من هنا وهناك

ماذا يحدث في برشلونة (كتالونيا) ؟

ماذا يحدث في برشلونة (كتالونيا؟)

تخيل أنك صحيت من النوم أكتشفت أنهم لغوا الكلاسيكو، لا مزيد من برشلونة ضد ريال مدريد، لا يوجد شيء أسمه الكلاسيكو، وبرشلونة بتلعب مثلًا في الدوري الإنجليزي، كلام يبدو ترهات وأحلام، صح؟

غلط، لأن هذا السيناريو ليس بعيدًا عن الواقع كما تتخيل وإنما هو قصة تقترب من التحقق بين الحين والآخر لولا اليد الحديدية لحكومة مدريد في السيطرة على إقليم كتالونيا (ومعه طبعًا عاصمته برشلونة.)

لفهم الموقف الحالي ورغبة إقليم كتالونيا ومحاولاته المستمرة في الإنفصال عن اسبانيا ككل، لابد من الرجوع للتاريخ لفهم أسباب الخلاف.

أيام الحضارة الرومانية (قبل ميلاد المسيح) كانت شبه جزيرة أيبريا (شبه الجزيرة التي تضم الآن دلوتي أسبانيا والبرتغال) تحت السيطرة الرومانية وكان أسمه إقليم “هسبانيا.”

اللغة اللاتينية (لغة الرومان) دخلت جميع أرجاء الإمبراطورية الرومانية طبعًا وخاصة النكهة العامية منها (وليس الأدبية والمثقفة) lingua vulgaris وبعدها بتفاعل تلك اللهجة مع الثقافات المختلفة في الأنحاء المختلفة للإمبراطورية الرومانية تطورت وتحورت لما نعرفه اليوم باللغات الرومانسية (الإسبانية والفرنسية والبرتغالية والرومانية – دولة رومانيا – وطبعًا الإيطالية وعشرات اللغات غيرهم)

يعني حاجة شبيهة باللغة العربية الفصحى بعد دخلوها لأنحاء الإمبراطورية العربية وبعدها تحورت للمصرية والعراقية والشامية والمغربية، إلخ (والإختلاف بين هذه اللهجات بشكل كبير قائم على إختلاف الثقافات المحلية في المنطقة التي أمتزجت معها اللغة الأصلية، يعني مثلًا في مصر، اللغة العربية أحتكت بالثقافة القبطية ولذلك نتجت عنها اللهجة المصرية التي نعرفها الآن، وكذلك في باقي الدول) .

ولكن طبعًا اللهجات الناتجة عن العربية لم تسنح لها الفرصة أن تصبح لغات مستقلة بذاتها لها قواعد وصياغة رسمية وما إليه كما اللهجات الأوروبية الناتجة عن اللاتيني (بسبب الرغبة في الحفاظ على اللغة العربية الأصلية من أجل القرآن وأن الأقاليم العربية لم تدخل في حروب طاحنة مشابهة للدول الأوروبية ولم يقيموا ممالك خاصة بهم وأسباب أخرى.)

في القرن التاسع والعاشر الميلادي (بعد الغزو العربي والإسلامي لأيبريا) كان الموقف اللغوي في شبه جزيرة أيبريا شبيه بالنصف الأسفل من الصورة، مجموعة لغات مختلفة عن بعضها ولكن جميعها مشتقة وأصلها من اللاتيني (ما عدا طبعًا العربي والـBasque،

في النصف الأسفل من الصورة ستلاحظ كلمة Catalan لغة إقليم كاتالونيا، وكاستيان Castillian اللغة التي تطور منها الإسباني أو اللغة الإسبانية (اللغة الإسبانية حاليًا لها أسم بديل عن Español وهو Castillano وهو التعبير الأكثر شيوعًا عن اللغة الإسبانية في دول أمريكا الجنوبية)

رائج :   سلام يا شيخ محمد .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

ماذا يحدث في برشلونة (كتالونيا) ؟

على الرغم من تشارك اللغتين (الكاتالان والكاستيانو) نفس الأصل، إلا أنهم مازالوا متمازين ومختلفين ومع مرور الزمن تطوروا عن بعضهم بشكل مختلف وعَمّق الفجوة بينهم (كمثل اللهجة المصرية والعراقية أو السورية، يتشاركوا نفس الأصل ولكن لهم هوية مختلفة ومتمايزة عن بعضهم وتفاعلوا مع ثقافات مختلفة وتطورا في إتجاهات مختلفة وتأثرات مختلفة تمامًا مع مرور الزمن) وهذ الإختلاف اللغوي والثقافي هو ثاني أكبر أسباب رغبة كاتالونيا في الإنفصال (السبب الأول طبعًا إقتصادي ومادي.) 

