قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || عبر الزمن

عندما قررت الإنجليزيتان (روز) و (مارى) زيارة قصر (فرساى) فى (فرنسا) عام 1901 م ، كان هدفهما يقتصر على السياحة بالنسبة لـ (روز) ، التى تعمل مدرسة تاريخ فى جامعة (لندن) ، وعلى تنمية اللغة الفرنسية ، بالنسبة لـ (مارى) التى تدرس هذه اللغة ـ تتخصص فى قواعدها ، ولم تعلم إحداهما أن زيارتهما هذه ستنتقل إلى كتب العلوم ، كواحدة من أعجب الظواهر فوق الطبيعية، المسجلة فى المراجع الخاصة بهذه الظواهر العجيبة .

لقد بدأت زيارتهما للقصر بداية عادية وتقليدية ، ثم ذهبتا لزيارة قصر (مارى انطوانيت) الصغير ، وهناك انتابهما بعض العتب ، فجلستا تستريحان على مقربة من القصر ..
وهنا بدأ كل شئ ..

كان هناك كوخ صغير ، تطل من نافذته سيدة نحيلة ، ترتدى زياً غير مألوف، وإلى جوار الكوخ سار بعض الرجال فى ثياب تاريخية عجيبة ، وكل منهم يرتدى قبعة مثلثة ، طريفة الشكل ..
وتطلعت الفتاتان إلى هذا المشهد فى فضول ، وخُيل إليهما أنها تمثيلية تاريخية أو شئ من هذا القبيل ، إلا أنهما التزمتا الصمت ، وكأنما خشيتا تحطيم ذلك السكون العجيب ، الذى ساد المكان كله دفعة واحدة .

وانتبهت إحداهما إلى أن هذا السكون غير طبيعى ..
لقد كان كل هؤلاء الذين ظهروا فى المكان بثياب وأنماط غير عادية يلتزمون صمتاً تاماً مخيفاً ..
حتى الجياد ، كانت تحرك رؤوسها فى صمت جعل الفتاة ترتجف خوفاً ، وتحاول تنبيه زميلتها إلى هذا ..
ولكنها لم تفعل ..
شئ ما منعها أن تفعل ..

ثم ظهر رجل مخيف كئيب المظهر خشن الملامح ، يرتدى معطفاً أسود ، رمقهما بنظرة أرجفتهما ، ودلف إلى كوخ آخر ..
وتبادلت الفتاتان نظرة قلقة خائفة ، ونهضتا لتبتعدا عن المكان ، ولكن رجلاً ظهر فجأة وراح يهتف :
– الرعاع يزحفون ..
واختفى بين الأشجار فى سرعة ..

رائج :   الإجابة الصادقة .. رسالة من بريد الجمعة

وتضاعف فزع الفتاتين ، فأسرعتا الخطا ، حتى بلغتا قصر (مارى أنطوانيت)..
وهناك توقفتا مبهوتتين ..
لقد شاهدتا سيدة جميلة رقيقة ، ترتدى ثوباً أبيض ، من طراز قديم وتجلس فى شرفة القصر ، منهمكة فى رسم لوحة ما ..
والتفتت إليهما السيدة فى هدوء ، وبدت لهما فى أوائل الأربعينيات من عمرها، أو فى أواخر الثلاثينيات ، ولكنها لم تبال بهما قط ..
بل لقد بدت كما لو أنها لم تر أياً منهما ..

وفجأة شعرت الفتاتان بضيق فى صدريهما ، وراحتا تسعلان ..
وكان هذا أكثر مما يمكنهما احتماله ، فهربتا من المكان كله على الفور ..
وفـى المساء وبينما كانتا ترقدان على فراشيهما ، سألت (مارى) زميلتها (روز) :
– ما الذي تتصورين أننا قد رأيناه ؟

أجابتها (روز) فى حذر :
– يخيل إلى أن القصر مسكون بالأشباح .
لم تعترض (مارى) على قول (روز) ، إلا أنها لم تستطع النوم فى الوقت نفسه، ولم تلق اعتراضاً من زميلتها عندما اقترحت إبقاء المصابيح مشتعلة طيلة الليل ..
وغادرت الفتاتان (فرنسا) ، دون الإشارة إلى ما حدث ..

ولكن بعد شهر واحد ، قصت (روز) الأمر على صديق لها ، فأدهشته القصة كثيراً ، وأدهشه وصفها للرجال بأنهم يرتدون أزياء خضراء وقبعات مثلثة ..
وأسرع هذا الصديق يحضر كتاباً عن تاريخ الثورة الفرنسية ، وطلب من صديقته تصفحه ..
وكانت دهشة (روز) عارمة ..

لقد رأت (روز) فى الكتاب رسوماً للحراس ، فى الأيام التى سبقت قيام الثورة الفرنسية ، ووجدت ثيابهم مطابقة تماماً للثياب التى شاهدتها مع (مارى) ..
وهنا أخبر صديقها أحد المهتمين بظواهر ما فوق الطبيعيات بالأمر ..
وأسرع ذلك الدارس يلتقى بـ (روز) و (مارى) ، ويستمع منهما إلى القصة كاملة ، ثم لم يلبث أن فغرفاه فى دهشة..

