تاريخقضايا وأراءوعي

هزيمة يونيو المستمرة || (2) : أسئلة الهزيمة

لم تكن هزيمة ٦٧ هزيمة عادية. ولا يمكن النظر إليها على أنها هزيمة للجيش فقط.

إن الطريقة التي انهزم بها الجيش، والسرعة التي انهارت بها قيادته، وفداحة الخسارة في الأرواح والمعدات والأرض — كل هذه العوامل تجبرنا على النظر لـ٦٧ على أنها أكثر وأعمق من مجرد هزيمة جيش منكسر.

إنها هزيمة نظام سياسي واجتماعي وفكري، هزيمة رؤيتنا للعالم ولمكاننا فيه.

وبالتالي فتفسير الهزيمة لا يجب أن يكون محصورا في النواحي العسكرية. وفي مقال قادم سأتناول بعض النواحي غير العسكرية للهزيمة.

ولكن لو حصرنا اهتمامنا في النواحي العسكرية فقط، فإن هزيمة ٦٧ تطرح أسئلة صعبة لا أظن أننا تمكنا بعد من الإجابة عليها.

فعلى مدار سنوات طوال قيل لنا أننا نملك أقوى جيش في الشرق الأوسط، وفي الذكرى الرابعة عشر للثورة ، أي في ٢٣ يوليو ١٩٦٦، أقيم عرض عسكري مبهر شهده عبد الناصر مع قادة الجيش وتناقلته وسائل الإعلام كلها، وبها ظهر الجيش قويا مدججا بالسلاح.

العرض العسكري يوم ٢٣ يوليو ١٩٦٦
العرض العسكري يوم ٢٣ يوليو ١٩٦٦

وعندما ظهرت الأزمة في ١٤ مايو ٦٧ وبدأت عملية التعبئة شاهدت الملايين من سكان القاهرة قوات الجيش وهي تخترق شوارع العاصمة في طريقها للجبهة في مشهد أقرب لاستعراض عسكري منه لحشد تعبوي.

ويقول الفريق صلاح الدين الحديدي (الذي كان قائد المنطقة المركزية والذي سيرأس فيما بعد المحكمة التي حاكمت قادة الطيران) في كتابه “شاهد على حرب ٦٧” الصادر في ١٩٧٤ “أنه كان من الغريب حقاً أن تسلك هذه التحركات الضخمة، في بدايتها من المنطقة المركزية شوارع رئيسية في العاصمة، مارة بأكثر الميادين ازدحاماً بالمرور المدني العادي رغم وجود طريقين رئيسيين خارج المدينة الكبيرة، يمر أحدهما بالقرب من جبل المقطم (طريق صلاح سالم) والآخر موازياً للنيل (طريق الكورنيش).

بل قد لا أكون مبالغاً إن قلت إن فكرة هذين الطريقين نشأت أساساً لتسهيل التحركات العسكرية. وقد كان لي فرصة مناقشة أسباب اختيار قلب العاصمة لتمر فيها عشرات الآلاف من العربات والدبابات والمدافع، تحت شرفات أكبر السفارات الأجنبية في القاهرة، الصديق منها وغير الصديق، فأفهمت يومها إن هذا القرار لم يأت عفواً بل له أهداف قد يحققها هذا الاختيار الذي يعرض أمام الملأ عضلات القوات المسلحة.” (ص ١٥٣-١٥٤)


وبالفعل، كان مشهد الجيش مبهرا، وكان يحق للمصريين أن يفتخروا بأن جيشهم من أكبر جيوش المنطقة. فالجيش كان يمتلك أكثر من ١٣٠٠ دبابة (إسرائيل كانت تمتلك ١٠٠٠)، وأكثر من ١٠٠٠ مدرعة حاملة للجنود (إسرائيل: ١٥٠٠) ، و٩٥٠ بطارية مضادة للطائرات (إسرائيل: ٥٥٠)، و٤٣١ طائرة مقاتلة (إسرائيل ٢٨٦)

وكانت وسائل الإعلام كلها، الصحف والإذاعة والتليفزيون، تنقل كل شهر أخبار الانتصارات التي يحققها الجيش بالفعل في اليمن وتتوعد بالهزائم التي سيوقعها حتما جيشنا الجرار بإسرائيل في المعركة المرتقبة.