إقليم كاتالونيا منذ تأسيسه وهو من أنجح المدن في أيبريا وفي أوروبا كلها، مزدهر إقتصاديًا ومستوى المعيشة فيه مرتفع جدًا ومنتعش فكريًا وهكذا ولذلك يشعر بتميز عن باقي المنطقة.

منذ القرن التاسع وحتى القرن الـ15 كان الوضع في جزيرة أيبريا شبيه بالنصف العلوي في الصورة، مقسمة لـ5 ممالك رئيسية، البرتغال، كاستي وليون، أراجون، ناباري، وغرناطة (طبعًا غرناطة كانت أخر جزء متبقي من المملكة الإسلامية الضخمة في جنوب اسبانيا، المعروفة بالأندلس.)

كاستي وليون (معناها “القلعة والأسد” وهم إقليم واحد) كانوا أكبر الأقاليم وأكثرهم تأثيرًا في كل المنطقة، ولكن كاتالونيا كانت جزءًا من أراجون (ثاني أكبر إقليم) وإقليم أراجون كان يحترم الهوية الكاتالونية ويسمح لهم بمساحة كبيرة جدًا من الحرية ثقافيًا وسياسيًا (لأن اللغة الأساسية في الإقليم ولكن نكهة أخرى من اللغات الرومانسية أسمها الأراجوني وهي شبه منقرضة الآن.)

إقليم كاستي وليون في أواخر القرن الخامس عشر كانت تحكمهم بنت صغيرة جدًا في السن أسمها “إيزابيلا” (أو “إيسابيّا” بالإسباني) وكانت أكثر بنت عليها العيون من جميع حكام أوروبا بفضل ميراثها الضخم والمهم جدًا، كان الخيار عندها ما بين فرديناند حاكم أراجون، وأفونسو ملك البرتغال،

في النهاية بالطبع أختارت فريدناند كما هو معروف وشكلوا الثنائي الذي أستكمل الحملات المسيحية ضد الإسلام في شبه جزيرة أيبريا حتى أسقطوا أخر معاقله في غرناطة عام 1492 وبعدها سيطروا على ناباري وباقي الممالك المسيحية الصغيرة (ومناطق في إيطاليا وطبعًا شمال إفريقيا منهم سبتة ومليلية) وشكلوا الإقليم الجديد الكبيرة (كاستي وأراجون) الذي يضم تقريبًا كل اسبانيا الحديثة،

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (٤) : خمسة مشاهد على يومين

السياسية الإسبانية الجديدة لم تكن متصالحة ومتعاطفة مع فكرة الإستقلال الفكري واللغوي لكاتالونيا كما كان إقليم أراجون منفصلًا وبدأوا، إلى حد ما، وبدأت الحكومة الجديدة تقمع اللغة الكاتالونية والثقافة الكاتالونية وتفرض عليهم الثقافة واللغة الكاستيلية (أو الاسباني،) الجديدة وهو نفسه كان عصر ما يعرف بمحاكم التفتيش الدينية، ولذلك بدأت تتكون في رأس الكاتالونيين فكرة الإنفصال والحركات الإنفصالية.

لكن القمع الإسباني للثقافة الكاتالونية لم يدخل في مرحلته الشديدة والضارية جدًا فعلًا إلا بعد قرار مصيري خاطئ أتخذه الكاتالونيين (وإقليم أراجون كله) وهو في بداية القرن الـ18 (عام 1700) فيما يسمى “حروب الخلافة الاسبانية”

وهي عبارة عن حرب دخلت فيها أوروبا كلها تقريبًا واسبانيا أنقسمت على نفسها وكان نصفها (أراجون) يحارب نصفها الآخر (كاستي وليون) بسبب أن كل طرف في النزاع يريد وضع ملك مختلف على العرش الإسباني، كانت حرب بين الإنجليز والسكتلنديين والبرتغاليين والهانوفريين (الموجودين في ولاية هانوفر الألمانية حاليًا) والبروسيين (أكبر ولاية في المنطقة الألمانية وقتها) والسافوي من ناحية، ضد الإسبانيين والفرنسيين والبافاريين من ناحية أخرى (ولكن طبعًا اسبانيا كما سبق الذكر كانت منقسمة على نفسها.)

