قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || شات

ظهر ذلك الزائر فجأة على صفحة الشات الخاصة بها !
“العشاء يا عبير”..
بلغ النداء مسامع عبير، وهي تجلس أمام شاشة الكمبيوتر، فانعقد حاجباها في ضيق، ومطت شفتيها في امتعاض، وهي تواصل الكتابة على لوحة الأزرار لتحكي لإحدى صديقات الشات ما حدث معها، خلال رحلة الصيف في الساحل الشمالي..

وتكرر نداء الأم مرتين، دون أن تجيب عبير، فطرقت الأم باب حجرتها، وهي تقول في يأس، يبدو أنها قد اعتادته:
– ألن تتناولي العشاء معنا؟!

هتفت عبير، دون أن تتوقف عن مواصلة “الشات”:
– كلا.. لقد تناولت شطيرة منذ قليل.
زفرت أمها، مغمغمة:
– أنتِ وشأنك.

لم تبال عبير كثيرا بضيق أمها التي يئست من محاولات انتزاعها من أمام الكمبيوتر، الذي أدمنت الجلوس أمامه، منذ تخرجت في كليتها، منذ أكثر من عام، لم تحاول خلاله البحث عن عمل، ولا مرة واحدة، وكأنها قد وهبت حياتها للكمبيوتر، ولهذا الشات الذي صنعت منه حياتها الاجتماعية كلها..

أما عبير فقد انتهت من الشات مع زميلتها ثم انتقلت إلى زميلة أخرى في شغف غير طبيعي، جعل الساعات تمضي، وأسرتها تنام، وهي مستمرة أمام الكمبيوتر..

وعندما قررت أخيرا، مع اقتراب الفجر، أن تأوى إلى فراشها، ظهر ذلك الزائر فجأة، على صفحة الشات الخاصة بها..

“ع.ج”.. هكذا عرف نفسه، قبل أن يتحدّث معها عن رحلتها الصيفية..
واتسعت عيناها في دهشة بالغة مستنكرة..

إنها لم تعرف “ع.ج” هذا من قبل، ولم تجرِ أي شات معه من قبل، وعلى الرغم من هذا، فهو يذكر لها أمورا لم تخبرها حتى لأعز صديقات الشات..

وفي غضب، سألته عبير من يكون..
في بساطة، أخبرها أنه شخص شديد الإعجاب بها، ويرغب في صداقتها..

وعلى الرغم من دهشتها واستنكارها، دفع الفضول “عبير” إلى أن تسأله: كيف عرف كل هذه الأمور عنها..

وفي سرعة مدهشة تفوق قدرة أي إنسان على الكتابة، ظهر الجواب على الشاشة “أنا أعرف عنك أكثر مما يمكنك تصوره”.
لم يرق لها الجواب، وفكرت لحظة في إغلاق الكمبيوتر، ولكن الفضول دفعها إلى أن تسأل:
” مثل ماذا؟”.

وبنفس السرعة المدهشة، ظهر الجواب..
“أعرف أنك كنت تفكرين الآن في أشرف، ذلك الشاب الوسيم، الذي التقيت به في الساحل الشمالي، والذي يمتلك سيارة سوداء، من طراز “بي. إم. دبليو”.

خفق قلبها بعنف، وبدا لها الجواب مستفزا، فهي بالفعل كانت تفكر في أشرف هذا، ولا أحد سواها يعلم، أو يمكن أن يعلم هذا.
ولكن هناك من يمكن أن يستنتجه..

إنه أشرف نفسه..
ربما هو يمازحها، واثقا في أنها تفكِّر فيه طوال الوقت، بعد أن بهرها بوسامته وشدة ثرائه، منذ أقل من شهر..

نعم .. هو أشرف حتما؛ فهي لم تخبر أحدا عنه، حتى هذه اللحظة..
إنه هو دون سواه..

وبسرعة، كتبت على الشاشة..
“أنت أشرف.. أليس كذلك؟”.

وما أن رفعت سبابتها عن آخر حروف لوحة الأزرار، حتى ظهر الجواب على الشاشة ..
“أشرف شاب تافه، لا يستحقك”.

أدهشتها سرعة ظهور الأجوبة، فتراجعت لحظة في مقعدها، تحاول فهم ما يحدث..
مستحيل أن يكون هذا شخصا آخر..

