منذ أن تولى أبو بكر الصديق الخلافة و الأخبار بدأت تتواتر إليه عن تململ بعض القبائل من أمر دفع الزكاة .. بعد فترة إتضح الأمر أكثر .. وفد قبائل عبس و غطفان و ذيبان جاء لمقابلة أبو بكر و مفاوضته على الإلتزام بأركان الإسلام ما عدا الزكاة كونها أموالهم يفعلون بها ما يشاءوا فرفض أبو بكر طلبهم و اشتد عليهم فى الحديث فخرج الوفد و قد أضمروا للمسلمين شراً ..
فى ذلك الوقت جيش المسلمين الرئيسى بقيادة أسامة بن زيد كان قد خرج لمواجهة نصارى العرب الذين تحالفوا مع الروم و قد رأى الوفد أن المسلمين فى قلة و أنها فرصة سانحة للإجهاز عليهم ..
بعد ذهاب الوفد اجتمع الصحابة بأبى بكر محاولين إثنائه عن قراره و التساهل مع القبائل كونهم كانوا قريبين من المدينة و بإمكانهم أن يجمعوا لهم ما ليس لهم طاقة به الآن و قد خرج جُل الجيش و كان من بين هؤلاء الصحابة عمر الذى قال لأبى بكر :
كيف تقاتل الناس و قد قال رسول الله ﷺ :
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .. فمن قال لا إله إلا الله عصم منى ماله و نفسه إلا بحقه و حسابه على الله
فرد أبو بكر :
إلا بحقه يا عمر .. و الله لأقاتلن من فرق بين الصلاة و الزكاة فإن الزكاة حق المال .. والله لو منعونى عقالاً – الحبل الذى يجر منه البعير – كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها
عندها تبين لعمر و لباقى الصحابة أن حديث أبو بكر هو الأصح و أنهم لو تنازلوا اليوم عن ركن واحد من أركان الإسلام فمن يدرى فقد لا يستطيعون غداً الحفاظ على باقى الأركان فعزم عمر على قتال مانعى الزكاة حتى و إن كان المسلمين فى قلة وقتها ..
فى ذلك الوقت انتشرت الأخبار فى جزيرة العرب و ارتدت معها جميع القبائل إلا ثلاث مناطق فقط .. المدينة المنورة .. مكة .. الطائف و انتشر بين القبائل مدعو النبوة مثل طليحة بن خويلد الأسدى و سجاح بنت الحارث .. و أخيراً مسيلمة بن حبيب أو مسيلمة الكذاب
و ظهر للجميع أنه يجب إعداد خطة لقتال من ارتد من القبائل حتى يعودوا للإسلام أو يهلكوا .. خطة كان عمادها الرئيسى سيف الله المسلول خالد بن الوليد .. خالد .. صديق طفولة و شباب عمر و منافسه الدائم فى الفروسية و المصارعة و شبيهه فى الجسم و القوة البدنية و المهارة القتالية .. ذلك كله لم يشفع لخالد عند عمر لما سمع بخبر قتله لمالك بن نويرة و زواجه من زوجته ليلى ..
