أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

علامات الخطر ! ..رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

همة الإنسان هي التي تعينه على مغالبة أهواء النفس ، وعدم الانسياق وراء رغائبها – وحدها – دون رادع من ضمير أو دين  .

أرجو أن يتسع صدرك لرسالتي هذه فقد دفعني لكتابتها لك تأثري برسالة ” الموعد النهائي” للزوج الذي طالبته زوجته فجأة بالطلاق بعد 23 سنة تفانى خلالها في حبها وإسعادها لتتزوج ممن تعرفت به قبل ثلاثة شهور فقط مضحية بأبنائها وزوجها ، وقبل أن أبدأ في سرد قصتي أقول لك إنني سيدة جامعية متوسطة العمر وقد تزوجت منذ 21 عامًا بعد قصة حب عنيفة ألححت خلالها بشدة –

وبكل الطرق – على أهلي لإقناعهم بقبول زواجي ممن أحببت حتى استسلموا في النهاية وتم الزواج كما أردته . ومن العام الأول لزواجي أدركت أنني قد أخطأت الاختيار وأن أهلي كانوا على حق حين جاهدوا إقناعي بالعدول عن هذا الزواج .

لكني صبرت وصممت على نجاح زواجي بأي طريقة حتى لا أسلم بالفشل فكنت الزوجة المطيعة الصبورة لزوجي ..
واهتممت بمظهري وجوهري وزوجي ورزقني الله بولد وبنت فكنت لهما الأم والأب والمدرس ، ولزوجي الزوجة والصديقة والحبيبة ..

وجعلت من زوجي عريس حياتي الدائم منذ اليوم الأول لزواجنا وإلى النهاية حتى أطلق عليه الأهل والأصدقاء ” الملك المتوج ”  على عرش قلبي لما أحيطه به من حب ورعاية واهتمام وثقة فيه بلا حدود ،

ومضت حياتنا هادئة وكافحنا سويًا وسافرنا للعمل في إحدى الدول العربية لعدة سنوات عملت خلالها مدرسة إلى جانب عمل زوجي لنرفع مستوى حياتنا ، واكتفينا بما حققناه في خلال سنوات الغربة فعدنا إلى بلدنا منذ سبع سنوات .. ورأيت أنني قد أديت واجبي تجاه أسرتي بقدر استطاعتي فقررت التفرغ لزوجي وابنيّ وتركت العمل وبدأنا مرحلة الاستقرار والاستمتاع بثمرة كفاح السنين .

فشكرنا الله كثيرًا على ما أعطانا ورجوته أن يشمل ابنيّ برعايته فيوفقان في دراستيهما وحياتيهما .

ثم رجعت من إحدى دول الخليج جارة لنا في سكننا الجديد لم أكن قد رأيتها من قبل .. ففوجئت حين تعرفت إليها بشبهها الغريب لأختي الصغيرة التي حرمتني منها ظروف مؤلمة لا داعي للإشارة إليها ، ولهذا السبب انجذبت إليها وشعرت بالعطف عليها وعلى ظروفها ولأنها عادت مع زوجها وأسرتها في ظروف مأساوية فقد خلالها زوجها عمله ومدخراته في الدولة التي كان يعمل بها .

ووقفت إلى جوارها وأحببتها من كل قلبي فكانت إذا مرضت قمت عنها بالتزاماتها الأسرية من طهي وعناية بطفليها الصغيرين الجميلين وقد كانت هي أيضًا جميلة وفي الثلاثين من عمرها ، وذات يوم اشتد بها المرض فاصطحبتها إلى الطبيب الذي أوصى بإجراء جراحة لها في أقرب وقت ، ولم تكن ظروفها المادية تسمح لها بتحمل نفقات هذه الجراحة ، فدفعت تكاليف الجراحة على الفور وتم إجراؤها وشفيت ،

وردت لي قيمتها حين تيسرت ظروفها بعد ذلك ثم ازددنا اقترابًا واندماجًا في حياتنا الأسرية وكانت صديقتي هذه تشكو من زوجها ومن بعض جوانب تقصيره معها وقالت لي ولزوجي ذات مرة إنها تغبطنا على سعادتنا فلم أتوقف عند هذه العبارة العابرة ، وازددت رضًا عن حياتي وسعادتي وثقة في نفسي وفي زوجي الذي لا ينقصه شيء في حياته ، وبدأ زوجي بعد ذلك يطلب مني تقديم مزيد من الخدمات إلى هذه الجارة لأنها في محنة وزوجها لا يعمل وظروفه المادية سيئة ولم أتردد في الاستجابة ،

ثم تحسنت أحوال زوجها وحصل على عمل جديد في نفس الدولة التي كان يعمل بها ولكن بلا سكن عائلي يسمح له بجمع شمل أسرته فسافر إلى هناك تاركًا زوجته وطفليه في مصر .. وتزايد اهتمام زوجي بهذه الجارة بعد أن أصبحت وحيدة بدعوى أداء الواجب معها خلال غياب زوجها وأصبح لا يشتري لبيتنا شيئًا إلا واشترى مثله لها كما لو كان قد أصبح المسئول الأول والأخير عنها ..

وكثرت زيارات هذه الجارة لنا صباحًا ومساءً ثم حدث ذات يوم أن خرجت من مسكنها دون أن تبلغني أو تبلغ زوجي عن وجهتها ، وغابت في الخارج طويلاً فإذا بزوجي يثور لخروجها ثورة عمياء حتى إنه لم ينم لحظة من الضيق والقلق .. فبدأت في هذه اللحظة أشعر بوجود شيء ما بينهما وأحسست أن ثورة زوجي لخروجها دون إعلامنا بوجهتها ليست سوى غيرة رجل على امرأته لا جارة يؤدي معها واجبًا إنسانيًا .. وتأكدت شكوكي مما بدأت ألاحظ عليه من أعراض النزوة الطارئة ككثرة النظر إلى المرآة وضيقه بالشعر الأبيض الذي بدأ يتسلل إلى رأسه واهتمامه بعمل ” ريجيم ” قاسٍ لتخسيس وزنه ..

إلى جانب انشغال البال دائمًا والهموم بلا سبب ظاهر ثم فوجئت به يطلب مني أن أنبه على ابننا – وكان وقتها في الصف الثاني الثانوي – ألا يقترب من أبيه حين يقابله في الشارع لأنه أطول منه ولأن زوجي قد بدأ يشعر بالخجل حين يراه الناس وابنه الطويل الفارع يسير إلى جواره !

وأدركت أن الأمر قد بلغ حد الخطر خاصة بعد أن بدأ زوجي – سامحه الله – يحتسي الخمر ويلاحظ عليه ابناي الاهتمامات المتبادلة بينه وبين جارتنا وكثرة الإيماءات والإيحاءات ويجذبان نظري إلى كل ذلك كعلامات لخطر يهدد سعادتنا واستقرار أسرتنا ، ويتطلب مني اتخاذ إجراء حاسم قبل فوات الأوان واستجمعت إرادتي وقررت قطع علاقتي بهذه الجارة غير الأمينة على الصداقة فإذا بزوجي يضيق بي وبالابنين ضيقًا شديدًا ويكثر شجاره معهما ،

بل وضرب ابنه بعنف ذات يوم لأنه تجاسر ورد على هذه الجارة في التليفون بشكل غير لائق وغادر البيت غاضبًا ولم يعد إلا في اليوم التالي وبدأت أسوأ أيام العمر يا سيدي في حياتي .. وجاهدت لإنقاذ زوجي وأسرتي وابنيّ بكل وسيلة ، وغمرت زوجي بالحنان والاهتمام وتوسلت إليه أن يقاوم ويصمد لنزوة سن الأربعين هذه التي تهدد حياتنا ، ويمكن تجاوزها بأمان وقلت له إنني أسامحه فيها وأصبر على ما يفعل وسأقف إلى جواره حتى تمر المحنة ونعود لمواصلة حياتنا كما كنا قبلها

بل وقلت له إن قلبي معه في محنته هذه وأشعر بالعطف عليه لا بالضيق منه أو الغضب لأنه شريك عمري وحياتي وحبي الأول والأخير ورجوته ألا يتعجل القرار وألا ينسى عشرة العمر وسنوات الحب قبل الزواج وبعده وسنوات الكفاح وأيامنا الحلوة .. توسلت إليه بالكلام وبالدموع فإذا به يعترف لي بأنه يحب جارته ولا يملك من أمر نفسه معها شيئًا وتوسلت إليها هي أيضًا ورجوتها بدموعي أن تذكر حبي وعطفي عليها ووقوفي معها في محنتها .. فلم تتحرك شعرة في رأسها .

وبرغم كل ذلك لم يتحسن حاله بل ساءت حالته المعنوية والنفسية للغاية ثم تشاجر مع ابننا ذات يوم وغادر البيت معلنًا أنه لن يرجع إليه إلى الأبد !

ومهما وصفت لك ما عانيته من آلام واكتئاب بعد خروجه يا سيدي فلن أستطيع أن أصور لك بصدق حالتي في هذه الأيام السوداء .. فلقد تركنا زوجي بلا مال .. وهو لا يحمل لنا – أنا زوجته وولديه – إلا كل كراهية مريرة وأسوأ الأمنيات لنا بأن نختفي تمامًا من الدنيا لكي يستطيع أن يستمتع بحياته ويحقق لنفسه ما يريد ..

وتجرعت مرارة الإحساس بالرفض ممن كرست له كل حياتي وعانيت آلامًا نفسية رهيبة حتى أصبحت أمنيتي الوحيدة خلال هذه الأيام أن أعرف شيئين هجراني إلى الأبد هما طعم النوم الهادئ ، والرغبة في الطعام فقد كنت إذا نمت لاحقتني الكوابيس المزعجة إلى أن أصحو أكثر تعبًا وإرهاقًا مما كنت قبل النوم ، وكنت لا أشعر بأية رغبة في الطعام ، وتمر الساعات الطويلة والأيام دون أن أشعر بالجوع أو أضع شيئًا في فمي حتى نقص وزني من 64 إلى 50 كيلو جرامًا ..

وأصبحت كالخيال ثم نظرت لولديّ وحزنهما من أجلي وتذكرت حاجتهما إليّ فتمالكت نفسي بعض الشيء ، ولجأت إلى الله سبحانه وتعالى وقرأت القرآن وتفسيره وسلمت أمري إلى الله وإلى عدالته .. وعرفت أن زوجي قد اختار الدنيا وأنني اخترت الآخرة وحسن المآل ، فصبرت على قضاء الله وقدره وأعطيت ابنيّ كل اهتمامي ورعايتي وبعد سنة وثلاثة شهور من مغادرة زوجي لبيته وصلتني منه ورقة الطلاق بعد 19 عامًا من الزواج وقبل شهرين فقط من امتحان الثانوية العامة لابني ،

وبعدها بأيام اختفت جارتي من مسكنها ولم يعرف أحد عنها شيئًا وأخيرًا تبين أنها قد أقامت مع زوجي السابق في شقة مفروشة لمدة عشرة شهور وهي على ذمة زوجها ، ظهرت خلالها نتيجة ابني فإذا به أحد أوائل الثانوية العامة العشرة ، فعرفت على الفور أنها أولى جوائز السماء لي على صبري ومعاناتي .. وتفويضي أمري لخالقي جل شأنه ، وكانت هذه هي أول فرحة للقلب الحزين منذ أكثر من عامين .

أما زوجي السابق وصديقتي السابقة فلم ينجوا من عقاب الله طويلاً ، فلقد رجع زوجها من الخارج وراح يبحث عن زوجها ويترصدها حتى تم ضبطهما معًا في الشقة المفروشة وتم القبض عليهما بالجرم المشهود وأفرج عنه بكفالة وما تزال قضيتهما منظورة أمام القضاء حتى الآن ، وفضلاً عن ذلك فلقد عرفت تلك السيدة التي باعني زوجي السابق ، وباع ولديّ من أجلها بعد خروجها من الحبس أحد الضباط وأقامت معه علاقة آثمة مع استمرارها مع زوجي !

وعرف زوجي السابق سيدة أخرى غيرها مع استمراره معها حتى ضبطته جارتي الغادرة معها وذاقت نار الغيرة التي نهشتني بسببها طويلاً .. وتذكرت حين بكيت لها وتوسلت إليها أن تدعه لشأنه فلم يرق قلبها لي .. فإذا ربك يريني فيها ثأري بأسرع مما توقعت وإذا بالعلاقة بين الحبيبين تنقطع قبل مرور عامين عليها وكل منهما يكره الآخر كراهية سوداء ويحتقره ويراه غادرًا وغير أمين ولا شريف ، ولكن بعد أن دمرا معًا بيتين كانا مستقرين وينعم فيهما الأبناء بالأمان والهدوء .. فحسبي الله ونعم الوكيل ..