رائج :   الانسحاب الثاني .. رسالة من بريد الجمعة

وبدأت سلسلة من الاختبارات والدراسات ..
وشعرت الفتاتان بالندم على أنهما أعلنتا ما حدث ؛ فلقد واجهتهما موجة من الاستنكار والهجوم والتكذيب وأحاطتهما الصحافة بموجة من المراسلين والمتسائلين..
ثم خرج الدارس بتقرير عجيب ..
لقد أعلن أن (روز) و (مارى) قد رأتا أو عاشتا ، بوسيلة غير معلومة كل ما عايشته (مارى أنطوانيت) ، ملكة (فرنسا) عام 1789 م وبالتحديد فى ذلك اليوم الذى وقعت فيه مع زوجها فى أيدى الثوار والغوغاء ..

واستنكر العديدون هذا التقرير ، ولكن الرجل أبرز تقريراً لأحد الباحثين المتخصصين ، يتحدث فيه عن (مارى أنطوانيت) ، التى جلست ترسم لوحة فى شرفة قصرها ، فى الرابع من أكتوبر عام 1789 م وتنادى ابنة البستانى ، التى كانت تجلس فى نافذة كوخها الصغير ، فى حين كان أحد المعادين لها ، وهو خشن فظ كئيب المظهر ، يرتدى معطفاً أحمر ، يدلف إلى كوخ آخر ..
ولقد اندفع أحد خدم (مارى أنطوانيت) عبر الحديقة يهتف :
– الرعاع يزحفون .

وكل هذا سجله حراس قصر (مارى أنطوانيت) ودونته أبحاث الباحثين ..
.. ولم يكن هذا معلوماً للجميع ..
فقط لدارسى تاريخ هذه الفترة ..
وبدأت الدهشة تحل محل الاستنكار ، فى قصة (روز) و (مارى) ..

وتحولت هذه الدهشة إلى ذهول ، عندما كشف الجميع أنه لا وجود الآن للكوخين، اللذين رأتهما الفتاتان فى ذلك اليوم وأنهما قد أُزيلا ، قبل قرن كامل من هذا ..
وأسرع الباحثون يحضرون بعض الخرائط القديمة للقصر ..
.. وكانت المفاجأة ..
لقد حددت الفتاتان موضع الكوخين بدقة مدهشة ..
موضعهما القديم ..

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || زهور الربيع

ولكن هذا لم يقنع المعارضين ..
لقد ظلوا يستنكرون القصة ، ويتهمون الفتاتين بالكذب ، ومحاولة السعى للشهرة ، و …
ولكن المفاجأة الجديدة جاءت كالصاعقة ..
لقد أعلن أحد العلماء أن (مارى أنطوانيت) كانت مصابة بنوع من التوتر العصبى ، يجعلها ترفع يدها إلى صدرها عادة ، وتسعل ، عندما يواجهها موقف مقلق ..
وهذا بالضبط ما فعلته الفتاتان ، عندما تطلعت إليهما (مارى أنطوانيت) ..
وتزايد الاهتمام بالقصة ، بعد هذا الإعلان ..
ولكن المعارضة لم تستسلم ..

لقد خرج أحد المعارضين يعلن أن كل هذا لا يساوى شيئاً ..
ولكن لماذا ؟ ..
قال المعارض إن كل شئ يمكن معرفته ، وافتعاله ، لو أن الفتاتين تسعيان للشهرة ، فمن الممكن أن تطالعا كل ما نشر عن (مارى أنطوانيت) وتنتقيا الأمور الدقيقة عن حياتها ، ثم تؤلفا قصتهما الملفقة ..
وهنا لم يكن أمام إحدى الفتاتين (مارى) سوى أن تقدم آخر دليل لديها ..
ورقة ..
مجرد ورقة ، وجدت نفسها تكتبها بلغة تجهلها ، بعد عودتها مع زميلتها (روز) من القصر ..
وكانت هذه هى المفاجأة الأخيرة ..
والحاسمة ..

لقد أكد الخبراء أن الفتاة قد كتبت الرسالة بالألمانية وبنفس خط وأسلوب (مارى أنطوانيت) ..
وهكذا حُسمت القضية ..
لقد عاشت الفتاتان بالفعل ظاهرة خارقة ..
ظاهرة نقلتهما – بوسيلة مجهولة – عبر الزمن لتشاهد آخر أيام الملكة الفرنسية (مارى أنطوانيت) ..
وأصبحت هذه الحادثة مرجعاً لدارسى الظواهر الغامضة العجيبة ، ونقطة أخرى من تلك النقاط التى تثير الحيرة فى عالم الغموض ..
.. وعالم ما وراء العقل .

د. نبيل فاروق

Related Articles