ويكفي إلقاء نظرة سريعة على عنواين الصحف منذ اندلاع الأزمة في ١٤ مايو وحتي بدء القتال في ٥ يونيو للوقوف على تطلع الشعب للمعركة وتشوقه لها:

الأخبار ، ٢٩ مايو

الأخبار ، ٢٩ مايوالجمهورية، ٣ يونيو

وفي يوم ١ يونيو صدحت أم كلثوم بأغنية “راجعين بقوة السلاح” في سينما قصر النيل. وكان الثنائي صلاح جاهين ورياض السنباطي قد فرغا لتوهما من الأغنية ولم يتسن لأم كلثوم أن تحفظها، لذا نراها هنا ووراءها ملقن يذكرها بالكلمات:

  • وفي صباح يوم ٥ يونيو، يوم بدء القتال، قرأ المصريون هذا العنوان في صحيفة الأخبار:

رائج :   نيلسون مانديلا .. أيقونة كفاح || الجزء الثاني

وفي صباح يوم ٥ يونيو، يوم بدء القتال، قرأ المصريون هذا العنوان في صحيفة الأخبار:
وفي صباح يوم ٥ يونيو، يوم بدء القتال، قرأ المصريون هذا العنوان في صحيفة الأخبار:

ولكن في الساعة التاسعة إلا ربع في صباح هذا اليوم المشؤوم، ضرب الطيران الإسرائيلي المطارات التالية: العريش، بير جفجافة، غرب القاهرة، جبل لبني، بير تمادة، أبو صوير، أنشاص، فايد، كبريت. وفي الساعة الحادية عشر ضرب مطاري المنصورة وحلوان. وبعدها بربع ساعة ضرب مطار المنيا. وفي الساعة الواحدة ظهرا ضرب مطار بلبيس. وفي الساعة الواحدة والنصف، مطاري الأقصر والغردقة. وقبل أن ينتهي اليوم قصف مطار القاهرة الدولي الساعة السادسة والربع.

وكان من نتاج هذه الغارات الإسرائيلية المتتالية أن دُمر ٨٥٪ من سلاح الجو المصري، وأصبح ١٠٠ ألف جندي في سيناء بلا غطاء جوي.

وما هي إلا ٣٦ ساعة حتى أصدر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، المشير عبد الحكيم عامر، قرار الانسحاب المشؤوم. وطوال يوم ٧ أخذ سكان القاهرة يشاهدون فلول الجيش زاحفين على الهاكستيب في البداية ثم على شوارع وميادين العاصمة، نفس الشوارع والميادين التي استعرضوا فيها قوتهم منذ أيام قليلة خلت.

وبالرغم مما شاهدوه بأعينهم في شوارعهم وأحيائهم إلا أن المصريين كانوا بعد يسمعون عبد الحليم حافظ يغني “يا أهلا بالمعارك”، وكانوا يستمعون لأحمد سعيد في صوت العرب يبشرهم بأن طلائع الجيش على أبواب تل أبيب. ورغبة منهم لاستجلاء الأمر، أقبل المصريون على قراءة آخر الأخبار فكانت صحيفة “المساء” تبشرهم هي الأخرى بأن النصر أمسى قاب قوسين أو أدنى:

المساء، ٥ يونيو
المساء، ٥ يونيو

المساء، ٦ يونيو
المساء، ٦ يونيو

المساء، ٧ يونيو
المساء، ٧ يونيو

وبحلول يوم ٨ يونيو كان الجيش العربي الزاحف على تل أبيب قد سقط منه عشرة آلاف جندي، أي عُشر عدد جنوده الذين حشدوا للجبهة، و١٥٠٠ ضابط. كما وقع في الأسر خمسة آلاف جندي و٥٠٠ ضابط (بناء على ما جاء في خطاب عبد الناصر الذي ألقاه يوم ٢٣ نوفمبر ١٩٦٧).

وبالإضافة إلى تدمير سلاح الطيران، فقد ترك الجنود وراءهم ٨٥٪ من عتاد الجيش، من دبادات ومدرعات ومدافع. وأمسى الطريق للقاهرة مفتوحا، والبلد بلا جيش يحميها.

لا درع ولا سيف.

بهذا المعنى فإن هزيمة يونيو لم تكن هزيمة عادية، لا في حجمها، ولا في فداحتها، ولا في سرعتها، ولا في عمقها.


كيف يمكن تفسير هذه الهزيمة الفظيعة؟

كدارس للتاريخ، لا أمل من تكرار أنه يجب أن نطّلع على تفاصيل هذه الهزيمة، ويجب أن نقرأ سجلات الجيش وأوراقه.

