من هنا وهناك

ما معنى “تخصيب اليورانيوم”؟

طبعًا الجميع يعرف تركيبة الذرة، بروتونات ونيوترونات تشكل نواة الذرة، تدور حولها إلكترونات، شخصية وكينونة الذرة نفسها يحددها ما يسمى العدد الذري (عدد البروتونات بداخل نواتها)

يعني إن كانت نواتها تحتوي على بروتون واحد تكون هيدروجين وإن كانوا بروتونين تكون هيليوم وإن كانوا ثلاثة ليثيوم وهكذا، ولكن عدد النيوترونات بداخل النواة يحدد شيء آخر أسمه “النظائر،” Isotopes

النظير ممكن اعتباره Alter Ego أو هوية بديلة لنفس الشخص (يعني الشخص نفسه لم يتغير وإنما مظهره وبعض خصائصه، مثل الفرق بين Batman وBruce Wayne، أو Superman و Clark Kent) أو في حالتنا هنا العنصر، يعني طالما عدد البروتونات ثابت، فكيان العنصر ثابت، ولكن تغير عدد النيوترونات بداخله يغير من خصائصه (في أحيان كثيرة تغيرات شاسعة وجذرية وحاسمة كما في حالتنا هنا.)

على سبيل المثال، اليورانيوم له أكثر من نسخة، أثنين منهم أسمهم U-235 والأخرى U-238، الرقم جنب الـU اسمه العدد الكتلي (عدد البروتونات + عدد النيوترونات) يعني عدد البروتونات + عدد النيوترونات في نواة اليورانيوم U-235 هو 235، بينما في الU-238 هو 238، ولكن الفرق هنا ناجم عن زيادة في عدد النيوترونات وليس البروتونات، البروتونات عددها ثابت (ولذلك العنصر مازال يورانيوم)

بينما النيوترونات زادت 3 ولذلك كل واحد منهم أسمه نظير مختلف لنفس العنصر، الفرق بين النظيرين فرق صغير ولكن تداعياته أو تبعاته عملاقة وحاسمة، والفرق بينهم (لأسباب معقدة جدًا لا يمكن الخوض فيها هنا) أن الـU-235 أسمه نظير Fissile يعني “قابل للانشطار أو الإنقسام” إذا تم قصفه بتيار نيوترونات خارجية

بينما الU-238 غير قابل للانشطار (أو على وجه الدقة، عملية إنشطاره صعبة جدًا جدًا وتحتاج لعمليات معقدة جدًا وتنشيط النيوترونات القاصفة لسرعات ومستويات طاقة عالية جدًا جدًا) وأيضـًا غير قادر على الحفاظ على تفاعل مستمر Chain Reaction، بينما الـU-235 قادر وبنيوترونات بطيئة السرعة وسهلة الإنتاج. 

رائج :   تعرف على قصة “الكاهن والشيطان” لفيودور دوستويفسكي

بعد دخول النيوترونات الخارجية لنواة الـU-235 تجعلها غير مستقرة وسرعات ما تتفكك عن بعضها (أو تنفجر) وتتحول لعنصرين (في أغلب الأحيان عنصري الكريبتون والباريوم) وهم مجموع كتلتهم أخف من كتلة اليورانيوم الأصلية،

فارق الكتلة بين اليورانيوم وبين هؤلاء العنصرين يتحول لطاقة، وطبعًا الكتلة (مهما كانت ضئيلة) إذا تحولت لطاقة تتحول لمقدار مهول من الطاقة طبقــًا لأشهر معادلة في العلم E = mc² (يعني الطاقة = الكتلة في مربع سرعة الضوء – ثابت كوني أو رقم معروف وضخم جدًا جدًا جدًا جدًا) مقدار مهول يعني إذا حول 0.7 جرام من الكتلة لطاقة تستطيع تدمير مدينة بحجم القاهرة مرتين (هيروشيما)

وأيضـًا الشيء الحاسم والهام جدًا هو أن عملية انشطار نواة الـU-235 ينتج عنها نيوترونات من داخل النواة وهذه النيوترونات تدخل للأنوية المجاورة وتقسمها وهكذا وبالتالي التفاعل يصبح متسلسل ومحافظ على نفسه.

اليورانيوم الموجود في الطبيعة غالبيته الساحقة U-238، يعني في اليورانيوم الخام المستخرج من الأرض، سيكون بنسبة %99.3 من الـU-238 ونسبة من الباقي U-235) تخصيب اليورانيوم معناه زيادة نسبة الـU-235 في عينة اليورانيوم المستخدمة (سواء في مفاعل نووي أو قنبلة نووية)

لو أردت أن تستخدم اليورانيوم كوقود لمفاعل نووي، لابد من زيادة نسبة الU-235 ل%5، بينما إذا أردت إستخدامها في قنبلة، لابد من رفعها إلى نسبة تتراوح ما بين 20 – 98% (على حسب التصميم) وهذه العملية تتم عن طريق ماكينات تسمى Centrifuges (سنتريفيودچ) أو طاردات، ماكينات تشبه الرحى أو المراوح تفصل نظائر اليورانيوم عن بعضها على مستوى ذري وتزيد نسبة الU-235 للكمية المرغوبة.

رائج :   الحلقة الأخيرة من مسلسل ” أبنائى الأعزاء…. شكراً” ودروس تربوية روعة

عملية تخصيب اليورانيوم بالمناسبة هي أصعب خطوة في عملية صناعة القنبلة النووية كلها بسبب عقبة وصفها بسيط جدًا ولكن حلها في غاية الصعوبة والتعقيد (تحديدًا بسبب بساطتها) وهي أن الـU-235 و الـU-238 متطابقين تمامًا في الخصائص الكيميائية والمغناطيسية،

بمعنى أن المغناطيس لن يستطيع تفرقتهم ولا أي محلول كيميائي ولا مثلًا أحدهم سيتبخر قبل الآخر ولا أي شيء، والطريقة الوحيدة لتفرقتهم عن بعضهم هي إستغلال الفرق البسيط الوحيد بينهم وهو الفرق في الوزن، فرق ضئيل جدًا ولكن يجعل الفصل بينهم ممكن (ولكن أبعد ما يكون عن السهولة.)

الطريقة القديمة لتخصيب اليورانيوم (المستخدمة في أول مشروع قنبلة نووية) تسمى “الفصل بالغاز” (أو الإنتشار الغازي) Gaseous Diffusion (جاشـَـس ديفيوچن) وهي عبارة عن وضع اليورانيوم في غاز يمر من خلال انبوبة عملاقة وهذه الانبوبة نفسها محاطة بوعاء أو غرفة أكبر منها،

فرق الضغط ما بين الانبوب المار فيها الغاز وما بين الوعاء المحيط بها يُدخل نظائر اليورانيوم في حالة من السباق، ويكسب هذا السباق اليورانيوم الأخف (U-235) بينما (بفضل بعض الحيل البارعة في التصميم) يتم “شفط” الـU-238 البطيء من خلال ثقوب صغيرة في الإنبوبة ولذلك يخرج الغاز من الناحية الأخرى محتويًا على نسبة أعلى من الـU-235، للوصول لنسبة %90، تحتاج أكثر من 4,000 مرحلة مشابهة من التخصيب (يعني يخرج من انبوبة طويلة جدًا وعملاقة جدًا ويدخل في التالية وهكذا، 4,000 مرة!) ولذلك لا عجب أن منشأة تخصيب اليورانيوم في مشروع مانهاتن (الذي نتجت عنه أول قنابل نووية) كانت مساحتها أكثر من 40 فدان (وتسمى K-25 Plant،

رائج :   كارثة مفاعل تشيرنوبل … ما حدث وما كان ليحدث

بداخلها مئات الكيلومترات من الأنابيب طبعًا يمكنك أن تتخيل كميات الطاقة المستخدمة بالداخل من الCompressors لتوليد الضغط، ولتوليد الطاقة المطلوبة لتسخين الغاز، كمية طاقة تكفي مدن كاملة بلا أدنى مبالغة ولذلك لا عجب أن مشروع مانهاتن كانت تكلفته أكثر من 55 مليار دولار بأموال اليوم.

الطريقة الثانية والأحدث لفصل النظيرين هي طريقة الـCentrifuges، الـCentrifuge هي عبارة عن غلاف اسطواني يحوي بداخله اسطوانة معدينة أصغر منه في القُطر أسمها “الدوار” Rotor والدوار بدوره يحتوي على اسطوانة (أو انبوبة) ثالثة أصغر منه يتدفق فيها الغاز الذي يحمل النظيرين معًا،

ومع دوارن الدوار بسرعة عالية جدًا يتم “طرد” الـU-238 للخارج (يعني بالقرب من البطانة الداخلية للدوار) بينما الU-235 يظل بالقرب من مركز الإنبوبة وبعدها يتم سحبه للخارج بعملية سهلة نسبيًا، طبعًا اليورانيوم الخارج من Centrifuge واحدة يتم تخصيبه بنسبة ضئيلة جدًا، ولذلك يحتاج أن يخرج من مرحلة إلى مرحلة (أو من الإسطوانة للإسطوانة التي بعدها،)

وللوصول لنسبة %30 تخصيب، تحتاج لـ60,000 مرحلة بـ60,000 طادرة أو Centrifuge ! (الصورة المرفقة بالموضوع هي منشأة Centrifuges في أمريكا.) طريقة الطاردات تستهلك %4 فقط من طاقة الإنتشار الغازي،

ولكن الصعوبة البالغة والدقة الهندسية العالية جدًا جدًا جدًا المطلوبة في صناعتها تجعلها مثلًا في قائم أصعب 3 أو 4 اشياء ممكن هندستها أو صناعتها على الإطلاق! أقل خطأ أو عيب صناعية (بمعنى كلمة أقل خطأ) سيؤدي لتفكك الـCentrifuge أو إنفجار ها!

ولكن هذه الصعوبة من حسن حظنا، لأن عملية صناعتها لو كانت سهلة لأصبحت القنبلة النووية أسهل بآلاف المرات في الصنع وبالتالي أصبحت موجودة عند كل من هب ودب واستطاعت الأنظمة الانتحارية الإرهابية الوصول لها بسهولة!

Related Articles