من هنا وهناك

قصة حياة جيفارا || الجزء الثاني

ونستمر في سرد أحداث قصة حياة جيفارا و نحن الآن فى سبتمبر عام 1954 .. ذلك الطبيب الأرجنتينى القادم من جواتيمالا و الذى يعمل فى المستشفى العام – تحديداً قسم الحساسية – صامت أغلب الوقت .. لا يتحدث إلا مع من يثق به .. و إن تحدث أجبر من يصغى إليه أن يستمر فى الإصغاء .. تشى كان مفوهاً و لديه حضور .. هو فقط كان يبحث عن ما يريد ..

ذلك المظهر الأرستقراطى الذى كان يبدو عليه كان يخفى تحته نار ثورة متقدة .. غضب عارم من غطرسة الولايات المتحدة و رأسماليتها التى تتحكم فى أقوات الشعوب .. كان لديه هدف و لكن كان ينقصه التوجيه .. كان صامتاً أغلب الوقت بالفعل .. ليس لأنه لا يجد ما يقول .. و لكن لأنه كان يتحين الفرصة ليتكلم .. هنا جاء دور تدابير القدر .. تشى فى طريقه لمعرفة هويته الحقيقية ..

إرنيستو الثائر بدون قضية و المقتنع تماماً بوجوب حمل السلاح كان يبحث فقط عن طرف الخيط الذى سيقوده إلى قضيته الجديدة .. كان قد احتفظ بصداقاته مع بعض المنفيين الكوبيين الذين سافروا إلى المكسيك بعد انقلاب جواتيمالا و عن طريقهم علم تفاصيل الحياة فى كوبا .. تفاصيل مهدت الطريق نحو اقتناعه بوجوب مساندة تلك القضية .. 

كوبا كانت تحت حكم ديكتاتورى فاشى من قبل فورجنسيا باتيستا.. و مثل أى ديكتاتور لاتينى وقتها كانت الولايات المتحدة و عن طريق ذراعها الإستخباراتى الـ CIA تتحكم به كأى دمية أخرى فى دول الجوار فكان أسداً على شعبه و فأراً فى مواجهة المؤسسات الأمريكية ..

الفساد و الظلم كان قد إنتشر فى كوبا إلى حد لا يمكن قبوله أو السكوت عليه .. الدولة كلها كانت تحت رحمة رأسمالية أمريكا .. مظاهر الترف و الثراء كانت من نصيب باتيستا و حاشيته و المقربين منه فقط أما باقى الشعب فكان يقف وحيداً مواجهاً غول الفقر و من بعده رجال باتيستا المدججين بالسلاح و التى كانت كل وظيفتهم قمع أى مظهر من مظاهر المقاومة ..

فى ظل ذلك الوقت وقف رجلاً وحيداً ينادى بالمقاومة و ليست المقاومة السياسية الناعمة بل المقاومة المسلحة .. باتيستا كان قد أغلق أى أفق سياسى على كل حال و صار التوصل لحل سلمى شبه مستحيل ..

ذلك الرجل كان فيديل كاسترو زعيم المتمردين و الذى كون فرقة من المناهضين لحكم باتيستا .. فى مرة من المرات قام بمساعدة فرقته بالهجوم على ثكنة من ثكنات الجيش فتم القبض عليه و حكم عليه بالسجن و بعد خروجه تم نفيه .. نعم .. كما تخيلت بالضبط .. تم نفيه إلى المكسيك .. القدر ما زال يهيىء الظروف لكى يتم لقاء الرجلين ..

خلال تلك الفترة كان جيفارا لازال يعمل بالمستشفى العام و يلقى بعض المحاضرات فى الجامعة الوطنية فى مكسيكو سيتى و كانت علاقاته تقوى أكثر و أكثر مع المنفيين الكوبيين و منهم راوول كاسترو الأخ غير الشقيق لزعيم المتمردين فى كوبا .. كان هو حلقة الوصل بينه و بين فيديل .. و خلال ساعات من لقائه إقتنع إرنيستو جيفارا بضرورة الإلتحاق بصفوف المقاومة الكوبية .. وجد جيفارا قضيته أخيراً .. و وجد معها أستاذه و ملهمه .. 

– لماذا ؟! ياله من سؤال غريب !! 

