أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

فن الحياة .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة في التاسعة والعشرين من عمري، بدأت قصتي مع الحياة حين بلغت سن الرابعة عشرة من عمري وشببت عن الطوق قبل الأوان كما يقولون فجاء من يقطف زهرة صباي قبل أن أتنسم عبيرها، ويطلب يدي من أبي في هذه السن الصغيرة لسببين هما جمالي الملحوظ .. وفقري الشديد وقلة حيلتي ..

فأبي موظف بسيط ينوء كاهله بأسرة من 5 بنات .. ومرتبه لا يكاد يكفي لإطعامها خبراً فقط والأسرة تدخر بالسنوات لكي نشتري أسمالاً تستر أجسادنا الضئيلة لهذا بدا هذا الزواج وكأنه ليلة القدر لأبي وتم الزواج سريعاً وقطعت دراستي وكنت وقتها طالبة بالمدرسة الإعدادية وتنفست أسرتي الصعداء لكن فرحتها لم تطل فقد أغلق زوجي سامحه الله الأبواب في وجه أسرتي ملتمساً في البداية الأعذار..

ثم ناهراً وآمراً بقطع كل الصلات مع أسرتي الفقيرة، فوجدت نفسي فجأة وأنا في سن الخامسة عشرة أو تزيد وحيدة في بيت زوجي ومغتربة عن أهلي وليس بيني وبينهم سوى بضعة كيلو مترات تفصل ما بين الفقر الشديد في بيت أسرتي وفي الحي الشعبي الذي تعيش فيه ، وبين البيوت العامرة بالغنى والثراء في الحي الذي أقيم فيه مع زوجي..

ووجدت نفسي مغلوبة على أمري فاستسلمت لمصيري وتعلمت في وحدتي “وغربتي” في هذا العالم الغريب الصبر فكان أول دروس الحياة التي تعلمتها الصمت فكان سلاحي في دفع الأذى عني .. وتعلمت ما هو أهم من ذلك الصلاة والابتهال إلى الله ليل نهار أن يمدني بالعون والمساعدة والقدرة على تحمل الألم.

وكان علي أن أقوم بخدمة زوجي صباحاً ومساء وفي الأسحار وأحياناً حتى صباح اليوم التالي صابرة محتسبة آملة في الله أن يعوضني عن صبري خيراً، واستمرت حياتي على هذا المنوال 4 سنوات طويلة وأنا شبه محرومة من أهلي ومن أنس صحبة شقيقاتي وصديقاتي، حتى أنني كنت أفتقد أحياناً ملاعب صباي وذكريات طفولتي فلا أجد سوى الدمع أروح به عما في صدري بيني وبين نفسي بعيداً عن أنظار زوجي الذي يجب أن أبدو أمامه دائماً باسمة سعيدة حتى ولو كانت ابتسامتي حزينة.

وبعد 4 سنوات بدأ زوجي يتململ من عدم الإنجاب وعقم حياتنا الزوجية.. فذهب بي إلى الطبيب ليجري لي الفحوص والإشاعات ويكتشف أنني أحمل رحم طفلة لا يزيد عمرها عن 3 سنوات ولا يقوى على الامتلاء والحمل فكانت صدمة شديدة بالنسبة له لأنه كما قال لي لم يحصل بذلك على حقه كاملاً من الزواج وهو الإنجاب،

أما بالنسبة لي فلم أستوعب الأمر ولم أهتم له فقد كنت فتاة في الثامنة عشرة وليس إلى جانبي أم أستشيرها ولا صديقات يشرحن لي الأمر، وهكذا لم يجد جديد في حياتي.. فالحياة ماضية كما هي وحدة.. واغتراب.. وطاعة عمياء لزوجي وصبر وصمت واستعداد لقبول كل شيء لكنه يبدو أنني لم أكن أشعر بما حولي،

لأني فوجئت ذات يوم بزوجي بلا مقدمات ولا سابق إنذار يسحبني من يدي أي والله هكذا إلى مكتب المأذون ويطلب مني أمامه أن أتنازل عن كل شيء لي عنده حتى عن ملابسي، ووجدت نفسي أوافق على كل ما طلب مني بلا معارضة وماذا كنت أستطيع أن أفعل يا سيدي وأنا ضعيفة وحيدة بلا أب أو أم يقفان إلى جواري في هذه اللحظة الصعبة، فوقعت على ما طلب مني التوقيع عليه،

ووقفت في انتظار الخروج لا أعرف كيف أعود إلى بيت أبي حتى تفضل الرجل الذي قطف زهرة صباي بإعادتي إلى بيت أبي.. فعدت إليه كما خرجت منه بلا حقيبة ملابس وأصدقك القول يا سيدي أنني رغم عودتي إلى الحرمان والحياة المتقشفة الصعبة إلا أنني أحسست بالألفة التي افتقدتها في ذلك البيت الموحش الصامت طوال 4 سنوات، وإن كنت لا أنكر أني تألمت لحالي وسنوات عمري التي ضاعت هباء فأصبح الحزن يكسو ملامحي وعدت إلى دراستي التي قطعتها،