وأنا الآن يا سيدي أشعر باستقرار وراحة لم أحلم بهما من قبل ، وأحمد الله على كل شيء ، وأعتبر أن ما مررت به كان اختبارًا منه سبحانه وتعالى لإيماني وصبري فرضيت به وأرجو أن أكون قد نجحت فيه .

فلقد تعذبت كثيرًا وتصورت أن الحياة بدون زوجي ووالد ابنيّ لن تستمر لحظة لكن فضل الله عليّ كان عظيمًا .. وأحب أن أطمئن كاتب رسالة ” الموعد النهائي ” الذي بكى دمًا وأسفًا حين هجرته زوجته التي أخلص لها الحب سنوات طويلة من أجل نزوة مماثلة ، وأطمئن كل المجروحين والمكلومين والمهجورين من أمثالي أن من نعم الله علينا التي لا تقدر بمال .. نعمة النسيان ..

فكل شيء يولد صغيرًا ثم يكبر إلا الحزن فهو يولد كبيرًا ثم يصغر ويتضاءل حتى يموت ، فليتذرع الجميع بالصبر والإيمان ويعرفوا أن الله لن يتخلى عنهم وأنه سوف يعوضهم عن معاناتهم خير الجزاء كما أقول لكل أم تبيع أولادها جريًا وراء أهوائها أو حبها بدعوى أنها تعيش حياتها مرة واحدة وليس من العدل أن تواصل التضحية من أجل أبنائها للنهاية وتضيع فرصتها في السعادة مع من أحبت أقول لها ولكل أم مثلها : أعمى الله قلبك وبصيرتك ..

إن التضحية تكون بالحقوق وليس بالواجبات فأية تضحية هذه التي تتحدثن عنها حين تتحدثن عن تضحياتكن من أجل الأبناء ؟ إنها واجبات كل أم نحو أبنائها وليست تضحيات ، والأم التي تتجرد من أمومتها من أجل الحب والعاطفة لا خير فيها فهناك سيدات فاضلات يذقن المر كؤوسًا فوق كؤوس مع أزواجهن ويصبرن من أجل الأبناء فيعوضهن الله خيرًا فيهم .. وكل أم تحرم أبناءها من أمومتها سوف يأتي اليوم الذي تتمنى فيه بنوتهم فلا تجدها لديهم لأنه كما تدين تدان .

وفي النهاية يا سيدي فلقد فوجئت منذ فترة قصيرة بزوجي السابق يتصل بنا ويعترف بالخطأ والخطيئة ويطلب الغفران ، لكنه مازال يشرب الخمر وما تزال هناك علاقات نسائية عابرة وبشعة في حياته أي أن توبته ليست دينية ولا صحيحة ، وأعتقد أنها مجرد أزمة يمر بها الآن ويطلب مني ومن ابنيّ السماح ويطلب العودة .. فهل مثل هذا الرجل يؤتمن على أسرة وعلى ابنيه وأكبرهما يدرس في كلية عملية مرموقة وأصغرهما في الثانوية العامة ؟


ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

من الحكم المصرية القديمة يقول لنا الحكيم بتاح حتب إن قانون السماء والأرض هو أن تتعلم عن طريق الألم والمعاناة .. فقد بدأ الناس حياتهم كالوحوش ولم يتعلموا كيف يصبحون آدميين إلا من خلال تجارب مؤلمة وطويلة  !

هذا ما قاله الحكيم الفرعوني منذ حوالي 4600 سنة لكن آفة البعض منا هي أنهم يقبلون لأنفسهم أن يعيدوا سيرة الإنسان إلى الوراء فيرجعون حياتهم كالوحوش التي لا تتحكم فيها إلا غرائزها ولا يردها عن رغباتها وأهوائها لا دين ولا عرف ولا أخلاق ولا ضوابط .. ثم يبررون هذه ” البربرية ” بأنبل المشاعر وأطهرها وهو الحب الذي يرجعون إليه كل جرائمهم في حق القيم والحياة .