من حقنا أن نطلع على محاضر اجتماعات عبد الناصر مع معاونيه ومستشاريه، وعلى سجلات محادثات عبد الحكيم عامر مع شلته، وعلى محاضر اجتماعات رئاسة الأركان، وتقارير المخابرات الحربية، وتقارير المخابرات العامة، وسير العمليات الحربية يوما بيوم، ومحاضر اجتماعات مجلس الوزراء، ودفتر أحوال الاتحاد الاشتراكي العربي، وتفاصيل لقاءات وزير الخارجية بالديبلوماسيين والصحافيين الأجانب.

كما يجب أن نطلع على تقارير اللجان المتعددة التي شكلتها القيادة العليا للتحقيق في هذه الهزيمة المروعة.

هذه التقارير والسجلات والأوراق محفوظة في دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة وفي رئاسة الجمهورية وفي رئاسة مجلس الوزراء وفي غيرها من المؤسسات السيادية، ولكنها ملك لنا، نحن أفراد هذا الشعب، نحن المواطنين الذين ما نزال ندفع ثمن هذه الكارثة.

ولكن الجيش وأجهزة الدولة الأخرى لا تريد لنا أن نعي ما جرى، ولا يريدون الإفراج عن هذه المصادر التاريخية.

وبالتالي وحتى نحصل على حقنا في قراءة مصادر تاريخنا، فلا بديل أمامنا من اجترار ما قيل سابقا ومن الانكباب على ما كتبه صناع الحدث مع ما تختلج كتاباتهم من تحيزات وأهواء وميول.

فلنقرأ، ولنسمتع إذاً، ولكن مع التحلي بالمسؤولية ومع التشبث بشئ من الحس النقدي. فهذا أقل ما يجب علينا فعله.


وفيما يلي عرض مختصر لأشهر التفسيرات، مع عرض قصير لأوجه عوار كل واحد من هذه التفسيرات التعسة.

في خطاب التنحي الشهير، يقول عبد الناصر(من بداية الدقيقة ٧)

رائج :   فايرس كورونا و انهيار النظام الصحي في مصر || .. هل الانفجار قادم؟

“في صباح يوم الاثنين الماضى الخامس من يونيو جاءت ضربة العدو. وإذا كنا نقول الآن بأنها جاءت بأكثر مما توقعناه؛ فلابد أن نقول فى نفس الوقت وبثقة أكيدة إنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوى أخرى وراء العدو، جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية.

ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر:

أولها: أن العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذى يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له.”

والرد على ذلك هو أن العدو جاء بالفعل من الغرب ولكن هذا كان لم يكن نتيجة معونة تلقاها العدو من حلفائه بل كان نتيجة المسار الذي سلكته الطائرات الإسرائيلية في الإغارة على المطارات المصرية في العمق (عكس مطارات سيناء والقناة)، كما يتضح من هذه الخريطة:

المسار الذي سلكته الطائرات الإسرائيلية في الإغارة على المطارات المصرية في العمق
المسار الذي سلكته الطائرات الإسرائيلية في الإغارة على المطارات المصرية في العمق

وأضاف عبد الناصر في خطابه أن “العدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية فى الجمهورية العربية المتحدة، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية، لحماية أجوائه من أى رد فعل من جانبنا؛ كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها.”

والرد على ذلك أنه لم يثبت أبدا أن هناك قوة أخرى ساعدت إسرائيل في هذه الغارات الجوية، فلا الطيران الأمريكي ولا البريطاني اشترك في المعركة كما اعتقد عبد الناصر وكما ردد في الكثير من أحاديثه.

إن قدرة الطيران الإسرائيلي على الوصول لمطارات العمق كان نتيجة استهتار المخابرات الحربية بقوة سلاح الطيران الإسرائيلي والتقليل من أهميته، والخطأ في حساب مدى طائراته، والتخاذل في بناء دُشم للطائرات، والإهمال في كل تفاصيل الدفاع الجوي، كما سأبين في مقالات لاحقة.

وفي خلفية كل محاولات عبد الناصر لتفسير المصيبة التي حلت علينا يوم ٥ يونيو كانت تجربة ١٩٥٦ مسيطرة بقوة على تفكيره ومهيمنة على تحليلاته.

أما الجورنالجي الأشهر، هيكل، صديق عبد الناصر ومهندس إعلامه، فقد كتب كتابا من أكثر من ألف صفحة يكاد يؤكد في كل صفحة من صفحاته أن هزيمة ٦٧، التي غطى على فداحتها بوصفها بأنها مجرد نكسة، ما هي إلا مؤامرة لاصطياد الديك الرومي، أي الإيقاع بعبد الناصر، بسبب مواقفه التقدمية المناهضة للاستعمار والمناوئة للهيمنة الغربية على المنطقة.

