قضايا وأراءكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

ياسر وبطاطا وأشياء أخرى !! || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

كانت الحالة محيرة.. فتاة تعاني تجمعًا صديديًا في الحوض استغلقت معرفة سببه على الجراحين، وقد خطر لنا ونحن نقف هنالك في العنبر أن السبب قد يكون متعلقًا بالتهاب المبيضين أو داء ما من أدواء النساء العديدة التي نجهلها نحن الأطباء الباطنيين، هنا قال ثلاثة منا في ذكاء وبصوت واحد: “نسأل ياسر الجندي !”ـ

ثم تذكرنا ونظرنا للأرض، وغلبتنا ابتسامة تجمع بين الخجل والحرج والمرارة ولوعة الفراق، فقد نسينا جميعًا أن د. ياسر الجندي مدرس أمراض النساء قد توفي منذ ستة أشهر. لكن الموقف كان معدًا بعناية ليكون هو بيننا وكي يتهمنا بالإهمال والحمق، وكي يداعب المريضة، ويأتينا بالخبر اليقين

عندما أتذكر ياسر الجندي فإنني أتذكر ذلك الوجه الشاحب المرهق، ولفافات التبغ التي لا تنتهي، والسهر في عنبر النساء البارد، وأكواب القهوة والحلبة الحصى، والممرضات الساهرات بالقوة يلعبن (الآل) بزجاجات الدواء الفارغة بانتظار الولادة التالية .. أتذكر القفازات الملوثة بالدم والقساطر، وياسر الذي يركض في طرقات المستشفى في الظلام بحثًا عن فصيلة (أو سالب) من أجل عطيات أو إنصاف التي تنزف في عنبر الولادة بينما اختفى أهلها وهجرها زوجها. لو قابلته وقتها وكنت من ذات الفصيلة فلن ينقذك من براثنه شيء.. مهما قلت أو فعلت..

ياسر الجندي .. ما زلت أتذكره كلما تحدث أحدهم عن إهمال الأطباء وجهلهم. الأطباء الذين هم دائمًا غير موجودين في المستشفيات، فإذا تواجدوا كانت هذه نهايتك لأنهم يرتكبون الأغلاط القاتلة بالجملة. المشكلة أن الأمثلة الإيجابية كثيرة جدًا لكنها غير مسلية ولا تروق للصحافة ولا المرضى. لا أحد يكتب مقالاً عن طبيب تبرع بدمه من أجل مريضة، لكن الجميع يكتب للصحف عن طبيب سرق كلية .. هذه هي طبائع الأشياء

أتذكر فاطمة … الأم شبه الطفلة التي انحشرت رأس الجنين في مهبلها أثناء الولادة، مما أدى إلى تكوين ناصور بين المثانة والمهبل. النتيجة هي إنها كانت تبول بلا أي تحكم إرادي، وبالطبع طلقها زوجها على سبيل الامتنان والمودة، ثم اكتشف أطباء قسم النساء أنها مصابة بالاستسقاء وأنه من المستحيل إصلاح هذا الناصور الآن. دخلت فاطمة قسم أمراض الكبد لعلاج هذه الاستسقاء وسط عاصفة من ولولة أمها العجوز ولطمها. أسأل فاطمة عن لون بولها فتنفجر في البكاء وتقول: “وأنا حشوفه إزاي ؟.. هو أنا بأعمل زي باقي البنات؟”ـ

رائج :   أذواق || د : أحمد خالد توفيق

اعتاد ياسر الجندي أن يزورها في العنبر عندي يوميًا، وأتذكر السيرك الذي أقامه ليسليها ويضحكها. كيف كان يتكلم بطريقته (الريفية الأنثوية) التي كان يحسن اصطناعها كأنه امرأة ريفية عجوز، والتي اكتسبها من تعامله مع المريضات، وكانت تضحكهن دائمًا: “يا بت يا بطاطة يخرب مطنك .. ينيلك .. دانتي دراعك راح قد صباعي.. ” . ثم يداعب أنفها بسلسلة المفاتيح: “حاتخفي يا بطاطة وتيجي القسم عندنا، ونعمل لك العملية .. لكن أمك .. أمك !!” .. ويتقلص وجهه في توحش يجعل فاطمة تنفجر ضاحكة دامعة العينين كالأطفال: “أمك الولية الحيزبونة .. الولية القرشانة دي لو عتبت القسم عندي قسمًا عظمًا لأخلي العمال يرموها في الترعة”ـ

كنت أعرف جيدًا أن الاستسقاء لن يزول وأن الجراحة مستحيلة، لكني أخفيت الحقيقة عن بطاطة وعن ياسر الجندي معًا. بالذات أخفيتها عنه

كنا نتهمه بالمبالغة كثيرًا، وبأنه يعاني خليطًا من لذة الاستشهاد والوسواس القهري. بعد انتهاء أعوام الطبيب المقيم صار من حقه أن يستريح وأن تكون نوبتجياته أقل، لكنه ظل يعيش بذات التوتر وذات الإرهاق كما كان وهو طبيب مقيم. نوبتجية قد تمتد لثلاثة أيام لكنه لا يغمض عينه فيها لحظة. من الطبيعي جدًا أن يضع بيده الشبشب في قدمي مريضة، أو تراه هو والعامل يحملان اسطوانة أكسجين لأنه لا وقت لترف انتظار العامل الآخر