الطرف الأول يريد وضع ينصب أمير تابع لهم على العرش، والطرف الثاني يريد وضع أمير آخر (لأن العرش الإسباني الجديد كان سيحدد من هي القوة العظمى الجديدة في أوروبا، فرنسا أم النمسا وهي مسألة مصيرية ولذلك تدخل فيها جميع الأطراف. للمزيد عن الحرب الممتدة الطاحنة بين الفرنسيين وآل هابسوبورج، 

في النهاية خسر إقليم أراجون وحلفاؤه الحرب وسقطت برشلونة في أيدي المملكة الإسبانية يوم 11 سبتمبر عام 1714 (حاليًا هذا اليوم يسمى “اليوم القومي لكاتالونيا” Diada Nacional de Catalunya) وأنهت جميع محاولات كاتالونيا أو أي أمل لهم في الإنفصال لمدة قرون بعدها.

منذ هذا التاريخ وحتى بدايات القرن العشرين كانت الحكومات الإسبانية المتعاقبة متفاوتة في موقفها من الثقافة واللغة الكاتالونية، تقمعها تارة وتتسامح معها تارة، في بدايات القرن العشرين كانت اسبانيا تحكمها حكومة تسمى الحكومة “الجمهورية” وهي حكومة يسارية كانت متعاطفة ومتسامحة جدًا مع كاتالونيا وممارستها الحرة للغتها وثقافتها

ولكن بعدها قامت حرب أهلية فاز فيها طرف آخر أسمه “القوميين” بقيادة الجنرال الفاشي فرانسيسكو فرانكو على “الجمهوريين” وتحت حكم فرانكو لم تجد كاتالونيا أي منفذ أو ربع فرصة لممارسة ثقافتهم والتفاخر بهويتهم بأي شكل رسمي أو معلن لأنها كانت تحمل عقوبة الإعدام وتم تغيير كل المستندات الرسمية والتعليم وكل شيء للغة الإسبانية ولم يمارس الكاتالونيين أو وجه أو ملمح من ثقافتهم إلا في السر. 

رائج :   فخ التمانينات .. وجهة نظر

بعد موت فرانكو عام 1975 عادت اسبانيا للديموقراطية وتصالحت الحكومات الإسبانية الجديدة مع الثقافة والهوية الكاتالونية وسمحوا لهم بممارستها شريطة أن يكونوا اسبان أولًا وكاتالونيين ثانيــًا، يعني لهم الحق في ممارستهم هويتهم كما شاؤوا ولكن فكرة الإنفصال غير مقبولة وسيتم مقابلتها بالحديد والنار من حكومة مدريد،

لكن طبعًا إقليم كاتالونيا غير مقتنع وعاد أكثر من مرة لمحاولات الشغب والإنفصال، والسبب الأساسي في الموضوع بعيدًا عن الإختلافات الثقافية والفكرية، هي أن برشلونة منتعشة ومزدهرة إقتصاديًا أكثر من باقي اسبانيا تقريبًا، يعني على سبيل المثال، تمثل 16% من السكان ولكن %19 من الإقتصاد الكلي و%25 من صادرات البلد ورأيهم هو أنهم يدفعوا ضرائب باهظة جدًا تعود على باقي اسبانيا كلها بالنفع ولكن عليهم بلا شيء وحتى ضرر بالغ لإقتصادهم غير أنهم لا يحتاجوا لباقي اسبانيا مصيريًا في أي شيء ولذلك الإنفصال في مصلحتهم، ولكن طبعًا الحكومة الإسبانية لها رؤية أخرى.

طبعًا كما ممكن أن تتوقع، أغلب نجوم برشلونة مساندون للحركات الإنفصالية ومن ألمعهم “يوهان كرويف” و Xavi و Pep Guardiola و Gerard Piqué وعشرات غيرهم عبر التاريخ وأخرهم كانت منذ أيام بإقامة إستفتاء بين الكاتالونيين على الإنفصال.

وزارة الرياضة الإسبانية حذرت أكثر من مرة أن خروج كاتالونيا من اسبانيا سيعني قطع جميع العلاقات معها بما فيها طرد نادي برشلونة وجميع الأندية الكاتالونية من الدوري الاسباني، والموضوع ممكن يصل لعقوبات إقتصادية وحتى حرب كاملة بين الطرفين لأن الحكومة الإسبانية غالبًا لن تعترف بالموضوع ولن تعتبره رغبة وإرادة قومية كاتالونية وإنما محاولة إنفصالية عصيانية لابد من التعامل معها بحزم.

أفضل حل مقترح الآن هو أن إقليم كاتالونيا ينال المزيد من الحرية بداخل اسبانيا وحق تقرير مصير وضرائب بدرجة أكبر بكثير من الموجودة حاليًا (مثل إقليم الـBasque ولكن مازالت الرؤية غير واضحة.

Related Articles