لا أحد يعلم بأمر أشرف سواها.
ولكن من يمكن أن يكون هذا؟

وكيف يضع إجابات أسئلتها بهذه السرعة؟
انعقد حاجباها في شدة، وهي تحاول البحث عن الجواب..
ربما هو أشرف، ولكنه يختبر مشاعرها نحوه..
ربما..

وربما أعد الإجابات كلها مسبقا، مستنتجا حيرتها إزاء هذه المعلومات والأسئلة..
من المستحيل أن يكون قد روى الأمر لأحد أصدقائه، وتركه يعبث بها..
مستحيل تماما..

صحيح هي لم تتعرفه جيدا، ولكنه لم يبدُ لها أنه من تلك النوعية أبدا..
وفجأة، بينما عقلها منشغل بالبحث عن إجابات تساؤلاتها، ظهرت عبارة على الشاشة..

“لا تشغلي عقلك بالتفكير، فأنا لست صديقا لذلك التافه أشرف، الذي ينافسني الإعجاب بك”.
وانتفض جسدها في دهشة وانفعال..
كيف عرف ما تفكر فيه؟
كيف؟
كيف؟

وبسرعة، نقلت سؤالها إلى الشاشة..
“هل تقرأ أفكاري؟”.

وفي نفس اللحظة، أتاها الجواب..
“بالتأكيد.. أقرأ كل ما تفكرين فيه”.

انعقد حاجباها في شدة، وفكرت في أنه شاب عابث حتما، يعلم أمر علاقتها بأشرف، بوسيلة ما، ويستغل هذا في إخافتها والعبث بها..

وفي ذهنها قررت أن تفكِّر في أمها، وتسأله أن يقرأ أفكارها..
وقبل أن تمد أصابعها لكتابة العبارة، فوجئت بكلمة واحدة تظهر على الشاشة..” في أمك”.

لم تكن قد كتبت العبارة بعد، لذا فقد جعلها الجواب تثب من مقعدها، وتتلفت حولها في خوف، قبل أن تكتب..
“من أنت بالضبط؟ أرجوك”.

مضت لحظات من السكون، وهي تنتظر الجواب في لهفة، ولكنها لم تحصل عليه، طوال الدقائق الخمسة التالية، فكتبت في سرعة..
“أين ذهبت؟”.

أتاها الجواب على الشاشة، بأسرع مما تتوقع..
“لماذا؟ هل افتقدتيني؟”.

انتفض جسدها مرة أخرى، وترددت لحظة، قبل أن تكتب في حزم..
“سأغلق الكمبيوتر الآن”.

أتاها الجواب، قبل أن تتم العبارة..
“لن يمكنك هذا”.

 

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الشمس الباردة

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الخلود

شعرت بعصبية شديدة، وهي تقول لنفسها:
– من يظن نفسه؟! هل تصور أنني لا أستطيع إغلاق الكمبيوتر؟! واهم هو لو تصور هذا.

وبكل العناد، دفعت سبابتها، وضغطت زر إغلاق الكمبيوتر، و…
لم يستجب الجهاز..

تراجعت في دهشة، وحدقت في شاشة الكمبيوتر في ذهول، مع العبارة التي ارتسمت عليها..
“ألم أخبرك؟!”.

انتابها خوف شديد، وهي تضغط زر إغلاق الكمبيوتر مرة..
وثانية..
وثالثة..
ورابعة..
وخامسة..
ولم يستجب الكمبيوتر لأي محاولة..

لقد ظلت شاشته مضاءة، وحملت عبارة صارمة..
“لن يمكنك إغلاق هذا الكمبيوتر، وقطع الشات بيننا، إلا بإرادتي أنا”.

انتفض جسدها، وهي تتساءل في رعب..
أهذا فيروس جديد من فيروسات الكمبيوتر؟

هل دس “ع.ج” هذا في جهازها فيروسا جديدا يمنع إغلاق الكمبيوتر؟ ولكن كيف فعلها؟ كيف؟ حاولت أن تغلق صفحة الشات لتعيد فحص جهاز الكمبيوتر، عبر برنامج مضاد للفيروسات، إلا أن الصفحة أيضا لم تستجب، في حين حملت الشاشة عبارة جديدة..
“دعيني ألتقي بك أولا، وبعدها سيستجيب لكِ الكمبيوتر”.