إن وحوش الغابة لا تعرف الصداقة ولا الوفاء ولا احترام الحرمات وهي على استعداد دائمًا وفي أية لحظة لأن تنقض على أقرب الكائنات إليها لتصرعها وتنهش لحمها إذا استشعرت الجوع أو ثارت لديها غريزة العدوان ، فهل يختلف تصرفها هذا في شيء عن تصرف من ينقض على عرض صديقه أو جاره في أول فرصة تتاح له لينهشه بلا رادع من وفاء أو قيم أو أخلاق ؟ وهل يختلف ذلك كثيرًا عن قنص الوحوش الضارية بعضها لبعض في الغابة ؟ وكيف يبرر البعض لنفسه هذا الارتداد الوحشي الذي يهدد كل القيم النبيلة في الحياة بهوى القلب القاهر الذي لا حيلة له فيه ؟ إننا لا ننكر هوى القلب ولا سلطانه ، ولا ننكر أيضًا الضعف البشري ..

لكنه كيف يقبل عاقل أيضًا أن يبرر الإنسان لنفسه جرائمه في حق الدين والأخلاق والوفاء والأبناء وشركاء العمر بهوى القلب الذي لا حيلة له فيه ، كأنما قد أصبح هذا الضعف غاية في حد ذاته ، وليس عقبة في طريق سعي الإنسان إلى الكمال ، أو كأننا لسنا مطالبين بمجاهدة أنفسنا وردها عما ترغبه إذا تعارض مع سعادة الآخرين وحقوقهم علينا ؟

 “وإنما قيمة الإنسان همته ” كما يقول لنا الإمام أبو حامد الغزالي ، وهمته هذه هي التي تعينه على مغالبة أهواء النفس وعدم الانسياق وراء رغائبها وحدها ون رادع من ضمير أو دين .

لقد تأخرت كثيرًا يا سيدتي في اكتشاف علامات الخطر في تحولات شخصية زوجك حتى استفحل الداء وتمكن منه ، والكشف المبكر عن هذه العلامات والتحولات يفيد كثيرًا في رأب الصدع ومقاومة الأمراض الغازية للأجسام الصحيحة لأن اقتلاع هوى النفس في بدايته ومحاصرته .. والبعد عن موطن الداء يسهم كثيرًا في سرعة الشفاء ، كما يسهم التشخيص المبكر للأمراض الخطيرة في زيادة احتمالات الشفاء منها ..

لكن زوجك كان قد تمكن منه الداء حين اعتزمت قطع علاقتك بهذه الصديقة الغادرة ، ودهمه ” ذهول القلب ” الذي ورد أن الله سبحانه وتعالى حذر منه في التوراة .. فاختلت موازينه ومعاييره ولم يعد يبصر ولا يرى ، حتى لقد أصبح يرى النعمة نقمة ، ويتمنى بذهول العقل والقلب معًا زوالها ! فكل أب يرعى أطفاله يحلم بأن يمد الله في عمره حتى يرى أبناءه أطول منه ، لكن هذه النعمة التي تحققت لزوجك قد تحولت إلى “نقمة” يستخفي بها عن الآخرين .. ويكره أن يطلعوا عليها ، وكل إنسان رشيد يسعد بزوجة محبة وفية ومخلصة حتى ولو لم يحمل لها مشاعر الحب ، وأبناء ناجحين موفقين في دراستهم حتى ليبرز أحدهم في الثانوية العامة ويصبح من أوائلها .. لكن هذه النعمة تحولت إلى نقمة وعقبة يتمنى زوالها لكي تخلو له الساحة ويجني ثمار الحب والسعادة مع من اختارها القلب .. فأي ذهول وأي جنون أشد من ذلك ؟

لكن من ضوابط الحياة أيضًا أن تترفق بنا أحيانًا ، فتؤكد لنا صواب اختيارات الفضلاء من البشر لالتزاماتهم الخلقية تجاه الحياة وتضحياتهم برغائب النفس ولذائذ الحياة إذا تعارضت مع واجباتهم تجاه الآخرين ، فتطلعنا من حين إلى آخر – على ما ناله من عقاب الحياة – من لم يردوا على تصرفاتهم هذه القيود التي يقبل بها راضين الأخيار من الناس فتزيد من يقينهم بأن تضحياتهم لم تذهب سدى .. وهيهات أن تضيع في الأرض أو في السماء وهيهات أيضًا أن ينجو الآخرون من عقاب السماء إذا فاتهم في الأرض .. أو إذا لم يكفِّروا عن جرائمهم بصدق الندم والاستغفار .