تشى كان ثائراً متمرداً بالفطرة كيف لا يعجب بفيديل و هو الرجل الذى بالكاد وصل إلى المكسيك منفياً من وطنه و قبلها كان مسجوناً و أول ما كان يقوله لأى فرد يقابله .. ( سأغزو كوبا ) لم يقول سأهاجم نظام باتيستا من منفاى أو سأفجر كذا أو أخطف كذا .. كان طموحه أكبر من مجرد إحداث هزة فى نظام باتيستا .. كان طموحه هو غزو كوبا غزواً فعلياً و إقتلاع النظام الديكتاتورى من جذوره .. ذلك الطموح هو ما أقنع جيفارا بإتباعه .. جيفارا نفسه لم يكن ليقبل بأقل من هذا ..

تشى كان قد رزق بمولودة من زوجته هيلدا جاديا .. هيلديتا .. كان من المنطقى البقاء لرعاية اسرته لكن كل من عرفه عن قرب كان يعلم يقيناً أن ثوريته كانت تأتى دائماً أولاً و عائلته كانت تأتى فى المرتبه الثانية .. كانت هذه خيبة أمل لزوجته التى انفصلت عنه بشكل غير رسمى .. لكن من يهتم .. جيفارا نفسه لم يهتم .. هو لن يهدأ له بال إلا بعد تحرير أمريكا اللاتينية من قبضة الولايات المتحدة .. فلتنتظر عائلته قليلاً ..

فيديل كان يحتاج طبيباً لجيشه الغازى .. و جيفارا كان يتوق للإنضمام تحت أى مسمى .. فالمهم هو الإنضمام للقضية .. فى 2 ديسمبر 1956 بدأ جيش كاسترو المكون من 80 مقاتلاً بخلاف فيديل و جيفارا فى غزو كوبا .. كان المجموع 82 رجلاً فقط .. هذا كان جنون .. لكن جيفارا كان أكثرهم جنوناً فهو بالأساس ليس كوبياً لتحمل هكذا مخاطرة .. كانت إحتمالية النجاح 0.5 % و على الرغم من ذلك قبل بها تشى .. الآن لا عودة للوراء .. إما أن تنتصر أو تموت ..

إثنان و ثمانون رجلاً متأهبين للقتال و فى أول معركة لهم أمام الجيش الكوبى قتل منهم ستون مقاتلاً .. بقى منهم 22 فقط .. منهم جيفارا الذى أصيب فى عنقه .. الباقين منهم فروا إلى الجبال محتمين بغابات سييرا مايسترا من هجمات الجيش عليهم .. فى تلك المرحلة التى قال عنها جيفارا أنها كانت أصعب لحظات الثورة و كانت أكثرها ضعفاً كان عليه أن يتخذ قراره إما أن يصبح طبيباً أو مقاتلاً .. حينها كان يجب عليه الإختيار .. إما صندوق المستلزمات الطبية و إما صندوق طلقات الرصاص .. جيفارا اختار صندوق طلقات الرصاص ..

22 مقاتلاً قاموا بتنفيذ عمليات عده ضد الجيش الكوبى فى غابات سييرا مايسترا .. 22 مقاتل وصلوا فى أضعف حالاتهم إلى 17 مقاتلاً فقط ظلت قوات الجيش تطاردهم لشهور دون جدوى .. برع جيش الثورة فى حرب العصابات و أجهد الجيش النظامى الكوبى بشده .. بالتأكيد كان هناك نقص فى المؤن و الذخيرة و لكن تكفلت العمليات الناجحة ضد الجيش الكوبى فى تأمين المطلوب ..

رائج :   سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء التاسع

رائج :   صلاح الدين والدنيا

مع الوقت زادت هيبة جيفارا بين المقاتلين .. جرأته و شجاعته و إيمانه بالقضية جعله موضع إحترام كبير .. أرجنتينى يضحى بحياته لأجلنا .. يا له من بطل .. معها تم ترقيته لرتبة قائد و هى أعلى رتبة فى جيش الثورة .. الآن جيفارا صار أكثر حماسة من ذى قبل .. الآن الموت فداء القضية صار قراراً أسهل من أن يؤخذ .. لقد صار عقيدة راسخة ..

