قصة أخرى من القصص التي لا تحدث إلا في ميكروباص عائد لطنطا، ولا تحدث إلا بعد منتصف الليل، ولا تحدث إلا معي.
عندما تصمم على أن القاهرة لا تصلح لقيادة السيارات ولا تصلح لأي استعمال آدمي أصلاً، فعليك أن تدفع الثمن، وهذا الثمن قد يتطلب ركوب الميكروباص بعد منتصف الليل لأنه لا توجد قطارات، بينما السائق المسجّل خطر والذي لا يحمل رخصة، والذي يحمل ندبة مطواة على خده، والذي أفرغ زجاجة التوسيفان في جوفه منذ خمس دقائق.. هذا السائق يعدّ الركاب في الظلام بعينين لا تريان تقريبًا.
السؤال هنا: هل يعيش هؤلاء السائقون حتى يروا طنطا؟.. يُخيّل لي أنهم طابور طويل لا ينتهي.. ينطلق كل منهم بالميكروباص.. ينقلب ويموت.. فيقول ريّس الموقف الجالس يدخن الحشيش في غرزة شيحة:
ـ “لا حول ولا قوة إلا بالله.. الله يرحمك يا (حبارة).. يلّا دورك يا (شيحة)”.
فيبتلع (شيحة) قرصين من البرشام، وينهي لعبة (البرغوتة) التي كان يلعبها، ويهرع ليقود الميكروباص التالي..
حشرت نفسي في ميكروباص الموت هذا، وكانت أمامي امرأة ريفية من الطراز الذي أنجب قردًا لا يكف عن البصق على الناس والسباب والوثب وجذب النظارات.. وهي تقول له في ملل:
ـ “عيب يا وله.. ما تضايقش الأستاذ..”.
بالطبع ليس هذا رأي الصبي؛ لأن فكرة أن يكون المرء أستاذًا تبدو له مضحكة جدًا. هل من نجدة؟ هنا جاءت النجدة في أغرب صورة..
هذا الشاب الضخم أسود البشرة لامعة كالباذنجان، يلبس فانلة داخلية تبرز منها عضلات مرعبة، والذي امتلأ جسمه بالوشم الأخضر. أصلع الرأس تمامًا يدس سماعتي جهاز (آي بود) في أذنيه ويمشي في تؤدة ليركب الميكروباص، فيحشر جسده العملاق جوار السائق. لو كنت قد رأيت العملاق الزنجي (مايكل دونكان) في فيلم (الميل الأخضر) فقد أرحتني من الوصف.
عرفت على الفور أنه ليس مصريًا.. ليس عربيًا.. إنه زنجي أمريكي.. يبدو كرابر Rapper
من الذين نراهم في الكليبات يتكلمون بلا توقف، وهم يهاجمون الكاميرا في تعصب كأنها ضايقتهم بشيء ما، ويأتون بحركات غريبة جدًا بأصابع أيديهم..
رفع سماعة الجوال وتكلم مع أحدهم، فميزت اللهجة الأمريكية على الفور. من أين جاء هذا الفتى وماذا جعله يركب هذا الميكروباص؟ لابد أن وراءه قصة مسلية ما..
بالطبع صار هو تسلية القرد الصغير المزعج، وسرعان ما مد الصبي يده لينزع الجوال ليلعب به.. قالت أم الصبي كلمة متخاذلة أخرى:
ـ “عيب يا وله… متضايقش الخواجة..”.
لكن الأخ الإفريقي الأمريكي هز رأسه في تسامح، وقال بعربية لا بأس بها:
ـ”سيبيه.. سيبيه.. هو ولد صغير.. هو عايز يلأب..”
رحت أراقبه في مقت.. أمقت مطربي الراب ومن يبدون مثلهم كالجحيم. فيهم غرور لا مبرر له، وتعالٍ بلا أية مقومات.. لا أجد في أدائهم صوتًا ولا لحنًا ولا أي شيء، دعك من ارتباطهم في ذهني بالمخدرات والجنس.. لا ترى أغنية راب واحدة دون أن تجد حول المطرب مائة فتاة شبه عارية تتلوى، ويبدو أن تاريخ البطن والصدر كعورتين يجب تغطيتهما قد انتهى. والكلمات نفسها فضيحة لو استطعت أن تتابعها.. المطرب فيه وقاحة وتحدٍّ وقلة أدب، ومن الواضح أنه ضد القيم والقانون وكل شيء. وكنت أتساءل دومًا من أين يأتون بكل هذا الغرور؟.. هل العنصرية المضادة بلغت حد الاشمئزاز من كل ما هو أبيض؟
ابني المراهق يرى العكس تمامًا، ويعتقد أن هذه الضوضاء هي أروع شيء جاد به العقل البشري منذ عصر شوبان، لكنني أضيق عليه أيما تضييق وأمنعه من…..