وفي رأيي أن العقاب القاسي الذي ناله زوجك السابق وصديقتك الغادرة لم يكن هو عقاب ضبطهما متلبسين بالجرم المشهود ولا تعرضهما للسجن والعار والفضيحة مع ما في ذلك كله من عقاب رادع ، وإنما العقاب الأشد قسوة في تقديري هو “خيانة” كل منهما للآخر .. وانفصاله عنه منطويًا له على مشاعر الكراهية والبغضاء والازدراء والاحتقار ، بعد أن كان قد ظن أنه قد هدم أسرته وضحى بأبنائه على مذبح السعادة الأبدية ، هوى القلب الذي  سيتحدى الزمن ويستحق القربان الباهظ الذي أحرق دمه تحت قدميه!

إن هذا هو العقاب الأنكى والأشد من قاب السجن والفضيحة في تقديري .. فلقد أسفرت الرحلة “البطولية” للخروج على القيم والأعراف والتضحية بالأعزاء والأبناء والوفاء والأهل والدين عن عبث كالعبث ، وبلا أي  عزاء عما ضاع من الشرف والكرامة والأمان .. فكيف كان عقاب ؟

إنك تسألينني يا سيدتي في نهاية رسالتك ، هل يؤتمن مثل هذا الرجل على أسرته بعد كل ما كان منه في حقها .. وجوابي هو أن لهجة سؤالك تحمل من معنى الاستنكار أكثر مما تحمل من معنى الاستفهام .. وهذا يعني أنك قد حزمت أمرك على ألا تسمحي له بالعودة إليكم وألا تثقي في صدق ندمه وتوبته خاصة مع استمراره في الشراب والعلاقات النسائية الشائنة ، ومن رأيي دائمًا أن التكفير عن الجريمة لابد أن يتناسب مع فداحة الجرم ، إذ لا يكفي أن يرتكب إنسان في حقنا كل الخطايا والآثام ،

ثم يقول لنا بلسانه – وليس بأفعاله – إنه قد ندم عليها لكي نفتح له صدورنا وقلوبنا ،ونعلق على صدره الأوسمة .. وإنما ينبغي عليه أن ” يجاهد ” طويلاً لاستعادة ثقتنا المفقودة فيه ، كما جاهدنا نحن طويلاً من قبل ، لكي نستعطفه ونستبقيه ونسترضيه ، وعليه أيضًا أن يثبت لنا صدق ندمه بالإقلاع عن السلوكيات الشائنة التي اكتسبها في فترة ذهول العقل والقلب .. وأن يدخل ” المطهر ” فترة كافية يتطهر خلالها من كل آثامه وجرائمه في حقنا ، ويلتزم بالسلوك القويم ، فإذا فعل كل ذلك ،

ووجدت في نفسك بقية من رغبة أو أمل فيه، وشاركك ابناك في هذه الرغبة وهذا الأمل ، فلا بأس باجتماع الشمل مرة أخرى إذ يكون حقًا قد تعلم الدرس خلال الفترة الماضية عن طريق الألم والمعاناة واستعاد طبيعته الآدمية بعد سياحة دامية في عصر الوحشية .. أما إذا لم يفعل ولم يصدق في ندمه ولا توبته .. فلا صفح ولا سماح ولا لوم عليكِ ، ولا على ابنيك إذا أغلقتم دونه قلوبكم وصدوركم ، كما أغلق هو دونكم جميعًا قلبه وصدره وباعكم جميعًا بأرخص الأثمان .

أما رسالتك التحذيرية لكل من تضحي بأبنائها جريًا وراء هوى القلب وحلم السعادة الشخصية فعادلة وحكيمة..

وأما رسالتك المشفقة إلى كل المهمومين والمهجورين أن اصبروا وثابروا ، فلسوف يجزيكم الله عن معاناتكم خير الجزاء ، فلكِ عنها ، وعن رسالتك القيمة المفيدة هذه كل الشكر وكل الثناء ..

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 1988

رائج :   الحل الصعب ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

مقالات ذات صلة