اختلفت الروايات فى أمر قتل خالد لمالك بن نويرة فبعضها قال أن المسلمين عندما أتوا بنى يربوع قوم مالك أذّنوا و كان علامة بدأ القتال هى الآذان فإن ردت القبيلة الآذان فهذا معناه أنها عادت للإسلام راضية بالإلتزام بالزكاة و أما القبيلة التى لا ترد الآذان فهى بذلك تتجهز للقتال و فى حالة بنى يربوع فقد كان اليوم به ريحٌ شديدة فلما أذن المسلمون لم يسمع غالبيتهم رداً ما عدا الصحابى أبو قتادة الذى قال إنى سمعتهم يؤذنون فأخذ خالد برأى الغالبية العظمى و أمر بالهجوم عليهم و تم حبسهم حتى يستعلموا أمرهم و كانت الليلة باردة فقال لهم خالد :
( أدفئوا أسراكم )
و كلمة أدفئوا فى تلك الناحية من الجزيرة كانت تعنى اقتلوهم فقاموا بقتلهم .. تلك رواية و هناك رواية هى الأقرب للصحة و هى أنه بعد أسر المسلمين لمالك و قبيلته جاء له خالد فقال له :
هل أسلمت ؟
رد فقال : أنا آتى بالصلاة دون الزكاة
قال خالد :
أما علمت أن الصلاة و الزكاة معاً .. لا تقبل واحدة دون أخرى
رد مالك :
قد كان صاحبكم يقول ذلك
أو ما تراه صاحباً لك .. و الله لقد هممت أن أضرب عنقك بهذه الكلمة
فاشتد الكلام بينهما و رد مالك ردود استفزت خالد فقال له :
إنى قاتلك
فرد مالك :
أو بذلك أمرك صاحبك ؟
– هنا تأكد لخالد أنه لم يُسلم حقاً فما من مسلم يأتى بالصلاة دون الزكاة و يذكر رسول الله ﷺ بلفظ صاحبك فأمر ضِرار بن الأزور بقتلِه فقَتَله بالفعل ..
فى تلك الأثناء كان أبو قتادة قد ترك الجيش و وصل إلى أبو بكر الصديق فى المدينة شاكياً له ما قام به خالد فغضب عليه و أمره أن يرجع إلى خالد و لا يعود إلا معه و هو فعل ذلك حتى لا يشجع الجُند على رفض أوامر قادتهم و التمرد عليهم .. حينها قال عمر :
إن فى سيف خالد رهقاً .. فإن لم يكن هذا حقاً حق عليك أن تقيده
و ظل يلح على أبى بكر حتى قال رد عليه قائلاً :
يا عمر .. تأول فأخطأ .. فارفع لسانك عن خالد فإنى لم أكن لأُشيم سيفاً سله الله على الكافرين
ثم كتب إلى خالد كى يأتيه و هو ما حدث بالفعل .. خالد عندما دخل المدينة كانت على ثيابه آثار القتال حيث كان يلبس قباءاً عليه صدأ الحديد من أثر الدماء و كان يعتمر عمامة و قد غُرز فيها سهماً – و كانت العرب تفتخر بهذا كون صاحب العمامة من المقاتلين – فما أن رآه عمر حتى استشاط غضباً فقام له و نزع السهم من عمامته و كسره و صرخ فيه :
أرئاءاً – يقصد نفاقاً – و قد قتلت إمرؤ من المسلمين و أخذت إمرأته .. و الله لأرجمنك بأحجارك
دخل خالد المسجد دون أن يرد على عمر بكلمه إحتراماً له حتى اجتمع مع أبى بكر فسأله :
– لماذا أسرته ؟
قال
: لم نسمع آذاناً
– لماذا قتلته ؟
قال :
لم يعلن إسلامه و مازال مصراً على رفض الزكاة
– كيف أخذت زوجته ؟
قال :
هى مسلمة و أخذتها بعد إنتهاء عدتها
فأمره بالعودة إلى مهمته دون أن يعاقبه و لو كانت جريمة قتل أو زنى فما كان أبو بكر الصديق أو باقى الصحابة و على رأسهم عمر نفسه و هو أكثر معارضيه كانوا تركوه دون عقاب و حاشاهم رضوان الله عليهم أن يجاملوا خالد – رضى الله عنه – فى حد من حدود الله ..
استمرت حروب الردة بقيادة خالد و انتهت بإنتهاء معركة اليمامة و بقتل مسيلمة الكذاب و كانت أحد أقسى المعارك و أشدها على المسلمين و قد مات فيها أكثر من خمسمائة من حفظة القرءان الكريم فلما سمع عمر العدد فزع و خشى أن يقتل المزيد منهم فيضيع شيء من القرءان فذهب إلى أبو بكر و قال :
إنّ القتل استمر بقُراء القرءان و إنى أخشى أن يستمر القتل بالقُراء فى المواطن فيذهب كثير من القرءان و إنى أرى أن تأمر بجمع القرآن
فتخوف أبو بكر من الأمر و قال :
كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ ؟
فظل عمر يحاوره حتى أقنعه فاستدعى زيد بن ثابت كاتب الوحى لرسول الله ﷺ و أمره بتتبع القرءان و جمعه بعد ان عرض الأمر على صحابة رسول الله ﷺ و اقتنعوا به ..
