تاريخفكر و ثقافةوعي

نيلسون مانديلا .. أيقونة كفاح || الجزء الثاني

إنضم مانديلا لحزب المؤتمر الوطنى الأفريقى و بدأت مع إنضمامه صفحة جديدة فى حياته .. الصفحة الأهم إن شئنا الدقة .. تلك المرحلة هى التي ستشكل ثوريته المفرطة فى شبابه .. قضيته الأولى كما تعلمون كانت العنصرية .. لذا ألقى بنفسه فى أكثر حزب اهتم بقضايا السود و وسع علاقاته بقادة حزبه .. نيلسون كان شاباً يرى الدنيا بعيون شابة مثله .. كان غير مدرك أن فى الوقت الذى كان يسعى فيه لتعديل أوضاع السود في بلدهم الأصلية كانت الأقلية البيضاء تجهز أوراقها لتفعيل نظام الأبارتايد رسمياً .. أياماً صعبة تنتظر نيلسون و عرقه الإفريقى ..

بدء دراسة القانون بشكل أوسع فى جامعة ويتواترسراند وكان الإفريقي الوحيد في الكلية .. و بطبيعة الحال عانى من عنصرية بشعة داخل كليته .. صادق الليبراليين والشيوعيين على الرغم من تضادهم الفكرى إلا أنهم بالتأكيد كانوا أقرب إليه من المتعصبين البيض .. كان يرحب بصداقتهم كأفراد دون الإنضمام لأحزابهم أو حتى التكلم بلسانهم ..

كان يرى بحكم أنه من أصول إفريقية أن مرض بلاده لن يشفى إلا بشفائه من العنصرية ثم يأتى بعدها أى قضايا أخرى مثل قضايا الطبقية التى يهتم بها الشيوعيون أو قضايا الحرية التى يهتم بها الليبراليون .. كان متأثراً بآراء أنتون لمبيدى القومى الإفريقى المتطرف .. كان مانديلا محقاً بذلك الشأن فالعنصرية مرضاً عانى من أعراضه كل المختلفين مع النظام الحاكم سواء ليبراليون أو يساريون أو حتى أصحاب أى توجه أخر .. جنوب إفريقيا ستدخل نفقاً مظلماً لن تخرج منه إلا بتكلفة عالية حقاً ..

حزب المؤتمر و بسبب التضييق عليه صار بحاجة للتجديد لجذب فئة جديدة من الشباب الجنوب إفريقى لمناصرة القضية .. صارت هناك حاجة لجناح شبابى للحزب وهو ما أفضى إلى تأسيس رابطة شباب المؤتمر الوطنى .. كان مانديلا عضواً فى لجنتها التنفيذية ..

فى حزب المؤتمر تعرف بطلنا على إيفلين ماس تلك الناشطة فى الحزب .. على الرغم من ظروفه المادية الصعبة مثله مثل أغلبية الأفارقة السود إلا أن عمره كان قد وصل إلى 27 عاماً .. ذلك سن مناسب و تلك كانت الفتاة المناسبة من وجهة نظره .. أتموا إجراءات الزواج فى 1944 .. يبدوا أن حزب المؤتمر الإفريقى صار هو المشكل الرئيسى لحياة مانديلا .. قريباً جداً سيعنى كل شيىء بالنسبة له ..

نحن الآن فى عام 1947 .. مانديلا صار له 3 سنوات فى مكتب لازار سيديلسكى للمحاماة .. صار زوجاً و أباً .. و الأهم صار عضو المكتب التنفيذى للحزب .. مانديلا فى تلك الفترة كان فكره متطرفاً بشدة .. كان لا يزال مؤمناً بأفكار أنتون لمبيدى .. كان يرى أن الحزب لابد و أن يقتصر على السود فقط دون حتى الأقليات الأخرى كالهنود و أصحاب التوجهات الليبرالية و الشيوعية .. كان شاباً متحمساً تفكيره ثورى و متطرف لأقصى حد .. هو لم يكن يكرههم و كان يعلم أن أراءهم جيدة و لكنها مطروحة فى غير وقتها .. العنصرية والعنصرية فقط هى الداء و لا بد من علاجها قبل أى شىء ..

