قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || اللص

كل شيء كان يوحي بالهدوء، في تلك الليلة ..
الطقس معتدل دافئ، على نحو محبب، بالنسبة لمنتصف الشتاء، والبدر يتوسط السماء، التي خلت تمامًا من الغيوم، فتألقت فيها ملايين النجوم، كحبات من اللؤلؤ، وسط مخمل أسود رقيق..
حتى التلفاز، كان يبث برنامجًا جيدًا للغاية، شد انتباه الجميع، حتى إن الشوارع خلت ـ أو كادت ـ من المارة، على الرغم من أن عقارب الساعة لم تكن قد تجاوزت العاشرة والنصف مساءً، و ..
وفجأة، انطلقت تلك الصرخة ..

” لص .. لص .. امسكوا اللص .. “

كانت الصيحات تنطلق من البناية المقابلة لنا تمامًا، وبالتحديد من نافذة في الطابق الرابع، يطل منها رجل في حدود الستين من عمره، يشير إلى الحديقة الصغيرة في انفعال، هاتفًا:
– لقد رأيته .. كان يتسلق المواسير المطلة على الحديقة .. لقد رأيته .. أمسكوا اللص ..

وانتقل انفعاله إلى الجميع بسرعة مدهشة ..
أنا، وزوجتي، وفتاة شابة، تقف مذعورة، في شرفة الطابق الثاني، المطلة على الحديقة، وعدد من شباب المنطقة، اعتادوا قضاء أمسياتهم على ناصية الشارع ..
الجميع راحوا يتحركون في انفعال جارف، والرجل يواصل صرخاته:
– ابحثوا في الحديقة .. لقد رأيته بنفسي.

وهتفت زوجتي:
– ألن يفعل أخد شيئًا؟!

أطلقت هتافها، وأنا أتطلع إلى الشباب، الذين راحوا يتحدثون في انفعال ملحوظ، وبصوت غير مسموع، قبل أن يهتف أحدهم، مشيرًا إلى الرجل:
– اطمئن يا عم (محمود) .. سنبحث عنه.

لم أكن أميل كثيرًا إلى هؤلاء الشبان، وأوقاتهم التي يهدرونها مع طاقاتهم، على ناصية الطريق، إلا أنني، والحق يقال، شعرت بالفخر والتقدير لهم، عندما اندفع خمسة منهم في جسارة إلى الحديقة، واختفوا في ظلمتها، وعم (محمود) يتابع، وهو يلوح بذراعيه:
– اضيئوا أنوار الحديقة .. ستجدونه مختبئًا هناك حتمًا.

جاوبه الصمت لبضع دقائق، وانفتحت خلالها كل النوافذ؛ ليطل سكان البنايات المطلة على الحديقة، قبل أن يشعل الشبان أضواءها، على نحو جعلها مكشوفة للجميع، في نفس اللحظة التي ارتفع فيها صوت شاب آخر يهتف:
– لا يوجد أحد هنا يا عم (محمود).

تراجع عم (محمود) بحركة عنيفة، كما لو أنه قد تلقى صدمة قوية، وحدق بضع لحظات في الحديقة المضاءة، قبل أن يقول في عصبية:
– ولكنني رأيته .. رأيته يتسلق المواسير في الحديقة.

شعرت بالكثير من الشفقة على الرجل، الذي بدا شديد الارتباك، وهو يواجه نظرات السخط والاستنكار، من أولئك الذين انتزعتهم صيحاته من أمام التلفاز، وحرمتهم من متابعة البرنامج الجيد، وراح الكل يتراجعون إلى داخل منازلهم، في حين عدل عم (محمود) منظاره الطبي، وهو يقول مرتبكًا:
– لقد رأيته.

ثم لم يلبث أن انسحب إلى شقته في هدوء وخجل، في اللحظة التي أطفأ فيها الشبان أضواء الحديقة، وبلغت همهماتهم غير المفهومة مسامعي، وزوجتي تغمغم في اسى:
– مسكين عم (محمود) .. يبدو أن منظاره يحتاج إلى تغيير ..

وعات تتابع البرنامج، في حين بقيت أنا قليلًا في الشرفة، أتابع خروج الشبان الستة من الحديقة، وهو يتضاحكون، و ..
ولكن مهلًا ..
إنهم بالفعل ستة شبان !
لقد أحصيتهم مرتين ..

وأنا واثق من أنهم كانوا خمسة فحسب، عندما اندفعوا إلى الحديقة ..
وبسرعة، قفزت فكرة ما إلى ذهني، فرفعت عينيَّ إلى تلك الفتاة، في شرفة الطابق الثاني، ولمحت ابتسامة الارتياح على شفتيها، وهي تتراجع بدورها إلى المنزل، مغلقة الشرفة خلفها .. 
وعندئذ فهمت ..

فهمت سر شجاعة الشبان الخمسة، وبسالتهم وهم يقتحمون الحديقة، بحثًا عن اللص المزعوم ..
ودون أن أملك نفسي، انطلقت من حلقي ضحكة مجلجلة ..

ضحكة أدهشت الشبان، وأغضبت حتمًا عم (محمود)، الذي سيتصور أنها موجَّهة إليه ..
والذي لن يتصور أبدًا أنه، وعلى الرغم مما رآه، لم يفهم الحقيقة ..
حقيقة اللص .
________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ أوراق بطل ـ رقم 25)

رائج :   أحمد خالد توفيق يكتب .. في ذكرى مجزرة مدرسة بحر البقر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *