دين و دنيا

سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء الخامس

إنتهت معركة بدر بإنتصار المسلمين .. واقع جديد تعيشه الجزيرة العربية .. هناك دين جديد بدأ يظهر .. هناك أيضاً نبى يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يدعوا لعبادة إله واحد و يُنَحى العصبية القبلية جانباً و يضع العصبية كلها لله و دينه ..

هذا واقع جديد و غريب على قبائل إعتادت الفرقة و التفاخر فيما بينها بالأنساب و الإغارة على بعضها البعض بين الحين و الأخر لأتفه الأسباب .. واقع جديد كانت قريش أشد المتضررين منه كونها زعيمة العرب التى أهينت مؤخراً .. كان لابد من الرد و الرد لابد و أن يكون سريعاً ..

معركة بدر لم تكن مجرد هزيمة عادية لقريش .. خسائر المعركة طالت كل شيىء .. السمعة .. التجارة .. الأنساب .. كبار القوم ..

قبل بدر مات الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل أما بعد بدر فمات أبو جهل و عتبة بن ربيعة و أمية بن خلف ..

لم يبقى فى مكة من كبار قومها سوى أبو سفيان صخر بن حرب و سهيل بن عمرو بالإضافة لعدد من الشباب مثل عكرمة بن أبى جهل و  خالد بن الوليد و  صفوان بن أمية ..

قيادات قريش الكبيرة توفت و أصبح الأمر فى يد جيلٌ جديد .. يجب عليهم أن يأخذوا بالثأر سريعاً و إلا فلن تكون هناك قريش بعد اليوم ..

قافلة أبو سفيان التى نجت تم رصد قيمتها بالكامل لتجهيز جيش قريش .. موعد المسلمين الآن مع معركة أحد ..

قام رسول الله ﷺ بترتيب الجيش بعد أن قرأ أرض المعركة جيداً و وضع فرقة من الرماة على أحد التلال بالقرب من ميسرة المسلمين و أمرهم بعدم التحرك حتى لو رأوا جيش المسلمين يتخطفه الطير ( أى منهزمين ) ..

النصر كان قريباً جداً من المسلمين لولا قائد خيل المشركين وقتها .. قائد لم يهزم فى أى معركة خاضها طوال حياته .. خالد بن الوليد ..

ضغط جيش المسلمين بكل خطوطه على المشركين و أجبرهم على التراجع حتى فر أغلب المشركين بالفعل و أثناء تراجعهم تخففوا من دروعهم ليسهل فرارهم فلما رأى الرماة هذا ظنوا أن المعركة قد انتهت و حان وقت جمع الغنائم فنزل أغلبهم لجمعها

فى نفس اللحظة كان فرسان قريش ثابتين فى أقصى ميمنتهم بقيادة خالد و ما أن رأى ما حدث إلا و استثمره بالإلتفاف حول جيش المسلمين فأصابهم الإرتباك و تفرقوا فى كل الإتجاهات .. تفرقوا حتى عن رسول الله ﷺ ..

رائج :   القائد المُلهم .. مجدي يعقوب

كانت تلك أحد أصعب اللحظات على جيش المسلمين فى التاريخ .. رسول الله وحده ينادى :

( إلى يا فلان .. إلى يا فلان .. أنا رسول الله )

كسرت خوذته ﷺ و جرحت جبهته و كسرت أنفه و كاد المشركون أن يظفروا به لولا أن لمحه الصحابى أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصارى الذى ألقى بنفسه فوق رسول الله فكانت السهام و الضربات تأتى فيه بدلاً من رسول الله ﷺ فلما رآه الصحابة تجمعوا حوله و كانوا سبعة من ضمنهم الصحابى مصعب بن عمير و الذى قتله أحد المشركين يدعى  عبد الله بن قميئة فظن أنه قتل رسول الله فصاح وسط المعركة :

( قتلت محمدا .. قتلت محمدا )

و ما أن سرت الصيحة بين المسلمين حتى أصيبوا بالوهن فتراجعوا للخلف .. فى نفس الوقت كان رسول الله ﷺ يستند إلى إثنين من أصحابه فرأه أحد المشركين يدعى أُبى بن خلف الجمحى و كان قد أقسم على قتله فقام بالهجوم عليه إلا أنه ﷺ طعنه فى جنبه فسقط يخور فى الأرض من أثر الطعنة و جدير بالذكر أن هذا هو المشرك الوحيد الذى قتله النبى ﷺ طوال حياته ..

بعد تلك الوقعة تراجع الجيش بالكامل إلى أحد الجبال القريبة بعدما استعادوا صوابهم برؤية رسول الله حياً .. كانت تلك إستفاقة بالفعل و لكنها كانت متأخرة للغاية ..

* وقف أبو سفيان متبختراً أمام المسلمين ثم قال صائحاً :

( أفى القوم محمد ؟ )

فلم يرد عليه أحد بعد أن أمرهم النبى بعدم الرد ..

– ثم نادى :

( أفى القوم ابن أبى قحافة ؟ )

يقصد أبا بكر الصديق فلم يرد عليه أحد ..

– فنادى مرة أخرى :

( أفى القوم عمر بن الخطاب ؟ )

فلم يرد أحد .. فاستدار إلى جيشه و قال :

( أما هؤلاء فقد كُفيتموهم ” أى قتلوا ” )

عندها لم يتمالك عمر أعصابه و صرخ فيه قائلاً :

( كذبت و الله .. إن الذين عددتهم لأحياء كلهم )

فرد أبو سفيان :

( لأنت أصدق عندى من  بن قُميئة يا بن الخطاب .. الحرب سجال .. يوم بيوم بدر )

فقال رسول الله لأصحابه :

( أفلا تردون عليه ؟ )

فقالوا :

( و ما نقول يا رسول الله ؟ )

قال :

( قولوا : لا سواء .. قتلانا فى الجنة و قتلاكم فى النار )

فقالها عمر كونه الأجهر صوتاً ..

فاستدار أبو سفيان قائلاً :

( أُعْلُوا هُبٙل )

فرد عمر بعد أن أخبره رسول الله ما يقول :

( الله أعّلَى و أجَّل )

كانت الهزيمة شديدة بالطبع على المسلمين و لكن ردود رسول الله ﷺ و التى قالها عمر كانت تخزى الكافرين و إن أظهروا عكس ذلك ..

رائج :   تعرف على حقيقة هَارون الرشيد قاهر الروم

هزيمة حاول يهود بنى النضير إستغلالها خاصة بعد أن طردهم رسول الله من المدينة المنورة بسبب تآمرهم عليه و نقضهم لعهدهم مع المسلمين و تعاونهم مع مشركى قريش ..

حفر المسلمين الخندق الذى منع الأحزاب من الإقتحام و كان من ضمنهم عمر .. و ما أن إنتهت الغزوة بإنسحاب المشركين حتى بدأ الدين ينتشر أكثر فأكثر ..

غزوة الخندق كانت نقطة فاصلة أخرى فى تاريخ المسلمين حيث لم يعود المشركين لغزو المدينة مرة أخرى ..

بدأت العرب تسمع أكثر بمحمد و بصحابته الذين استطاعوا صد هجوم أكثر من عشرة آلاف مقاتل .. بدأت حجة الدين تظهر للناس بعد تحقيق إنتصارات على الأرض ..

بدأ عدد المسلمين يزيد و كلما زاد العدد بدأ حنين المسلمين إلى مكة يزداد .. فى العام السادس من الهجرة قرر رسول الله أن يخرج بالمسلمين إلى مكة معتمراً بعد أن رأى فى منامه أنه يدخل مكة و يطوف بها مع أصحابه

فخرجوا فى عشرة آلاف معتمر اعترضت قريش على مجيئهم و رفضوا أن يدخلوها عنوة فينقص قدرهم فى عيون العرب و رفضوا أيضاً أن يقاتلوهم فتعيرهم العرب بأنهم قاتلوا أبناء عمومتهم و قد جاءوا معتمرين فأرسل رسول الله ﷺ عثمان بن عفان رسولاً إليهم للوصول إلى حل وسط يرضى الطرفين و هو ما أفضى فى النهاية إلى توقيع صلح الحديبية بين الطرفين بالشروط التالية :

  • أن تعقد هدنة بين الطرفين لمدة عشرة أعوام
  • أن تترك الحرية للقبائل العربية فى الدخول فى حلف المسلمين أو حلف قريش
  • أن يعود المسلمين عامهم هذا على أن يعودوا فى العام التالى
  • ألا يعتدى أياً منهما على الأخر أو على حلفاؤهم لأى سبب من الأسباب
  • أن يرد المسلمين من يأتيهم من قريش و ألا ترد قريشاً من يأتى إليها من المسلمين

عمر كان أحد الشهود على الصلح و ما أن إنتهت مراسم التوقيع حتى أصابه و أصاب باقى الصحابة غماً شديداً بسبب عودتهم أدراجهم و بسبب الشروط المجحفة التى إحتواها الصلح فذهب عمر إلى رسول الله ﷺ و قال له :

( يا رسول الله .. ألست نبى الله حقاً ؟ )

– فأجاب أن بلى

فقال :

( ألسنا على الحق و عدونا على الباطل ؟ )

– فأجاب أن بلى

فقال :

( فلم نعطى الدنية فى ديننا إذاً ؟ )

رائج :   سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء السادس

– فأجاب النبى :

( إنى رسول الله و لست أعصيه و هو ناصرى )

فقال عمر :

( أوليس كنت تُحدثنا أنا سنأتى البيت فنطوف به ؟ )

فقال النبى :

( بلى .. أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ )

فأجاب عمر :

( لا )

فقال رسول الله :

( فإنك آتيه و مطوف به )

يقول عمر :

( ما زلت أصوم و أتصدق و أعتق من الذى صنعت مخافة كلامى الذى تكلمت به يومئذٍ حتى رجوت أن يكون خيراً )

عمر كان شديداً فى الحق و كان يتكلم بهذا الأسى غيرة على الدين و لكنه أخطأ عندما أخذ بظاهر الأمور دون أن يعلم بواطنها فرسول الله ﷺ كان أَغْيَر الناس على الدين و لم يعطى الدنية أبداً حاش لله و لكنه كان يتحرك بناءاً على مقتضى الأمور و ما أوحى به الله إليه ..

صلح الحديبية كان فى ظاهره شراً للمسلمين و لكن ما حدث بسببه لاحقاً حمل كل الخير للإسلام و المسلمين ..

فلن يمر عامان من الهدنة حتى تفتح مكة أبوابها أمام المسلمين دون قتال .. قريش زعيمة العرب خلال أقل من عامان من توقيع الصلح لن تجد جيشاً تقف به أمام المسلمين و هم يدخلون إلى البيت الحرام ..

ظنت قريش أنها بالشرط الأخير فى الصلح ضمنت أن يكون لها السبق على محمد و ظنوا أنهم قد مكروا به إلا أن ما حدث كان على غير ما توقعوا حين بدأت الناس فى مكة فى الدخول للإسلام تدريجياً و كلما أسلم أحدهم حبسه أهله حتى لا يخرج من مكة فساروا بين الناس دعاة لدين الله فأسلم بسببهم عدد كبير

فأُجبر قادة قريش على طردهم ضامنين أنهم لن يستطيعوا اللجوء للمدينة بسبب العهد فعاش من طُرد فى الجبال مكونين فرقاً هدفها الإغارة على قوافل قريش التجارية فتأثرت قريش بذلك حتى اضطروا لأن يبعثوا وفداً إلى رسول الله يطالبونه بإلغاء هذا الشرط فلما تم إلغاؤه ذهب كل من أسلم من قريش إلى المدينة فقويت شوكة المسلمين بهم أكثر ..

كانت كل خطوة تظن قريش أنها ضد رسول الله تتبدل لتصبح فى صالحه و صالح المؤمنين .. كان هذا وعد الله و لكن حَمِية عمر منعته من رؤية ذلك الوعد وقت توقيع الصلح ..

  • فترة قصيرة حتى يعتدى بنى بكر على خُزاعة ..
  • فترة قصيرة حتى تلجأ خُزاعة إلى رسول الله ..
  • مكة تقترب أكثر من أى وقت مضى ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة