قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || بالدم

دوى الانفجار، في المنطقة الشرقية لقناة (السويس)، وتردد صداه في الضفة الغربية، فدوت معه هتافات الجنود:
ـ الله أكبر ..
وانتفض جسد ضباط الكتيبة، وهو يلوح بقبضته، قائلًا في حماس:
ـ الأولاد نجحوا .. نسفوا مخزن الذخيرة.
كان هذا في أوج حرب الاستنزاف، والحماس يملأ قلوب الجميع، فارتفعت رءوس جنود الكتيبة في لهفة، وعيونهم تمسح سطح القناة، حتى لمحوا ذلك الزورق، الذي يعبرها إليهم، فهتف بعضهم:
ـ إنهم يعودون.

وكما لو كانت هذه إشارة البدء، انطلقت عشرات المدافع من الضفة الغربية، لتنفجر قنابلها على الضفة الشرقية، لحماية رجالنا، وتغطية انسحابهم، وتأمين عبورهم، حتى بلغوا الضفة الغربية للقناة، فاستقبلهم رفاقهم استقبال الأبطال ..
كانوا أربعة من جنود الكوماندوز المصريين، وبصحبتهم أسيران إسرائيليان، أحدهما مصاب بجرح بالغ، وحلته العسكرية الإسرائيلية غارقة بدمه..

وفي توتر، سألهم الضابط:
ـ أين (حامد)؟
أجابه الجندي (حسن) في اقتضاب:
ـ استشهد.
هبط الحزن فجأة على قلوب الجميع، وترقرق الدمع في عيون بعضهم، والضابط يسأل في خفوت حزين:
ـ وأين جثته؟
أجابه (حسن):
ـ لم تعد هناك جثة.

كاد يكتفي بهذا القول، لولا أن أطل التساؤل في عيون الجميع، فأضاف في حزم مقتضب:
ـ لقد نسف نفسه مع المخزن.
اختنقت حلوقهم بالحزن، وقال الضابط:
ـ قدموا تقريركم، وانقلوا الأسيرين إلى الحجز، واتصلوا بالقيادة لتحديد الموقف.

تم تنفيذ الأوامر في دقائق معدودة، ونقل الأسير المصاب إلى الوحدة الطبية لإسعافه، وبذل الطبيب هناك قصارى جهده، قبل أن يقول للضابط وجنوده:
ـ لا فائدة .. الإسرائيلي سيموت حتمًا، ما لم ننقل له لترًا من الدم، من فصيلة (أ) موجب، ولا توجد لدينا أية دماء هنا.

تعالى صياح بعض الجنود:
ـ دعوه يموت .. فليدفع ثمن ما أصاب الشهيد (حامد).
إلا أن الجندي (حسن) اخترق الصفوف، وهو يقول في حزم:
ـ أنا أمنحه دمي.
لم يكد ينطقها، حتى بدا وكأن قنبلة من الصمت قد انفجرت في المكان، فأحالته إلى مقبرة ساكنة، والكل يحدقون بشيء من الذهول والاستنكار، قبل أن يردد الضابط في خفوت، وكأنه لا يصدق ما سمعه:
ـ تمنحه دمك؟!

رائج :   الخروج إلي المجهول ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

كرر (حسن) في حزم أكثر:
ـ أنا أمنحه دمي .. فصيلة دي (أ) موجبة .. وسأمنحه لترًا من دمي.
ساد الصمت لحظات أخرى، ثم تفجرت ثورة الغضب في الحناجر:
ـ أنت !! أنت تمنحه دمك يا (حسن) !!
ـ تمنح الإسرائيلي دمك؟
ـ هل جننت يا رجل؟
ـ لست أصدق نفسي ..
ـ (حسن) هذا مخبول بحق ..
ولم ينبس (حسن) ببنت شفة ..
لقد ظل صامتًا، والحزم يكسو وجهه كله، على الرغم من ثورة رفاقه، حتى سأله الطبيب:
ـ أأنت مستعد لهذا حقًا؟!

ولم يجب (حسن)، وإنما مد ذراعه للطبيب، معلنًا موافقته وعزمه، فلم يكن من الرجل إلا أن اصطحبه إلى داخل العيادة، وغرس إبرة نقل الدم في ذراعه، وبدأ ينقل لترًا من دمه إلى عروق الإسرائيلي..
ولم تستغرق العملية سوى ساعة واحدة، انتعش بعدها جسد الإسرائيلي، وتجاوز مرحلة الخطر، في حين بدا (حسن) شاحبًا ممتقعًا، فربت الطبيب على كتفه، وهو يقول:
ـ انتهى الأمر يا بطل .. تناول كوبين كبيرين من عصير الفاكهة، وستصبح على ما يرام بإذن الله ..
ولكن الطبيب لم يكن مصيبًا في قوله هذا ..
الأمر لم ينته أبدًا ..
لقد بدأ ..