لكن كم الساعة الآن؟ نصف ساعة بعد منتصف الليل، والولد قليل الأدب في الفراش الآن يتأهب للنوم. هذه فرصة أروع من أن تضيع.. مطرب راب أو واحد يبدو مثلهم بالضبط في ميدان رمسيس.. لن يفلت من يدي. ملت على العملاق الأسود، وسألته بالإنجليزية إن كان يحب الراب؟؟ فقال بالعربية في حماسة:
ـ “طبعًا.. أنا كنت أغني راب في نيويورك”.
إذن هو المطلوب! قلت له إن ابني يهيم حبًا بالأفارقة الأمريكان، ويتمنى لو صحا من النوم ليجد نفسه أسود أصلع ضخمًا مليئًا بالوشم مثلهم، دعك من أن الفتيات البيض يهمن حبًا بكم.. قلتها بالعامية الأمريكية كما يقولونها في الأفلام
“White chicks just dig you guys”
فهز رأسه ولمعت عيناه في ثقة ورضا.. لم يعتبرها مجاملة بل حقيقة كونية.. قلت له إن ابني سوف يطير فرحًا لو تكلم معه لبضع دقائق، ولم أتركه يفكر كثيرًا إذ طلبت ابني على الجوال، وقلت للصبي المندهش المذعور:
ـ “موهامد… كلم عمو.. هي إز أ رابر..”.
لسبب ما وجدت نفسي أنطق اسم ابني (موهامد) ولا أعرف السبب. ووضعت السماعة على أذن الإفريقي المندهش، ودارت محادثة إنجليزية طويلة مرحة.. سمعت أسماء مجموعة (الصيع) التي يعشقها ابني، مثل (50 قرشًا) و(توباك) و(إيكون).. تبين أن هذا الأخ كان في عصابة شوارع مع (ماد دوج) -هل هذا اسمه؟- ما شاء الله.. لكن المهم أن ابني سعيد جدًا.. أخيرًا تشرف بالكلام مع رجل عصابات زنجي من نيويورك..
انتهت المكالمة أو انتهى الرصيد لا أذكر، لكن الأخ الإفريقي ناولني الهاتف وصاح بالإنجليزية في مرح:
ـ “يا للسماء!.. إنه خبير في الراب والهيب هوب!!”
هنا سألته عن اسمه فهز رأسه الأصلع وقال ضاحكًا:
ـ “موهامد.. نفس الاسم..!”
ـ “هل أنت مسلم؟”
قال بالإنجليزية ضاغطًا على كلماته:
ـ “منذ عامين.. والإسلام يجري في عروقي مجرى الدم”.
إذن هذا التاريخ الضخم هو تاريخه قبل أن يعتنق الإسلام. هنا كان سائق الميكروباص قد توقف أمام أحد رجال شرطة المرور.. كلمات هامسة، ثم دس ورقة مالية ما في يد الشرطي وعدنا نتحرك.. المشهد اللعين المعتاد..
بالطبع لاحظ الجميع ما حدث، وقدرت أن الأمريكي لا يفهم معنى هذا، لكنه صاح في غضب حقيقي:
ـ “رشوة..!.. الرشوة هرام!!”
ثم قال للسائق في وقار كأنه إمام مسجد:
ـ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
راح السائق يشرح له بلسانه الملتوي من التوسيفان كيف أن العسكري غلبان، وهو غلبان وكلنا غلابة ولابد من تمشية الحال، لكنه راح يردد:
ـ “من غشّنا فليس منا”.
وراح يتكلم في الدين طيلة الرحلة الرهيبة إلى طنطا. لاحظت مع الوقت أن آذاننا احمرت؛ لأن الرجل يناقش أشياء منطقية وواضحة اعتبرناها مسلمات. حتى أن ركاب العربة بدؤوا يطلقون عليه (شيخ محمد)، وعرفت أنه متديّن ومثقف دينيًا جدًا. عرفت كذلك أنه في مصر يجوب مدنها لإعطاء دروس اللغة الإنجليزية لطلبة الآي جي.
ما أغرب هذا الموقف!.. الأخ الأصلع الأسود الذي اعتبرته من عصابات مانهاتن تبيّن أنه أعلمنا بالدين على ما يبدو. ولا أنكر أنني شعرت بإعجاب شديد به، فهذا رجل قد بحث وفكر واختار.. فلا أزعم أنني أستحق أن أصافحه. سوف يندهش ابني كثيرًا عندما يعرف بقية المشهد.
عندما افترقنا تبادلنا أرقام الهاتف وقال لي ضاحكًا:
ـ “سوف أحكي لابنك الكثير عن (توباك) عندما نلتقي.. سلام..”
قلت له وأنا أبتعد:
سلام يا شيخ محمد.. ادع لنا ..