الموضوع ابتدي , علي حسب تقديري, في منتصف الستينات. منتصف الستينات هي اللحظة اللي الفجوة الزمنية بين الزمن في مصر والزمن في العالم ابتدت في الظهور, وان ماكنتش باينة قوي ساعتها, عشان كنا متأخرين عن باقي العالم بتاع سنة سنتين, بس بعديها على طول الموضوع ابتدي يوسع مننا. لما العالم دخل السبعينات, كنا لسه كبلد ومجتمع في اواخر الستينات, ولما العالم دخل التمانينات, كنا لسه في اواخر السبعينات (زي مابتبينلنا موضة الافلام والمغنيين في المرحلة ديه وحتي وجود واستمرار الديسكو حتي منتصف التمانينات في مصر) , حتي اخيرا دخلنا التمانينات, و لم نخرج منها لمدة تلاتين سنة تقريبا.
اثبات الموضوع ده سهل , و ممكن نبتدي بالفن الاستهلاكي: تلاتين سنة عمرو دياب. تلاتين سنة عادل امام ويسرا. تلاتين سنة وحيد حامد واسامة انور عكاشة. حتي إنجازات البلد في المرحلة الزمنية ديه , كلها بلا استثناء تقريبا , إنجازات حققها معظم العالم في التمانينات: قطاعات صناعية واقتصادية متعدده..تمانينات. كبري ومحور ودائري وانفاق… تمانينات. أمن وأمان فوق الطبيعي بالنسبة لأي حته في العالم… تمانينات. مدن جديدة وقري سياحية وشرم والساحل وملاعب جولف… تمانينات. ماكدونالدز وشيليز وكارفور وغيرها من مظاهر العولمة ,برضه عند معظم العالم حصلت في التمانينات.
وفي وسط كل ده اتولد وكبر جيل في مصر في التمانينات طول عمره لا يعرف غيرها, وحاسس إن فيه حاجة غلط بس مش عارف يحط صباعه عليها واهله الجيل اللي دخل التمانينات في شبابه, في حالة سعادة ورضا عن النفس غير طبيعية, اللهم ألا لما بيشتكوا من غلاء اسعار بعض المنتجات الاستهلاكية. لحد ماحصلت الغلطة اللي بوظت كل حاجة , ودخل النت مصرنا العزيزة. النت أكد لهؤلاء الشباب إن فيه عالم تاني برة مصر ويواكب التطور الطبيعي للزمن وان فيه بلاد مجتمعها بيتطور وفعلا عايشة في القرن الواحد والعشرين.
وده الجيل اللي عمل ثورة يناير أو شارك فيها, كمحاولة يائسة انه ينط بالبلد تلاتين سنة لقدام إلى القرن الواحد والعشرين. والثورة نجحت, وأطاحت بالرئيس التمانيناتي, وعمت الفرحة في أوساط هذا الجيل اللي ماخدش باله من الفخ اللي وقع فيه: هو فعلا نط بالبلد قدام زمنيا, بس لقى نفسه لسه في التمانينات.
أعراض الموضوع ده ابتدت بمطالبه من الدولة اللي هو ماخدش باله إنها مطالب غير واقعية مش لأي سبب غير ان الدولة المصرية آخر قدراتها أداء تمانيناتي, مع ان أي زيارة لمجمع التحرير كافية لإثبات ده له (المجمع وطريقة إدارته حتي الأن كبسولة زمنية مبهرة للتمانينات). بس لو عدينا النقطة ديه, مش حنقدر نعدي رموزه الثورية الحقوقية المتقدمة من نشطاء جيل السبعينات اللي صلاحيتهم الفكرية اصلا تمانينات ( وأي مقارنة بينهم وشغلهم, وشغل حد زي حسام بهجت, المولود في التمانينات تبين بسهولة ليه هم فعلا خارج هذا الزمن وليه حسام في القرن الواحد والعشرين).
طب بلاش الحقوقيين, الرموز السياسية؟ عمرو موسي.. تمانينات. عبد المنعم أبوالفتوح.. تمانينات. حمدين صباحي .. اخره التمانينات. طب مكتسبات الثورة الثقافية والفنية؟ الجرافيتي؟ عصره الذهبي كان التمانينات. الموسيقي البديله والمستقله؟ تمانينات. السينما المستقلة؟ برضه تمانينات. حتي تطور الاحداث السياسية كلها كانت تطور تمانيناتي. فكرة الحكم الاسلامي.. تمانينات فشخ. الانقلاب العسكري.. تمانينات. فكرة الثورة اصلا: تمانينات.
طب ليه كده؟ إزاي ده حصل؟ الاجابة السهلة والسريعة ان فيه صراع اجيال, وان فيه جيل متمسك جدا بالتمانينات تمسك المتصابي بشبابه, وده نفس جيل اهالينا. جيل الازدواجية و الستر. جيل الفياجرا والبوتكس. جيل يعرف كويس قوي يعيش في التمانينات, ويتعامل بالوسايط والمحسوبية, وما يعرفش يعمل حاجة تانية وبقاله تلاتين سنة بيحاول يقنعنا ان هي الدنيا كده, ومافيش بديل تاني ونرضي باللي احنا فيه وخلاص. هو جيل مش شرير, عشان هو جيل اهالينا واهالينا مش ناس شريرة, بس فيه قصتين فيهم درسين ممكن احكيهم يشرحوا الخلل حصل فين بالظبط.
أول قصة ليها دعوة بفودافون حاليا: حاتم دويدار, رئيس فودافون الحالي, حاليا بيتشال من منصبه في مصر ورايح منصب تاني. فودافون ماشاليتهوش عشان هو مقصر في شغلة أو عشان ابلة فاهيتا: الراجل ادي دوره وزيادة وحقق نجاحات وإنجازات كتيرة في فترته; فودافون شالته عشان ديه سياسة ادارة فودافون: بيجيبوا رئيس شركة جديد بأفكار جديدة تبتدي تحقق نمو عالي للشركة, وبعد ماالنمو يبتدي يستقر سنتين تلاتة يقوموا مغيرينه وجايبين حد جديد, بافكار جديدة عشان يبتدي يحقق نمو عالي تاني للشركة وكده.
ومن هنا نفهم درس معظم البلد مش راضية تفهمه: الاستقرار مش انجاز ولا غاية في حد ذاته. الاستقرار مفروض يتبني عليه, مش يتحافظ عليه وبس, عشان لو مااتبناش عليه بيتحول من تلقاء نفسه الي ركود.
تاني قصة بتحكي عن سوبر ماركت صغير مملوك لرجل كبير في السن في مصر الجديدة. السوبر ماركت كان كويس وإدارته حلوة, لحد ماجيه اليوم اللي صاحب السوبر ماركت باعه لمجموعة من الشباب. الشباب غيروا شكل السوبر ماركت, جابوا بضاعة جديدة, وابتدوا يشتروا المحلات اللي جنبهم ويوسعوا السوبر ماركت ويبقى فيه قسم خضار وفاكهة ولحوم. وده الفرق الأساسي بين الشخص اللي اتعامل مع السوبر ماركت كمشروع معاشه, واللي اتعامل معاه كمشروع مستقبله.
مصر بتدار ومتسيطر عليها بقالها تلاتين سنة كمشروع معاش جيل كامل على حساب مستقبل الجيل اللي بعديه. احنا وقعنا في فخ التمانينات وواجهنا وبنواجه مقاومة أسطورية للخروج منه عشان السبب ده وبس. بسبب أنانية جيل كامل مش قادر يواجه انه السبب الأساسي ان البلد ديه تواجه مستقبل مظلم هم غالبا مش حيعيشوا معظمه وبيحاولوا يلومونا ويلوموا يناير عليها, مع ان اللي احنا فيه ده بكل قواعد العقل والحساب لا يمكن القاء اللوم فيه على احداث التلت سنين اللي فاتوا.
و اللطيف أن حصاد جيلهم واضح: مصر في قائمة أسوأ عشر دول على مستوي العالم في كل حاجة: تعليم, صحة, سيادة القانون والعدالة, عنصرية, تلوث, فساد, ختان الإناث والتحرش الجنسي, سلامة طرق, معاملة المرأه, معاملة الأقليات الدينية, حبس الصحفيين, حقوق المواطنة, الخ الخ. وهم غير مهتمين إطلاقا بأي حاجة من الحاجات ديه. مصر ام الدنيا وقد الدنيا وموتوا بغيظكم. انفصال عن ورفض تام لمواجهة الواقع لدرجة فعلا مأساوية.
مصر بتواجه مأساه جيل كامل غير قادر أو مهيّأ للتعامل مع مأساته, مع ان كل الشواهد قدام عنيه كل يوم. بصوا ليسرا والفوتو شوب في صورها في مجلة انيجما عشان لسه برضه عاوزة تفضل البرنسيسة وهي في الستين. بصوا لمغنين اغنية تسلم الايادي, كلهم عفي عليهم الزمن ومقدموش أي حاجة فنية ذات قيمة في اخر عشر سنين وسعادتهم لتقديم اغنية مشهورة تعرض على التلفزيون مجددا.
بصوا للجنة الخمسين وفهلوتها في اعلان ان حرية العقيدة مطلقة بس هم التلت ديانات السماوية برضه اللي معترفين بيهم وبس, كأن العالم اهبل ومش فاهم. بصوا لاحتفالية حرب اكتوبر باستعراضاتها, أو بإعادة كتابتها للتاريخ بذكر عبد الناصر والسادات وبعديهم على طول ثورة يناير كأن ماكانش فيه تلاتين سنة مبارك ولا الضربة الجوية اللي جابتلنا الحرية وكأن الثورة قامت على السادات مثلا (ملحوظة جانبية: زمنيا ده بيخلي ثورة يناير في التمانينات).