الجورنالجي الأشهر، هيكل، صديق عبد الناصر ومهندس إعلامه
الجورنالجي الأشهر، هيكل، صديق عبد الناصر ومهندس إعلامه

رائج :   نصائح لمحتويات شنطة رمضان

وإن كان صحيحا أن الغرب كان بالفعل متربصا بعبد الناصر، فالصحيح أيضا أن عبد الناصر كان مدركا لهذا التربص، محذرا منه. وفي أحاديثه العديدة طوال الأسابيع والشهور التي سبقت الحرب، أعاد على مستمعيه من الأجانب أن جيشه ليس مستعدا للحرب، وأنه يجب أن يتحاشي دخول معركة لم يختر هو توقيتها، وأن الوضع الإقتصادي لا يسمح له بخوض المعركة.

وبشكل عام، وكما تتساءل العديد من الأدبيات الأكاديمية التي تناولت عملية صنع القرار في حرب ٦٧، فالسؤال المحوري هو :”كيف نفسر السهولة التي انزلقت بها مصر للحرب علما بأن عبد الناصر كان من أدهى الزعماء وأذكاهم؟”

ثم نأتي لتفسير الفريق أول فوزي الذي يقول في كتابه، “حرب الثلاث سنوات” إن المشير هو المتسبب الرئيسي في هذه الهزيمة المروعة. فشخصية عبد الحكيم وخبرته وخلفيته وشلته التي أحاط نفسها بها

— كل هذه العوامل جعلته غير مناسب لقيادة جيش، ما بالنا بجيش مقبل على معركة مصيرية وحاسمة. ويركز فوزي تحديدا على وقع خبر ضربة الطيران يوم ٥ يونيو على عامر، ويؤكد على أن عامر فقد توازنه يومها وأصيب بانهيار، وأن قرار الانسحاب الذي اتخذه كان من نتاج هذا الانهيار

ومما لا شك فيه أن المشير عامر لم يكن يصلح بالمرة لقيادة سيارة رمسيس ما بالنا بجيش جرار.

ولكن السؤال يبقى:

  • وهل الجيش يختزل في شخص المشير؟ أليس الجيش مؤسسة؟

  • ألا يوجد قادة، وضباط أركان حرب، ورئاسة أركان، وهيئة عمليات؟

  • وقبل كل ذلك، ألا يوجد قائد أعلى ؟

لن أطرح سؤال الرقابة الشعبية على الجيش، فلهذا السؤال مقال آخر، ولكن ..

ألم توجد أية آلية للتقليل من مخاطر قيادة عامر الكارثية؟

أم أن المشكلة كانت أعمق وأعوص، إذ أنها كانت تتعلق بعلاقة القائد الأعلى بنائبه، وأن القصة وما فيها لا تعدو كونها تطبيق عملي، وإن كان مأساويا، للمثل الذي يقول “المركب ال بريّسين غرقت؟”

وهناك أيضا التفسير الاستخباراتي، والذى ذكره في يوليو ١٩٦٧ زكريا محيي الدين لشرح الهزيمة وعمقها. ففي حديث له نقلته السي أي إيه قال”في الوقت الذي كان الإسرائيليون يعرفون فيه اسم كل موظف مصري، واسم زوجته أيضا، لم نكن نعلم حتى أين يقطن موشى ديان.”

(LBJ National security file, memo to the president, box 20: CIA intelligence Cable: Egypt, July 31, 1967)

والغريب أن قائل هذه الكلمات هو الرجل الذي أوكل له عبد الناصر من بداية الخمسينات بناء منظومة المخابرات المصرية بأجهزتها المختلفة بكل تعقيداتها.

أين ذهبت إذن ملايين الجنيهات التي أنفقت لبناء المخابرات الحربية تحديدا، اللهم إذا كان الغرض من هذا الجهاز “تأمين الجيش” والتجسس على ضباطه وليس على العدو، وهو ما سنتناوله في مقال لاحق؟


لا، لن تفيد هذه التفسيرات والتبريرات. فكما سبق القول، لم تكن هزيمة ٦٧ هزيمة عادية يمكن تفسيرها بالإشارة لشخصيات وظروف وملابسات. هذه هزيمة جوهرية تحتاج منا تفسيرا هيكليا يتناول بنية الجيش ومن ورائه النظام السياسي برمته.

مقالات ذات صلة