لم تحاول الرد على عبارته هذه المرة، وجسدها ينتفض في قوة، وإنما تراجعت بمقعدها، وراحت تحدق في العبارة في ذهول، قبل أن تندفع فجأة، وتنتزع قابس الكهرباء، المتصل بالكمبيوتر..

ووفقا لأي مقياس فيزيائي في الوجود، كان المفترض أن يغلق هذا الكمبيوتر على الفور، إلا أن هذا -للعجب- لم يحدث!

مع غياب التيار الكهربي، ظلت شاشة الكمبيوتر مضاءة، وتراصت عليها عبارة جديدة..
“دعيني ألتقي بك أولا”.

كان جسدها كله ينتفض رعبا، وغمغمت بصوت مرتجف:
– ولكن هذا مستحيل!

لم يكن جهازها بميكروفون لنقل الصوت، وعلى الرغم من هذا، فقد جاءت العبارة التالية لتثير كل فزعها..
“مع مثلي، لا يوجد مستحيل”.

راح جسدها ينتفض في قوة، وعجزت ساقاها عن حملها خارج مقعدها، وعجز حلقها حتى عن الصراخ أو الاستنجاد بأحد..

وعلى الشاشة ظهرت العبارة نفسها تتكرر..
“فقط دعيني ألتقي بك”.

وبكل صعوبة، غمغمت:
– كيف؟

أتاها الجواب على الشاشة، وكأن “ع.ج” هذا يسمعها..
“اطلبي مني أن ألتقي بك”.

غمغمت في رعب:
– متى؟
ومرة أخرى أتاها الجواب في سرعة..
“الآن.. اطلبي مني الآن”.

كان الرعب يملأ كيانها كله، والدموع تنهمر من عينيها من شدة رعبها، وعلى الرغم من هذا فقد غمغمت:
– فليكن.. لو أن هذا ينهي ما أنا فيه.

حملت الشاشة كلمة واحدة بحروف كبيرة..
“اطلبيها”.

هتفت بصوت مختنق:
– التق بي.. الآن.

لم تكد تنطقها، حتى انطفأت الشاشة فجأة، ودوت فرقعة مكتومة في الحجرة، وهوى قلب عبير بين قدميها، عندما ظهر شخص إلى جوارها بغتة، وهو يقول:
– “لم يكن من الممكن أن ألتقي بك، دون أن تطلبيها صراحة”.

واتسعت عينا عبير عن آخرهما، في رعب ما بعده رعب، مع وجه شديد الحمرة، وعينيه المشقوقتين طوليا كأعين الثعابين، وتراجعت بمقعدها في عنف، فتهاوى بها، وارتطم رأسها بطرف فراشها، فسقطت في عنف..
واستيقظت..

وفي رعب، حدقت في شاشة الكمبيوتر المضاءة أمامها، والتي تحمل صفحة الشات الخاصة بها، والتي ليس عليها أثر لمحادثاتها مع “ع.ج” هذا..

وفي ذعر تلفتت حولها، قبل أن تطلق زفرة عصبية، وتغمغم:
– يا إلهي! لقد كان كابوسا رهيبا.. لا ريب في أن النوم قد غلبني أمام شاشة الكمبيوتر، فكان هذا الكابوس..

ضغطت زر إغلاق الكمبيوتر، فاستجاب لها في يسر، ونهضت إلى فراشها، مع نسمات الصباح الأولى، وهي تتمتم:
– لا بد أن أقلل من ساعات جلوسي أمام الشات.. أمي كانت على حق.. هذا يصيب العقل بإجهاد شديد.

رقدت في فراشها، وهي تستعيد ذكرى ذلك الكابوس الرهيب، وحاولت أن تبتسم، وهي تغلق عينيها، مغمغمة:
– ولكن لماذا “ع.ج”؟ أي شيء يمكن أن يعنيه هذا؟
– “يعني عفريت من الجن”.

العبارة جعلتها تقفز من فراشها بكل رعب الدنيا، ووجدته يقف أمامها، وذيله يتلاعب خلفه، وهو يبتسم بأنيابه الحادة، قائلا:
– هكذا يطلقون علينا..

وصرخت عبير..
وصرخت..
وصرخت..
ولم يسمعها أحد..
على الإطلاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *