جافريلو برينسب .. شاب فى الـ 19 من عمره جعلته الصدفة سبباً مباشراً فى قيام واحدة من أفظع الحروب فى القرن العشرين .. جافريلو المنتمى إلى النظام الأناركى الفوضوى الذى يهدف إلى زعزعة الأنظمة الحاكمة عن طريق الإرهاب كان محط سخرية زملاؤه بسبب ضعفه الواضح فى التصويب بالسلاح ما كان يجعله دائماً تحت ضغط محاولاً إثبات براعته لهم بأى طريقة دون جدوى ..
عاش جافريلو بوسنى الأصل فى كنف واحدة من أكبر إمبراطوريات العالم وقتها الإمبراطورية النمساوية المجرية و كون فكرته عنها أنها إمبراطورية ظالمة تعيش على أنقاض الدول الصغيرة مع منع أبنائها من تقلد المناصب الرفيعة و إعطائها لأبناء النمسا و المجر بشكل أساسى و هذا ربى داخله كراهية شديدة لهذا الكيان و مع سخرية زملاؤه و الإنتقاص منه دائماً فذلك جعل داخله رغبة بالقيام بعمل بطولى يخلد به إسمه و يرد به على سخرية زملاؤه و لم يكن ليجد أفضل من كيان تلك الإمبراطورية ليثبت عن طريقه قدراته لأقرانه ..
قبل أكثر من 100 عام كانت منطقة البلقان التى تضم دولاً مثل صربيا و البوسنة تحت سيطرة الإمبراطورية النمساوية المجرية و لكنها كانت إحدى أكثر مناطق أوروبا إضطراباً و هذا بحكم وقوعها ضمن نطاق الصراع بين ثلاث من أكبر إمبراطوريات العالم الإمبراطورية الروسية و الإمبراطورية العثمانية و بالطبع الإمبراطورية النمساوية المجرية ..
كسائر الإمبراطوريات الكبيرة فالإمبراطورية النمساوية المجرية كانت تحتوى على عرقيات كثيرة فهناك النمساويين و المجريين و الألمان و الإيطاليين و السلافيين و اليهود و غيرهم و مع هذا التنوع يأتى التوتر و الصراع العرقى و القومى ..
فى 1905 إندلعت مظاهرات فى فيينا ثم فى 1912 تمرد فى بودابست ثم فى عام 1914 الإضطرابات العرقية شملت الإمبراطورية كلها تقريباً و هو ما أعطى الفرصة لواحدة من أشد الدول كرهاً للإمبراطورية لزيادة حجم التوتر الموجود .. صربيا ..
النزعة القومية كانت بدأت بالإزدياد و دعاوى الإنفصال عن الإمبراطوريات المختلفة كان صداها بدأ يعلو تدريجياً و أبرز دعاة القومية وقتها كان دراجوتين ديمتريفيتش فبالإضافة لأنه رئيس جهاز مخابرات الجيش الصربى كان رئيس منظمة اليد السوداء تلك المنظمة السرية التى كانت تعنى بالأساس بالقيام بأعمال الفوضى و الإرهاب داخل الإمبراطورية لزعزعة إستقرار نظام الحكم فيها و التمهيد لإنفصال صربيا عنها و ليس صربيا فقط بل كل الشعوب السلافية التى تقبع تحت حكمها و تأسيس وطن جديد لهم .. يوجوسلافيا ..
جافريلو برينسب وصل صربيا عام 1914 مدفوعاً بثوريته الشديدة و بدأ فى الحديث مع أصدقائه عن وجوب قيامهم بعمل كبير يهز أركان الإمبراطورية و يقرب بشكل أو بأخر حلم الإنفصال و تأسيس الدولة المستقلة و بالصدفة البحتة كانت هناك زيارة مرتقبة لولى عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية الأرشيدوق فرانز فيرديناند إلى سراييفو ..
بكل تأكيد و فى ظل نظام مخابراتى بإمتياز كصربيا وصل الحديث لمسامع المقدم فوجا تانكوسى العضو فى منظمة اليد السوداء و الذى بدوره قام بتوصيل الحديث إلى ديمتريفيتش الذى راقت له الفكرة و بدأ فى التخطيط الجدى لها ..