رائج :   “نصائح لنفسي لو عاد بي التاريخ” 29 نصيحة للشباب من الدكتور طارق السويدان

على الرغم من صداقاته مع أصحاب الرؤى السياسية الأخرى إلا أنه سعى جاهداً على إقصائهم من الحزب .. بعد وفاة لمبيدى آلت رئاسة لجنة الشباب إلى رجل أخر هو راموهانوى ذو التوجه المعتدل و الذى قرب إليه الأقليات الأخرى .. عارضه مانديلا بشدة و ساهم فى إقصائه من منصبه .. لم يقتصر الأمر على هذا فمانديلا الشاب ذو التأثير القوى ساهم فى إقصاء رئيس الحزب نفسه ألفريد زوما من منصبه حين عارض سياسات كوادر الحزب الثورية مثل سيسولو و أوليفر تامبو و جودفرى بيتيجى .. الآن صار مانديلا أحد أكثر الشخصيات تأثيراً فى شباب حزبه و فى توجهات الحزب عامة .. صار الحزب الآن خطراً على النظام الحاكم الجديد .. النظام الذى ستدخل معه جنوب إفريقيا النفق المظلم .. 1948 كانت البداية ..

أقيمت انتخابات عام 1948 و التي يصوت فيها البيض فقط كالمعتاد و فاز بها حزب ناشيونال هيرينجدى .. بعد فترة قصيرة تحالف الحزب الفائز مع الحزب الأفريكانى ليشكلوا معاً الحزب الوطنى .. هدف الإتحاد كان هو مواجهة التعاظم الملحوظ لحزب المؤتمر الإفريقى بقياداته الشابة الجديدة و مواجهته بكل الطرق المشروعة و غير المشروعة و إزاء خوف البيض وقتها من تعاظمهم أكثر من ذلك صارت سياسة الأبارتايد هى السياسة الرسمية المعلنة صراحة فى الدولة .. صار الإقصاء و تقييد الحركة ضد السود وباقي الأقليات أكثر وضوحاً و رسوخاً مما مضى ..

لكي تدرك مدى صعوبة الوضع يجب عليك تخيل ما كان يحدث وقتها .. أصغر طفل أبيض له حقوقاً أكثر من أى رجل إفريقي أسود .. من الطبيعى جداً أن ترى إمرأة أو شيخاً ذو أصول إفريقية واقفاً لأن المكان المتاح للجلوس مخصص للبيض و ليس للسود .. كفة الوظائف والامتيازات المادية و التعليمية و الصحية كانت تميل بشده للبيض .. الإنتخاب و لا شك كان للبيض فقط و حصراً .. السود تقريباً كانوا محرومون من أبسط حقوقهم .. واقع مرير و لكن الأبارتايد جاء و حمل معه عنصرية أشد و تنكيل أكثر بكل من يعارض تلك السياسة ..

بعد عام 1948 و تحديداً فى 1950 تم إقرار قانون سمى قانون تسجيل السكان والذي تم تصنيف السكان عن طريقه إلى 4 مجموعات عرقية أعلاها العرقية البيضاء و أدناها عرقية السود و بينهم أقليات مثل الآسيوين و الخلاسيون ( هم نتاج التزاوج بين العرق الأبيض والأسود ) .. تم تعزيز تلك الفروق عن طريق عزل كل مجموعة عن الباقيين عن طريق قانون فرعي سمى قانون مناطق المجموعات ..

رائج :   سلام يا شيخ محمد .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

صارت الدولة مقسمة إلى أجزاء و تم تفريق الأقليات بين الولايات و فى أبعد و أفقر مناطق منها .. أزيلت أحياء بكاملها مثل صوفيا تاون فى جوهانسبرج و المنطقة السادسة في كيب تاون .. طُرد حوالى 3.5 مليون شخص بالقوة و تم تسليم أراضيهم ومزارعهم إلى البيض .. أًجبر كل شخص أسود على حمل تصاريح فى حالة دخوله أراضى للبيض تثبت أنه جاء ليقوم بعمل معين و فى حالة إنتهاء عمله يسحب منه الترخيص و يمنع من دخول تلك الأراضى .. وصل الأمر ذروته فى 1958 حين تم حرمانهم من الجنسية .. صاروا مواطنين .. ليس جنوب إفريقيين بالطبع لكن يتبعون مناطق البانتوستان الفقيرة وهي مناطق أُقيمت خصيصاً لهم ..

فى تلك الأثناء كان مانديلا بدأ نجمه يلمع داخل الحزب .. شاب .. قوى .. متعلم .. جيد جداً فى الخطابة ( صوته يقترب كثيراً من صوت الرئيس الأمريكى باراك أوباما خاصة مع تقدمه فى السن ) .. يحمل فكر ثورى .. يطالب دائماً بضرورة أخذ إجراءات تصعيدية ضد النظام الحاكم .. نعم كانت الإجراءات التصعيدية وقتها عبارة عن إضرابات و عصيانات مدنية و لكن مقارنة بموازين القوى وقتها كان هذا يعتبر تحدياً مبالغاً فيه للنظام العنصري .. بالتأكيد مع مزايا مثل تلك كان طبيعياً أن يأخذ مانديلا فرصته ..

