,‏ فلقد علمت مطلقتي وأم الطفلتين بنيتي في الزواج فبعثت بمندوبين من أهلها للصلح‏..‏ وجاءت هي نفسها إلي أسرتي فرحبت بها الأسرة وبدأ أهلي يحثونني علي إعادتها إلي عصمتي لكي تنشأ الطفلتان بين أحضاني‏,‏ وفي نفس الوقت تغيرت معاملة أسرتي للسيدة الأخري عند ا تصالها بي بالتليفون في البيت وبدأت تشكو لي من تحفظ الأهل أو جفائهم معها حين يجيبون علي مكالماتها‏.‏

وأنا الآن حائر فيما أفعل‏,‏ فلقد كرهت عشرة زوجتي السابقة بسبب مرارة تجربتي معها‏,‏ لكني لا أحب في نفس الوقت أن أظلم الطفلتين وأحرمهما من حقهما في الحياة مع أبيهما‏,‏ ولو ترك لي الأمر لاخترت أن أعيش مع هذه السيدة الأرملة التي أحبها جدا ولا أطيق فراقها ومنعا طفلاها والطفلتان ونحيا معا كلنا في سعادة‏,‏ لكني أدرك استحالة تحقيق ذلك في ظل قانون الأحوال الشخصية الذي يعطي حق حضانة الطفلتين لأمهما‏..‏ فكيف أواجه هذه المعادلة الصعبة‏.‏ وأي خيار أختاره‏!‏

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أنت محق بالفعل ياسيدي في ترددك واضطرابك أمام ما تواجهه الآن من اختيار لحياتك وأيامك المقبلة‏..‏ ذلك أنه اختيار بين وعد بالسعادة مع هذه الأرملة الشابة التي تعرفت عليها بعد عامين من انفصالك عن زوجتك السابقة‏,‏ وبين وعد بالأمان والاستقرار لطفلتين صغيرتين يدعوك ضميرك الأخلاقي للوفاء لهما به حتي ولو تخوفت من تكرار التجربة المريرة التي عانيتها من قبل‏.‏

رائج :   قلبي اطمأن … الحقيقة لا

وكلما كانت الخيارات التي يتردد بينها المرء عادلة ومشروعة ازدادت حيرته معها‏.‏
غيرأن نداء العقل يطالبنا في كل الأحوال بالتروي قبل ترجيح بعض هذه الخيارات علي بعضها الآخر والالتزام بها‏.‏
وتجربة العمر تقول لنا إنه لا تأكيد لشيء في الزواج الذي لم تنعقد عراه بعد إلا بالتجربة الفعلية والمعاشرة المشتركة واختبار الأيام لصدق الوعود والأحلام الوردية بالسعادة مع شركاء الحياة‏,‏ وعلي هذا الأساس أقول لك ان الوعد بالسعادة مع هذه الأرملة الشابة يظل وعدا معلقا إلي أن تختبره الأيام وتحققه علي أرض الواقع‏.‏ كما أن الاختيار العاطفي في مثل ظروفك هذه وإن كان له ما يؤيده من مبررات ودوافع‏..‏ إلا أنه لن يكون خاليا من النواقص والمكدرات لافتقادك لطفلتيك واحساسك بالذنب تجاههما لحرمانهما من حق النشأة الطبيعية بين أبوين يجمعهما بيت واحد‏.‏

أما علي الجانب الآخر الخاص بزوجتك السابقة ومعاناتك القديمة معها‏,‏ فإن توجسك من تكرار التجربة المريرة معها‏.‏ له أيضا ما يبرره وما قد يدفعك لترجيح الاختيار العاطفي علي قبول مساعيها للعودة إليك‏,‏ لكنه ليس من المؤكد أيضا أن تكرر مطلقتك تجربتها السابقة معك بنفس أخطائها وعثراتها وإلا فما قيمة التجربة والخطأ إذن إذا لم تكن قد استفادت شيئا من فشلها معك وحرمان طفلتيها من أبيهما‏,‏ ومجيء طفلتها الصغري إلي الحياة في غيبة أبيها؟