وبعد بضعة شهور دعينا إلى حضور زفاف إحدى فتيات الأسرة فقابلت في الفرح شاباً تنبئ ملامحه لأول وهلة بالطيبة والخلق فصافحته بين من صافحت من المدعوين وصافحني، ولم نتبادل أكثر من كلمات التحية العابرة ثم انتهى الفرح وعدت إلى بيتي، فإذا بهذا الشاب يجيء في اليوم التالي لمقابلة أبي ويطلب منه يدي وبعد أن سأل عني طوال الليلة السابقة كل من يعرفنا أثناء الفرح وقابله أبي بترحاب لكنه كان قد تعلم الدرس فتردد في الموافقة على استعجال الزواج وصارح هذا الشاب بحقيقة مشكلتي في الإنجاب،

وطلب منه عدم التسرع وعدم الإقدام على الزواج إلا بعد أن يتأكد تماماً من حقيقة مشاعره ومن استعداده لتقبل هذا العجز، وقبل الشباب رغبة أبي في تأجيل الزفاف وبدأ يتردد علينا.. وبدأت أحس تجاهه بمشاعر فياضة، وكعادة الخطيبين سألته ذات يوم ماذا شد انتباهه إلي فأجابني على الفور بأنها مسحة الحزن والاستكانة التي استقرت فوق ملامحي!

فقلت لنفسي.. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.. فلقد ربطت بيننا هذه المسحة التي كرهتها من قبل وكانت السر في لقائنا وتمسك خطيبي بإتمام الزفاف فتزوجنا بعد عام من الخطبة وهاجرت معه إلى البلد العربي الذي يعمل فيه، وشتان ما بين الهجرتين، ففي الأولى كنت في نفس المدينة على بعد خطوات من أسرتي وبيني وبينهم سدود وجبال من تكبر زوجي واستعلائه عليهم ونفوره منهم وفي الثانية كنت على بعد آلاف الأميال منهم لكنهم أقرب إلي من أي وقت مضى فزوجي رجل فاضل يعرف ربه حق المعرفة فلم يقطع ما بيني وبين أسرتي ولم يحاول أن يضع سداً بين فقرهم ويسر حياته

وإنما تواضع لله وشكره فأعطاه من فضله الكثير وكان دخولي إلى بيته فاتحة خير له فاتسعت أعماله بدرجة مذهلة، وخلال سنوات قليلة أصبح في مصاف كبار رجال الأعمال بل ومن أصحاب الملايين وكلما زاده الله من فضله ازداد شكراً لله وتواضعاً له ورقة معي والتصاقاً بي واهتماماً ورعاية لي، فأعانني على تزويج شقيقاتي كلهن وأكرم أبي وأمي أكرمه الله وقمنا بحج بيت الله جميعاً أكثر من سبع مرات. ولم يفقد الأمل يوماً في علاجي فطاف بي أنحاء العالم طلباً للشفاء..

وبدأ العلاج يؤتي ثماره بعد تلك السنوات الطويلة فأصبح لي رحم أنثى كاملة لكني لم أستطع الإنجاب لأنني أحمل أنبوبتين مسدودتين، فجاءنا الأمل بعد 5 سنوات في عملية الإنجاب عن طريق طفل الأنابيب، فقمت بإجرائها لأول مرة في لندن وفشلت وعدنا إلى البلد الذي نقيم فيه ففوجئنا بافتتاح قسم فيه لأطفال الأنابيب فكنا أول من ذهب إليه، وخلال 5 سنوات قمت بإجراء هذه العملية إحدى عشرة مرة كانت أكثرها نجاحاً هي المرة التي عاش فيها الجنين داخل رحمي 5 أسابيع فقط..

وفشلت جميعها لكننا لم نفقد الأمل في الله أبداً وسوف أقوم بالعملية رقم 12 في أواخر أبريل القادم رغم ما أعانيه من آلام لا تعرفها سوى من قامت بإجراء هذه العملية من تناول جرعات الهرمون المتزايد، ومن آلام العمليات الجراحية التي يحصلون بها على البويضات، وأعدك يا سيدي إذا نجحت هذه العملية أن أبلغك بذلك وإن لم تنجح فأنا وزوجي من الصابرين الشاكرين.. وقد أكرمني الله بزوجي.. وعوضني عما لقيت من زواجي الأول من آلام .. وفي حياتي السابقة من عناء فلنشكر الله دائماً.. ولنطلب منه دائماً أن يشملنا بعطفه ورعايته والسلام عليكم ورحمة الله .