فمنذ غادر (حسن) العيادة، أشاح عنه الجميع بوجوههم ..
زملاء خيمته ..
زملاء الكتيبة ..
وحتي الضابط والصول وضابط الصف ..
كلهم قرروا أن ينبذوه وأن يتجاهلوه تمامًا ..
لا أحد يصافحه، أو يشاركه طعامه، أو حتى يلقي عليه تحية الصباح …
الكل قاطعوه تمامًا، عقابًا له على منحه دمه للإسرائيلي ..
والعجيب أنه احتمل كل هذا في صبر عجيب ..
احتمله وكأنه كان يتوقعه ..

رائج :   تعرف على قصة “الكاهن والشيطان” لفيودور دوستويفسكي

لقد راح يأكل وحده، ويعمل وحده، في استسلام عجيب، دون أن يشكو أو يتبرم، وكأن هذا قدره، الذي يتحتم عليه قبوله صاغرًا، ودون مقاومة ..
ولكن هذا لم يرق لهم ..
وفي عناد، تمادوا في عقابه، فصاروا يستفزونه، ويشاغبونه، ويتحرشون به في كل مناسبة، غلا أنه تجاهل هذا تمامًا، وواصل معاملتهم بمنتهى الهدوء والأدب والصبر ..
واستفزهم هذا الهدوء أكثر وأكثر، حتى أنهم استغلوا وصول أحد القادة، للتفتيش على الكتيبة، فانتخبوا من بينهم واحدًا، تقدَّم للقائد قائلًا:
ـ سيادة القائد .. الكتيبة لديها مطلب واحد، واجتمعت كلها على الرغبة ي تنفيذه، وتتقدم إليك برجاء لتنفيذ رغبتهم.

سأله القائد في قلق:
ـ أي مطلب هذا؟
أجابه مندوب الكتيبة:
ـ لا نريد الجندي (حسن) بين صفوفنا.
أدهش هذا المطلب القائد، ولكنه وعد مندوب الكتيبة ببحث الأمر، واجتمع مع الضابط، وسأله عن هذا، فشرح له الضابط الموقف كله، وختمه قائلًا:
ـ ولم يحتمل الجنود بالطبع فكرة أن يتبرع (حسن) بلتر من دمه لجندي إسرائيلي، في نفس الوقت الذي فقدوا فيه (حامد)، الذي ضحى بحياته لتنجح العملية.
أومأ القائد برأسه متفهمًا، وهو يقول:
ـ أمر طبيعي.

ثم استغرق في التفكير لحظات، قبل أن يستطرد في حزم:
اجمع الكتيبة كلها .. أريد أن أنفذ الأمر بطريقتي ..
ولم تمض دقائق معدودة، حتى كانت كتيبة الصاعقة كلها تقف أمام القائد، وتؤدي له التحية، وبعد الإجراءات العسكرية المعتادة، شد القائد قامته، وواجه الرجال جميعًا بقوله:
ـ لقد تلقيت اليوم مطلبًا جماعيًا من الكتيبة، بخصوص نقل أحد أفرادها إلى كتيبة أخرى، وقبل تنفيذ هذا النقل، أريد من هذا الفرد أن يواجه الجميع، ويشرح مبررات فعله .. الجندي (حسن) .. تقدَّم الصفوف.

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || العمالقة

أطاع (حسن) الأمر، وتقدم ثلاث خطوات إلى الأمام، واتخذ وقفة عسكرية صارمة، فواجه القائد بنظرة نارية، وهو يسأله:
ـ لماذا تبرعت للإسرائيلي بدمك يا (حسن)؟
صمت (حسن) لحظة، ثم أجاب بصوت قوي:
ـ من أجل الوطن يا افندم.
سرت همهمة غاضبة مستنكرة، أسكتتها النظرة الصارمة المطلة من عينيّ القائد، قبل أن يسأله:
ـ ما الذي يعنيه جوابك هذا يا (حسن)؟
أجابه (حسن):
ـ في أثناء التدريبات، علمونا أنه من الضروري أن نسعى لإحضار أسرى، في كل عملية من عمليات حرب الاستنزاف، لأن كل أسير نحصل عليه من الإسرائيليين، يساوي أحد أسرانا لديهم، عندما تتم عملية تبادل الأسرى .. وعندما علمت أن ذلك الإسرائيلي الأسير سيموت، ما لم يحصل على الدم، خشيت أن نخسر بموته أحد أسرانا، فمنحت دمي له، من أجل من سنستبدله به من أسرانا ..

ثم ازدرد لعابه، وشد قامته، وسط الصمت الرهيب الذي أطبق على المكان، قبل أن يضيف في حزم:
ـ باختصار .. كنت أشعر بأنني أمنح دمي لأسيرنا، وليس لأسيرهم.
قالها، وعاد إلى وقفته العسكرية الصامتة، والعيون كلها تتطلع إليه في انبهار وخجل، والعروق يسري فيها شعور بالندم وتأنيب الضمير ..
ثم قطع القائد حبل الصمت ..
وأصدر قراره ..

ومنذ ذلك اليوم، لم يعد (حسن) جنديًا في الكتيبة ..
لقد أصبح عريفًا، تزيَّن ذراعه تلك الشرائط، التي حصل عليها بترقية استثنائية، و …
وبالدم.

________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ البعث ـ رقم 20)

مقالات ذات صلة