لقد استشعرت الخطر حين علمت بنيتك في الزواج فسعت إليك هي هذه المرة طالبة العودة إليك‏,‏ ولابد أن يكون ذلك مؤشرا ايجابيا علي تغير بعض أفكارها وملامح شخصيتها‏,‏ وإلا لما تنازلت عن كبريائها السابق وسعت إليك وقد كانت هي التي رفضت من قبل كل محاولات الصلح وأصرت علي الطلاق‏.‏
ومعني ذلك أنك الآن أمام وعدين كل منهما غير مؤكد حتي الآن وان أوحت شواهده بغير ذلك‏..‏ الأول بالسعادة مع أرملة شابة جميلة وهادئة صادفتك وأنت في فترة من الضعف النفسي وفقد الثقة في النفس والاحساس بالوحدة عقب مرارة الفشل في الزواج‏,‏ والثاني بالتعاسة وتكرار المعاناة لدي مطلقتك مع توافر الحد الأدني من الأمان والاستقرار لطفلتيك‏,‏ ولأن الانسان لايستطيع للأسف أن يخضع المستقبل للتجربة لكي يختار لنفسه طريقه فيه علي ضوء نتائج الاختبار‏,‏ فلا مفر أمامه من دراسة الواقع ومحاولة استقراء المستقبل علي ضوء ما يتاح له من شواهد وعلامات الطريق‏,‏ وأول ما ينبغي لك أن تتبصره جيدا قبل اتخاذ أي قرار هو هل اختيارك العاطفي لهذه الأرملة الشابة هو اختيار نهائي لا رجعة فيه ولا مبدل له أم أنه اختيار للأفضل مع امكان القبول بالمفضول إذا رجحته اعتبارات أخري جليلة الشأن كسعادة الأبناء واستقرارهم وخلو القلب من الاحساس بالذنب تجاههم لتفضيله سعادته الشخصية علي أمانهم؟

رائج :   قصة “سره الباتع” من عالم الأديب العبقري يوسف إدريس.

وهل هذه العاطفة التي تحملها لهذه الأرملة الشابة عاطفة حقيقة راسخة وثابتة ثبوت الجنادل لتيارات المياه‏,‏ أم أنها عاطفة عابرة صادفت قلبا خاليا ونفسا جريحة فوجدت الطريق ممهدا أمامها بلا عناء؟

وهل تستطيع أن تجزم صادقا بأن زوجتك السابقة لم تستوعب دروس تجربتها الفاشلة معك ولم تتخلص بالفعل من بعض ما أنكرته عليها خلالها؟‏..‏ وبالتالي فإنك تستطيع استئناف الحياة معها‏..‏ وتجاوز صفحتها القديمة معك؟
انك وحدك من يملك الاجابة علي هذه الاسئلة‏..‏ فوجهها الي نفسك واختبر اجاباتها بموضوعية‏,‏ فإذا جاءت النتائج في النهاية مؤيدة لاختيارك العاطفي والأمل في السعادة التي يغصها الحرمان من طفلتيك والاحساس بالذنب تجاههما فامعن في الطريق الذي يؤدي بك إليه‏,‏ وإذا جاءت النتائج مرجحة لكفة الأمل في انصلاح الأحوال بينك وبين زوجتك السابقة‏..‏ واستقرار طفلتيك في كنف أبويهما فأن واجبك الاخلاقي والانساني يدعوك لترجيح هذا الاختيار والاعتذار للأرملة الشابة عن مشروع الارتباط بها‏.‏

أما إذا تساوت الكفتان أو حتي تقاربتا فإن هذا الواجب نفسه يدعوك بغير تردد إلي تفضيل طفلتيك وزوجتك السابقة‏..‏ واحتساب درجات الرأفة لصالحهن أملا في سعادة الجميع واستقرارهم والسلام‏.‏

Related Articles