الخطة نصت على إمداد جافريلو بـ 4 مسدسات و 6 قنابل يدوية و أقراص إنتحار فى حالة القبض عليه يتسلل بهم من صربيا إلى سراييفو و بمساعدة بعض عناصر الجيش الصربى سيقوم بملاقاة 6 من زملاؤه قد سبقوه إلى هناك و الإنغماس داخل المجاميع و قتل ولى العهد حينما تسمح الفرصة بذلك و بالفعل تسلل جافريلو من صربيا و تخطى الحدود عبر نهر درينا حتى وصل إلى شواطىء سراييفو و تقابل مع زملاؤه الستة و تم توزيع الأدوار ..
فرانز فيرديناند وصل لسراييفو فى 25 يونيو 1914 و كانت الخطة تنص على الهجوم عليه بعد ثلاثة أيام و هو فى طريقة لمبنى البلدية لحضور إحتفال على شرفه طبقاً لجدول الزيارة ..
فى صباح يوم 28 يونيو 1914 وصل ولى العهد و زوجته إلى سراييفو بالقطار و لم يكن التأمين بالشكل الكافى على الرغم من أهمية الزيارة و هو ما ساعد جافريلو و أعوانه للوصول إلى أماكن خط سيره بشيء من السهولة و مع مرور سيارته على أول نقطة بها أحد أفراد المجموعة ألقى عليه قنبلة يدوية أخطأت مسارها و إنفجرت بعد السيارة و هو ما دفع السائق للانطلاق بسرعة و بالتالى فقد باقى الزملاء فرصة الهجوم عليه ..
حتى الآن الخطة فشلت تماماً فى تحقيق أهدافها فولى العهد وصل إلى مبنى البلدية بسلام و زميلهم بالمجموعة قبض عليه وأصبح كشف أمرهم وارد فى أى لحظة و أيضاً رفعت الشرطة درجة التأهب لأقصى درجة فكان الإجراء الطبيعى هو إنسحابهم و محاولة الرجوع إلى صربيا فى أسرع وقت ..
أنهى ولى العهد اجتماعه بسرعة بسبب ما حدث و غادر المبنى و أمر سائقه بسرعة التحرك .. فى تلك الأثناء كان جافريلو يتحرك مغادراً المكان و هو يتحسر على ضياع فرصته فى النيل من هدفه ..
لسوء حظ ولى العهد و لحسن حظ جافريلو و بسبب التوتر السائد بعد محاولة الإغتيال أخطأ السائق فى خط السير المتفق عليه و دخل فى نفس الشارع المتواجد فيه جافريلو و معها وجد نفسه أمام هدفه مباشرة و على مسافة قريبة منه أيضاً حينها نال فرصته للرد على من إنتقدوه و نعتوه بالفاشل سابقاً
فأشهر سلاحه و أطلق رصاصتين واحدة إستقرت فى صدر فرانز فرديناند و واحدة فى صدر زوجته و خلال لحظات كان قد تم القبض على جافريلو برينسب و الذى حكم عليه بعدها بالسجن 20 عاماً و لكنه مات فى 1918 قبل إستكمال مدته و بالطبع كان هناك محاولة لإنقاذ ولى العهد و زوجته و لكن الوقت كان قد فات و توفيا خلال دقائق معدودة ..
بلا أدنى شك و بدون الدخول فى متاهات الإستجوابات و التحريات توجهت أصابع الإتهام إلى صربيا و على الفور بدأ الإنتقام و إن كان بشكل غير رسمى فتم تخريب ممتلكات الصرب من مدارس و متاجر و كنائس .. طال الإنتقام الشعبى كل ما هو صربى سواء أفراد أو ممتلكات ..
أعتقل أكثر من 200 صربى فى سراييفو وحدها و تم إعدام بعضهم فى سجن المدينة .. حدثت مذابح فى حق الصرب فى كل أرجاء البوسنة .. و رغم كل هذا فلم يحن وقت الرد الرسمى من الإمبراطورية النمساوية على ما فعلته صربيا ..