التبرع بالدم كان هوايته لدرجة أنه تبرع بدمه خمس عشرة مرة في عام واحد وهذا رقم قاتل، لكنه كان يعرف أن تخصصه هو تخصص النزف حيث ثمن الدم أغلى من الذهب، حتى صار ضيفًا غير مرغوب فيه في بنك الدم، وحتى تلقى الفنيون هناك أمرًا غير مكتوب من المدير يقضي بمنع د. ياسر الجندي من التبرع بأي شكل. بالطبع سرق هو بعض أكياس التبرع الفارغة لتكون متاحة تحت يده في الظروف القصوى

رائج :   عن أدب الرعب في بلد مرعوب .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

يعبر الطريق أمام المستشفى فتسقط منه آشعات مريضة كان يحملها.. ينسى واجب الحذر ويعود ليلتقط الآشعات قبل أن تدهمها السيارات، فيضربه ميكروباص مجنون . غارقًا في الدم يحملونه إلى قسم العظام بينما مشكلته الوحيدة هي تبرئة سائق الميكروباص الذي لا ذنب له، ثم البكاء لأن غيابه عن القسم يعني توقف عشرات الأمور التي لن يقوم بها واحد آخر. إنه بحاجة إلى مائة ياسر جندي آخر ليفعلوا بالضبط ما يريده كما يريده

هل يبدو كلامي مبالغة كأنني أتحدث عن كرامات واحد من الأولياء ؟ .. يمكنك أن تسأل أي شخص من مستشفى طنطا الجامعي عن د.ياسر الجندي ليخبرك بأن ما أقوله يبخس الرجل حقه

لم يكن يؤمن بأي شكل أنه يستحق راتبه، وهكذا أنفقه كله على المريضات وجعل عنبره المجاني في قسم أمراض النساء أقرب إلى فنادق الخمسة النجوم: ستائر .. ثلاجة .. أزهار .. بالطبع لم يتزوج وقد ساعده هذا على أن يحتفظ بتعاليه على المال وهذه الرهبنة التي اختارها

ظل يرفض أن يدخل امتحان الدكتوراة – برغم أنه تلقى وعدًا بالنجاح – لأنه يؤمن بأنه لم يحقق المستوى العلمي الذي يريده بعد، وقام بتسجيل كل ما يقابله في علم أمراض النساء على شرائط كاسيت يسمعها في الظلام في أي مكان يكون فيه وحده.. كان يريد أن يتحول العلم إلى طبيعة ثانية له. وفي النهاية دخل الامتحان ونجح لكنه لم يفتتح عيادة قط

جاءت النهاية سريعًا في نهار رمضان منذ أعوام عندما تأخر في الاستيقاظ من النوم ، وقد اعتبر ذووه هذا تصرفًا معتادًا في شهر الصيام.. فتحوا غرفته أخيرًا ليجدوه ساقطًا على الأرض وفي غيبوبة عميقة. لقد قتله الإنهاك والجهد والسهر وارتفاع ضغط دم لم يعالجه قط، فأصيب بنزف مخي . أسبوع كامل مر والجميع يصلي من أجله لكن الموت ذواقة يجيد الانتقاء كما تعرفون.. عروس فاتنة لا تختار سوى الفرسان. وبعد وفاته جمعت مريضاته الريفيات الفقيرات المال من بعضهن وصنعن له صورة عملاقة علقنها في عنبره

رائج :   كمامة قطونيل .. القطن مبيتكلمش مصري !

أين ذهبت بطاطة وماذا كان مصيرها وسط هذا كله ؟.. لا أعرف طبعًا

ياسر الجندي كان بيننا .. أوافق تمامًا على أنه مثال نادر لا يُقاس عليه، لكني أدعوك إلى أن تتذكره وأنت تزور عيادة هذا الطبيب أو ذاك من أباطرة الطب الذين لا تختفي صورهم من الفضائيات وبرامج التلفزيون والصحف والمجلات.. تذكره وأنت تكتشف أن موعد الكشف في الثالثة صباحًا وقيمته مائتا جنيه .. وعندما يطالبك الطبيب العظيم بأن تعيد الأبحاث كلها في مختبر (المدام)، وعندما يكتب لك في النهاية علاجًا لا جدوى منه جربته ألف مرة من قبل، وعندما تكتشف أن التحليل باهظ الثمن الذي طلبه منك لا قيمة له إلا استكمال ورقة علمية يريد أن يقدمها (على حسابك) في مؤتمر كوبنهاجن القادم

عندما تتعامل مع هذا الطبيب أو ذاك من آلهة الأوليمب تذكر أن هناك من يدعى ياسر الجندي ومثله مئات من الأطباء الذين يختلفون بالتأكيد عن تلك الصورة التي تهوى وسائل الإعلام رسمها. من الحرام أن تخلط بين هذا وذاك، ومن القسوة أن تعامل هذا بميزان ذاك .. تذكره عندما ترى شرطي المرور الفقير الذي يساعد الأطفال على عبور الطريق، ومدرس الابتدائي الذي ما زال يصر على أن يبح صوته في الشرح مقابل ملاليم، و موظف السجل المدني الذي يرفض الرشوة وهو أحوج ما يكون لها.. تذكر مصر الطيبة السمراء التي لم تمت وتصر على الحياة بإصرار غريب برغم كل ما يحدث لها..

Related Articles