عمر – رضى الله عنه – كان يعتبر الذراع اليمنى لأبى بكر و كان مستشاره الأول فى الأمور الإدارية للدولة و كان فى الغالب لا يأخذ قراراً إلا بعد إستشارة صحابة رسول الله و على رأسهم عمر و حدث هذا حين جاء عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس إلى أبى بكر فقالا له :
يا خليفة رسول الله .. إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة .. فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم
فنظر أبو بكر لمن حوله و قال :
ما تقولون فيما قالا إن كانت أرضاً سبخة لا ينتفع بها ؟
فقالوا :
نرى أن تقطعهما إياها لعل الله ينفع بها بعد اليوم
فأقطعهما إياها و كتب لهم كتاباً بهذا و أشهد القوم و اشترط عليهم أن يشهد عمر على هذا الكتاب حيث كان غير موجود فى ذلك المجلس فانطلقا حتى يشهدانه فوجداه قائماً على بعير له فأخبراه بالأمر فما أن سمع حديثهما إلا و أخذ الكتاب منهما ثم تفل عليه فمحاه – أى بصق عليه – فأقبلا على أبى بكر غاضبين و قالا :
و الله ما ندرى .. أنت الخليفة أم عمر ؟
فقال :
بل هو .. لو كان شاء
فدخل ورائهم عمر و هو غاضب فوقف أمام أبى بكر قائلاً :
( أخبرنى عن هذه الأرض التى أقطعتها هذين .. أرض هى لك خاصة أم للمسلمين عامة ؟ )
فقال :
( بل للمسلمين عامة )
فرد عمر :
فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين ؟
قال :
استشرت هؤلاء الذين حولى فأشاروا على بذلك
فرد عمر :
فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك فكل المسلمين أوسعتهم مشورة و رضى ؟
فقال أبو بكر :
قد كنت قلت لك إنك على هذا أقوى منى و لكنك غلبتنى
و كان أبو بكر رضى الله يدفع الخلافة نحو عمر و عمر يردها عليه و يقول :
أنت أفضل منى
فيرد أبو بكر عليه قائلاً :
أنت أقوى منى
فيرد عمر :
فإن قوتى لك مع فضلك
أبو بكر – رضى الله عنه – كان يحب عمر حباً جماً و كان يثق فيه حيث كان يستخلفه على المدينة عند خروجه منها و كان يجعله يصلى بالناس عند غيابه أو فى مرضه و كان يجعله يحج بالمسلمين فى العام الذى لا يحج فيه و من المهام التى أوكلها أبو بكر لعمر فى خلافته أيضاً كان أمر القضاء حينما طلب منه إعانته عليه فمر على عمر عام كامل لم يختصم إليه أحد فأتى إلى أبو بكر يطلب منه إعفائه من القضاء فقال أبو بكر :
أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر ؟
فرد عمر قائلاً :
لا يا خليفة رسول الله .. و لكن لا حاجة بى عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه و ما عليه من واجب فلم يقصر فى أدائه .. أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه .. إذا غاب أحدهم تفقدوه .. و إذا مرض عادوه .. و إذا افتقر أعانوه .. و إذا احتاج ساعدوه .. و إذا أصيب عزوه و واسوه .. دينهم النصيحة .. و خلقهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر .. ففيم يختصمون ؟
هذا هو أبو بكر و هذا هو عمر و ها هم صحابة رسول الله ﷺ و هذه هى أمة الإسلام وقتها .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. كل فرد منهم بأمة فى زماننا هذا ..
- أبو بكر الصديق بدأ يظهر عليه التعب ..
- على عمر أن يستعد .. فالحمل ثقيل ..
- عمر ستطلبه الدنيا و هو لها رافض ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..