تلقيت هذه الرسالة ضمن رسائل أخرى تعلق على رسالة سابقة نشرتها منذ فترة بعنوان “زائر الصباح” للمهندس الذي فقد وليده بعد رحلة عناء طويلة مع الأمل في الإنجاب ولأني كنت قد نشرت رسالة منذ أسبوعين تعليقاً عليها فلقد اعتزمت ألا أنشر رسائل أخرى حول نفس القصة لننتقل معاً إلى هموم الحياة الأخرى وما أكثرها لكني بعد قراءة هذه الرسالة لم أستطع مقاومة نشرها ليس فقط تلبية لرغبة كاتبتها في نقل تجربتها للمهندس ومواساته،

وإنما أيضاً لما ترويه من تجربة إنسانية تضيف إلى خبرتنا بالحياة الجديد، فلقد شد انتباهي إليها ما تنبض به من صدق إنساني فريد يجعل منها قطعة أخرى من أدب الحياة الذي يطلعنا فيه أصحابه على قصصهم مع الحياة لنتعلم منهم دروس التجربة وعبرتها.

أما أنت يا سيدتي فلقد زادتني رسالتك اقتناعاً بما أؤمن به دائماً من أن أصحاب النفوس الراضية لا خوف عليهم مما قست عليهم بعض ظروف الحياة، لأنهم يواجهون شدائدها بهذه النظرة المتسامحة التي تغفر للحياة كل ما يلاقونه فيها من آلام وينتظرون بصبر لا يكل حظهم العادل من السعادة وهو ما عبرت عنه أنت في رسالتك بالاستسلام لما لا حيلة لك فيه وقبوله برضا واستكانة فأنت رغم جفاف حياتك قبل الزواج الأول والثاني لم تكوني ساخطة على ظروف أسرتك بل مشفقة عليها منها، وفي سنوات زواجك الأول الموحشة الكئيبة لم تكوني ساخطة عليها حتى وأنت تعانين مرارة الوحدة والصمت والاغتراب النفسي والحرمان الظالم من الأهل.

وإنما كنت مشفقة على نفسك.. وصابرة على البلاء ولا تفكرين في هدم عشك طلباً لحقك العادل في حياة سعيدة وأنت يا سيدتي رغم ما تعانين منه الآن بسبب مشاكل عدم الإنجاب لست ساخطة على حرمانك منه ولا على ما تلاقين من عناء شديد في سبيل تحقيقه وإنما تتقبلين أقدارك برضا ولا تقصرين في حق نفسك، فتجرين وراء الأمل مرة ومرات حتى بلغت 11 مرة عدا ما تحملت في كل منها أشد الآلام وأشد العناء بصبر ورضا وسوف تقدمين على المحاولة الثانية عشرة وسوف تشكرين إن نجحت وتصبرين إن فشلت وأصحاب النفوس الراضية من أمثالك يدافع الله عنهم حين لا يحسنون هم الدفاع عن أنفسهم، لذلك فقد أقدم زوجك الأول على هدم عشك وقسا عليك واستلبك حقوقك.

ولولا أنه قد تسرع فهدم خلية النحل لربما ظل يرشف رحيق العسل حتى الآن، ولما هيأ الله لك هذا الزوج الفاضل الذي يعرف حقوق ربه فيرعاك ولا يقطع رحمك ويكون لك ولأسرتك عوناً وسنداً في الحياة ولا عجب في ذلك فمن تركز في رسالتها وهي الآن زوجة لأحد أصحاب الملايين على وصف فقر أسرتها وقلة حيلتها، وفضل زوجها في مساعدتها،

لابد أن تكون من هذا النوع من النساء اللاتي قال عنهن سليمان الحكيم في أمثاله: “امرأة فاضلة من يجدها فإن ثمنها يفوق اللآلئ” ولابد أن تكون إنسانة أصيلة حسنة الطوية، لم يغير منها الثراء المفاجئ.. ولم يدر رأسها كما يفعل ببعض الحمقى الذين يفقدهم فتات الدنيا اتزانهم ويفسد صلاتهم بالآخرين أتدرين يا سيدتي أين هو السر في كل ذلك..

إن السر هو أنك حققت لنفسك ما يجهد الكثيرون أنفسهم للوصول إليه بلا فائدة وهو طمأنينة القلب والرضا دائماً بالواقع وطمأنينة النفس لا تتأتى إلا بتقبل الحقيقة مهما كانت مؤلمة، لأن تقبل الواقع هو الخطوة الأولى دائماً للتغلب على الصعاب ومواجهتها فعسى أن يمن عليك ربك بما يحقق لك آمالك في الحياة وعسى أن تسعدني الظروف بأن أتلقى منك البشرى بنجاح العملية الجديدة بأمر ربك إن شاء الله وفي كل الأحوال فإن قيمة الحياة هي في أن نحياها وأن نحيا كل ساعة منها ونتقبل منها كل شيء، إذا كنا لا نملك تغييره ولست في حاجة لأن أذكرك بذلك لأنك “أستاذة” بحق في فن الحياة والرضا بالواقع، والشكر لله على ما أعطى.. وما سوف يعطي بفضل منه ورضوان إن شاء الله.

  • نشرت عام 1988
  • من أرشيف جريدة الأهرام

رائج :   حكاية وسيلة || ج1

مقالات ذات صلة