بصوا إزاي كل مايتزنقوا يجيبوا الجنزوري رئيس وزراء- اللي هو تمانيناتي السن بقي وبيجبوه عشان هو الوحيد اللي بيحسسهم انهم لسه صغيرين- كأنه رجله مش في القبر وكأن مجاش الوقت اللي نسأل فيه فين جانزوريين المستقبل. مش مقتنعين؟ طب تاني مرة وانتم ماشيين على الكوبري بصوا لصورة عمرو دياب عشان تقدروا المأساه صح. مطرب الشباب اللي عنده 52 سنة. حتحس بـحزن عميق تجاهه.
والنكتة إن التمانينات ماشية عشان هي أكتر حاجة تقدمية قدمتها أي من القوي السياسية في مصر. لو مش عاجباك التمانينات عندك الناصريين, ودول نفسهم يرجعوك الستينات, أو الاشتراكيين الثوريين, اللي فعلا عقليا عايشين في بدايات القرن العشرين, أو عندك المشروع الاسلامي, اللي نفسه يمشيك على قواعد مجتمع بدوي من القرن السابع الميلادي. مافيش حد حتي حاول يدخلك التسعينات, ناهيك عن القرن الواحد والعشرين.
مانعرفش احنا الحاجات ديه, ولا مستعدين ندفع تمنها. معلش, قصدي إن هم مش مستعدين يدفعوا تمنها. ليه يبقى فيه عالم من غير واسطة؟ ليه يبقى عندك شرطة بتشتغل بالتحقيقات والفحص الجنائي؟ ليه أي حاجة في قباحة مشروعات بورتو تفلس من أول مشروع وتبطل تلوثها البصري والبيئي؟ ليه نبص أكتر من خمسة سنتي ابعد من مناخيرنا؟
اكتئابنا جي من معرفتنا ان انتم مش حتصلحوا حاجة, وكل ماحتتزنقوا حتقولوا معندناش بديل, بس برضه عاوزين تفضلوا تاخدوا القرارات المصيرية. حتشفقوا علينا وحتعملولنا لجان شباب في احزابكم, وممكن كوتة في مجلس الشعب خمسة في المية مثلا لفصيل يمثل سبعين في المية من البلد, وحتهنوا نفسكم علي انكم اديتم الشباب فرصتة ومش حتفهمو الشباب متضايق ليه غير لو الشباب عرض ان بدل كل ده نعمل لجنة عواجيز في الأحزاب وكوتة عواجيز في مجلس الشعب للي فوق الستين, وتبقي خمسة في المية زي نسبتكم الحقيقية في المجتمع. تحب تدخل لجنة العواجيز؟ اسمها لطيف صح؟ زي لجنة الشباب كده.
في كل الاحوال, هنيئا لجيلكم هذه البلد, علي رضاكم الذاتي و راحتكم النفسية قدام اعلامكم ودولتكم في الوقت اللي فيه شبابكم بيخبط راسه في الحيطة, علي محاولتكم اليائسة لارجاع تثبيت التمانينات تاني, وناسف لابلاغكم إن التمانينات مش راجعة, ولا الأمن حيرجع فعلا, ولا حيبقي فيه اقتصاد مش معتمد علي منشطات اقتصادية جاية من الخليج, وحتموتوا وتسيبوهالنا خرابة فيها شباب بيقتل في شباب عشان انتم معرفتوش تواجهوا مشاكلكم التمانينية صح في وقتها وورثتوهالنا.
عزائنا الوحيد ان ايقاع الزمن بقي اسرع, وكده ممكن ندخل التسعينات قريب, ومين عارف, احتمال نشوف القرن الواحد والعشرين قبل مانموت. احنا بنعترف بارتباطنا العاطفي بيكم, وبعجزنا قدام عجزكم, وبنحيي القلة المندسه اللي في جيلكم اللي فعلا شايفة الحقيقة وبتساعدنا ومستمرة في دفاعها عنا.
واطمنوا, احنا مش عاوزين نقتلكم زي ماانتم مصممين تقتلونا وموافقين على قتلنا بقالكم تلت سنين, ولا حتي حنعترض على ان قيادات الوطني والإخوان اللي في سنكم لما بيتحبسوا بيتحبسوا في عنابر خمس نجوم والشباب في عنابر مش بيعرف يقعد فيها من كتر ماهي زحمة. خالص, احنا بس مش حنتعاون بعد كده. مش حنمشي وراكم, ولا حنسمع كلامكم ولا حنصدقكم لما تقولوا انكم عاوزين مصلحتنا في أي حاجة. شفتم الاستفتاء؟ اخدتم بالكم إزاي الشباب مانزلوش؟ ديه مجرد البداية,مجرد نبذه من اللي جاي. افرحوا “بانتصاركم” وجهزوا نفسكم, عشان وقت الطبطبة عليكم خلص.