بإيعاز من قائد أركان الجيش كونراد فون هتزندورف و تحت تأثير الصدمة وافق الإمبراطور فرانز جوزيف على القيام بضربة عسكرية ضد صربيا و لكنه كان حصيفاً كفاية ليعرف مدى قوة إمبراطوريته فصربيا لها حلفاء و على رأسهم الإمبراطورية الروسية فقام بمخاطبة القيصر الألمانى فيلهلم الثانى لينال دعمه فى حالة القيام بحرب ضد صربيا و حينها تتساوى الكفتين و تقبل روسيا النأى بنفسها بعيداً عن الحرب ..
بالفعل وافق القيصر و لم يحسب هو و لا حتى إمبراطور النمسا إحتمالية أن تتوسع الحرب لأكثر من هذا .. مجرد مقاطعة مارقة سنعاقبها بشدة و نعيدها إلى حظيرتنا و إنتهى الأمر ..
إلا أن صربيا دولة رئيسية من دول البلقان و تمثل طموحاً مشروعاً للإمبراطورية الروسية للقضاء على الإمبراطورية النمساوية أو على الأقل تحجيم نفوذها و روسيا لها حلفاء و على رأسهم فرنسا و بالتالى ترى موقفها أقوى و لم تكن لتضيع فرصة مثل تلك قد لا تأتى لها مجدداً ..
بعد إعطاء ألمانيا الضوء الأخضر للنمسا ببدأ الحرب قامت الإمبراطورية النمساوية المجرية بإرسال إنذار لصربيا مع رسالة مليئة بشروط تعجيزية غير ممكن قبولها ما حول تلك الوثيقة إلى إعلاناً للحرب و على الفور أرسل الوصى على عرش صربيا الأمير ريجنت ألكسندر رسالة إلى الحكومة الروسية طالباً منها العون .. تحركت الرسائل بسرعة صاروخية وقتها فأرسلت روسيا رسالة لبريطانيا العظمى مفادها :
( أن النمسا لم تكن لتتصرف بتلك الجرأة إلا و قد حصلت على موافقة ألمانيا و أننا ندعو المملكة المتحدة لدعم حلفائها الإمبراطورية الروسية و فرنسا دون تأخير )
فى تلك الليلة أعلنت ( النمسا – المجر ) الحرب على صربيا و استمر الوضع فى تلك الحدود لفترة قصيرة و رغم المحاولات الحثيثة لتهدئة الأوضاع عن طريق المراسلات بين الملوك و الأباطرة إلا أنه حدث ما كان بعيداً عن مخيلة الألمان و النمساويين و هو تحريك روسيا لجيشها تجاه صربيا و مشاركتها فى الحرب فعلياً ..
فى الأول من أغسطس 1914 أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا و بعدها بيومين أعلنت الحرب على فرنسا .. خطوة مثل تلك جعلت بريطانيا تفكر فى تجارتها و مستعمراتها المنتشرة فى كل مكان و ما إذا كانت ستلزم الحياد و لكنها بالمقابل لن تستطيع حماية إمبراطوريتها من غدر النمسا و المجر أو ألمانيا أو حتى حلفائها مثل روسيا و فرنسا فكان واجب عليها تحديد إتجاهها و إلى أى جانب ستنتمى و عليه فى يوم 4 أغسطس 1914 أعلنت بريطانيا إنضمامها للحرب سعياً وراء الحفاظ على كيانها كقوة عظمى و للحفاظ على علاقتها بروسيا و فرنسا و هو ما أعطى الحرب صفة الحرب العالمية لأول مرة لأن أكثر من 10 ملايين مقاتل تم تجهيزهم للمشاركة فى الحرب من كافة الدول المشاركة ..
فى الصورة :
يميناً : ولى عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية فرانز فيرديناند ..
يساراً : جافريلو برينسب قاتل ولى العهد بعد القبض عليه ..
المصادر فى الجزء الأخير