صار مانديلا رئيس اللجنة التنفيذية للحزب فى مارس 1950 بالإضافة لرئاسة رابطة الشباب .. واحد من أخطر مناصب الحزب و أكثرها حساسية وضعه مباشرة تحت مجهر النظام .. من الآن فصاعداً هناك رجلاً يجب أن نضع أعيننا عليه إسمه نيلسون مانديلا .. هكذا كان لسان حال النظام ..

بعد أن أصبح فى موضع المسئولية تغير فكر مانديلا بالتدريج وأصبح أكثر هدوءاً و أكثر قابلية لقبول الأطراف الأخرى .. صار يتقبل إنضمام الليبراليين والشيوعيين للحزب .. صار أكثر إقتناعاً بضرورة التوحد ضد هذه الغطرسة التى تنال الجميع بنسب معينة و أنه إذا استمر وحده فلن يحقق المأمول لبنى عرقه .. قرأ لـ ماركس و جواهر لال نهرو و لينين و ستالين .. اقتنع أكثر بالمساواة والعدالة الاجتماعية أكثر ما كان مقتنعاً بها بالأساس ..

بدأ فى التعاون مع باقى الأقليات .. ألقى خطاباً فى ديربان فى يونيو 1952 أمام حشد من 10.000 فرد .. تأثرت به الحشود و بأسلوبه الرائع و بسببه زاد أعداد مناصري الحزب 5 أضعاف .. مانديلا يصبح خطراً بالتدريج .. تم إعتقاله هو و 21 من كوادر الحزب .. اُتهموا بالشيوعية و حُكم عليهم بالأشغال الشاقة ل 9 أشهر .. بخلاف هذا تم منع مانديلا من التحدث لأكثر من فرد واحد فى المرة الواحدة لمدة 6 أشهر .. عقوبات تعسفية و تهدف بالأساس لكسر إرادة و مقاومة شباب الحزب ..

رائج :   هل تعلم: اسرار عن العراق

بعد الخروج من السجن زادت درجة تحدى مانديلا للسلطة .. حقيقة ما فعله يعتبر أعلى درجات التحدي بمقاييس ذلك الوقت .. افتتح مكتبه الخاص للمحاماة مع صديقه أوليفر تامبو و لم يفتحه فى أى مكان .. افتتحه مباشرة أمام محكمة الصلح الجنوب إفريقية .. إحدى أكثر المحاكم عنصرية و تشدداً فى الأحكام ضد السود ..

لم يكتفى مانديلا بذلك بل أظهر كراهيته للنظام العنصري ليس على المستوى السياسي فقط و لكن حتى داخل أروقة المحاكم .. المحامين كانوا معتادين على الركوع أمام القاضى قبل بداية أى محاكمة .. مانديلا كان يدخل القاعة بكل استعلاء غير آبه لنظرات البيض الناقمة عليه أو حتى لتعنت القاضى ضده فى مرافاعته .. تم منعه من الاستمرار فى العمل على إحدى القضايا بسبب طريقته .. كان متعجرفاً بكل تأكيد فى نظر البيض لكنه بالمقابل كان بطلاً يزداد توهجه يوماً بعد يوم فى عيون العرق الإفريقي ..

حاولت الأحزاب المعارضة الضغط بكل قوتها على النظام الحاكم إلا أنه كان لهم دائماً بالمرصاد و قام بحظر الظهور العام لمانديلا و مجموعة كبيرة من رموز المعارضة عام 1955 بعد مشاركتهم فى مؤتمر يدعو إلى إقامة دولة ديموقراطية تسع الجميع .. تلك المشاركة أشعلت غضب السلطة .. تم القبض على مانديلا و أغلب أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب .. وُجهت لهم تهم الخيانة العظمى لتحريضهم على القيام بثورة .. إستمرت تلك المحاكمة ست سنوات قبل الحكم ببراءة مانديلا و باقى المتهمين من تهمة الخيانة ..

خلال تلك الفترة ساءت علاقته بزوجته الأولى إيفلين و تم الطلاق بينهم قبل أن يتزوج من زوجته الثانية وينى ماديكيزيلا عام 1958 .. كان زواجه من وينى كفيلاً بأن يجعله يتراجع قليلاً و يبدأ بالتفكير فى تكوين أسرة و تربية أطفاله بشكل هادىء إلا أنه اختار الطريق الأصعب .. مواجهة السلطة بشكل أكثر جدية من ذى قبل ..

  • بعد شهور وقع حادثاً أجبره على تغيير أفكاره التي اعتنقها على مدار 43 عاماً ..
  • بعد شهور سيرى العالم كله الوجه الأخر لنيلسون مانديلا ..
  • بعد شهور كانت هناك شاربفيل ..
  • صدقونى .. ما قبل شاربفيل ليس كما بعدها ..
  • نيلسون لن يعود نيلسون الذي نعرفه ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

Related Articles