تشى لم يكن مجرد قائد فقد قام بتحويل مركز تدريب الجنود فى أعمق نقطة فى الغابات إلى أسلوب حياة متكامل .. فبجوار مركز التدريب قام بإنشاء محل جزارة .. مستشفى .. مصنع سجائر .. و أيضاً مدرسة لتعليم الجنود .. كان أغلب المقاتلين أميين لا يقرأون و لا يكتبون ..

لم يقتصر الأمر على كل هذا فزاد على ما سبق قراره الأهم .. إنشاء إذاعة راديو ريبيلدى أو إذاعة المتمردين .. أنشأها لأنه علم قدر الإعلام فى حشد الدعم و التأييد للقضية .. كان قد تعلم ذلك من تكتيك الولايات المتحدة فى جواتيمالا حينما إحتالوا على الشعب و أقنعوه عن طريق الإعلام بضرورة عزل الرئيس ياكوبو أربينز ..

هالة جيفارا الروحية و المعنوية زادت بشكل كبير .. صار مثلاً يحتذى به و نموذجاً يطمح كل الجنود لتقليده .. ساهمت تلك العوامل فى إنضمام المزيد من المقاتلين لجيش الثورة تحت قيادة فيديل و جيفارا .. كان لهذا أبلغ الأثر فى الإنتصارات التى حققها جيش الثورة ..

تكتيك جيفارا القائم على أساليب حرب العصابات أرهق بشدة جيش باتيستا ففى كل مرة كان يظهر جيفارا و رجاله و يقومون بعملية كبيرة تلحق خسائر مهولة فى صفوف الجنود و قبل أن يستجمعوا قواهم كان جيش الثورة يختفى معتمداً على درايته الكبيرة بخطوط السير و أماكن الإختباء ..

رائج :   أم بريطانية تحكي كيف أثر محمد صلاح في حياة طفليها

فى معركة لاس ميرسيدس مثلاً قام بتعطيل أكثر من 1500 جندى نظامى و منعهم من الوصول إلى قوات فيديل كاسترو .. إنتصارات جيش الثورة المتتالية و إستيلائهم على أسلحة الجيش جعلت الولايات المتحدة تفرض حظراً على الأسلحة لكوبا ما ساهم فى تضييق الخناق أكثر على باتيستا و بعد حوالى عامين من الكر و الفر قامت قوات جيفارا بالتوجه إلى سانتا كلارا أخر معاقل الجيش قبل هافانا العاصمة ..

علم باتيستا بأهمية سانتا كلارا و عليه حاول رمى ثقله العسكرى فيها فقام بإرسال قطار محمل بالأسلحة و الذخيرة إلى قواته بالمدينة .. ظهر تشى مرة أخرى و إستعار جرافة كانت ملك أحد المزارعين و أمر رجالة بحفر جزء من مسار القطار على السكك الحديدية فإنقلب القطار و استولى منه جيفارا على كمية هائلة من الأسلحة ..

رشاشات .. بازوكا .. مضادات للطائرات .. أسلحة بعيدة المدى .. بنادق .. و كمية كبيرة جداً من الذخائر .. غنيمة جعلت الوصول لهافانا أسهل بدون شك .. غنيمة جعلت الديكتاتور فورجنسيا باتيستا يفر من كوبا فى 1 يناير 1959 و يهرب إلى جمهورية الدومينكان و منها إلى منفاه فى البرتغال .. فى 2 يناير تدخل قوات جيفارا العاصمة هافانا و فى 8 يناير تدخل قوات كاسترو .. نجحت الثورة .. لقد بدأ عهد الشيوعية فى كوبا .. 

ماذا بعد نجاح الثورة .. ماذا سأفعل هنا .. أولاً و أخيراً أنا أرجنتينى و لست كوبياً .. ما هى خططى المستقبلية .. كلها أسئلة مرت بذهن جيفارا .. بطبيعة الحال زهوة الإنتصار أجلت كثيراً من الإجابات و لكن كان لابد من أن يأتى وقت للإجابة ..

  • لن تمر فترة طويلة حتى يتعرف جيفارا على حياته الجديدة ..
  • و لن تمر فترة طويلة حتى يأخذ قراره الجديد ..
  • و لن تمر فترة طويلة حتى يرسخ شخصيته فى أذهان العالم .. 

مقالات ذات صلة