قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || العقاب

“لا يوجد مجرم يفلت من العقاب”..
سمعت زميلي أحمد يقول العبارة في ثقة تامة، فلم أملك إلا أن أبتسم في أعمق أعماقي..
يالسذاجة المصريين!
يؤمنون دوما بِحكَم رومانسية، تجعل الحياة أشبه بصورة من لونين اثنين..
أبيض..
وأسود..

وفي حكمهم وأمثالهم، يلقي الشرير دوما جزاءه، وينال عقابه..
ويحصل الطيب على حقه..
وعلى العدالة..
والفرحة..
والسعادة..

حتى أفلامهم كلها كذلك..
لا ينتصر فيها الشرير أبدا..
ولا يربح المجرم في نهايتها قط..
الشيء الذي لا يدركونه، هو أن الحياة ليست كأمثالهم وحكمهم..
الحياة ليست دوما عادلة..
هذا هو نمط الحياة..
وهذه هي سنة الكون..

ولكنهم هكذا دوما..
يحيون في عالم من الأحلام..
ويبتعدون كل البعد عن الواقع..
المدهش أنني مصري مثلهم..

ولكنني أختلف..
أختلف كثيرا..
كثيرا جدا..

فالحياة بالنسبة لي أشبه بتجارة..
تجارة إما أن تكون خاسرة..
وإما رابحة..

وأنا في هذه الحياة تاجر ناجح..
تاجر يربح دوما..
ولا شيء يمكن أن يقف في طريق نجاحي..
لا شيء..
ولا أحد..
أيا كان..

حتى والدي، عندما أراد أن يطردني من منزله، ويحرمني من ثروته، قررت ألا أخسر المعركة..
وبحقنة هواء كبيرة، غرستها في عروقه، خسر هو..
وربحت أنا..

ما زلت أذكر تلك النظرة البائسة اليائسة، الناقمة الحاقدة، الذاهلة المستنكرة التي رماني بها، وأنا أحقنه بالهواء..
ومات أبي، في نفس الليلة، التي قرر فيها استدعاء محاميه، لحرماني من كل ثروته..
مات قبل أن يربح..
وقبل أن أخسر..

وشخّص الأطباء حالة الوفاة بأزمة قلبية، خصوصا أن والدي كان أيامها في مثل عمري الحالي تقريبا..
في السابعة والخمسين من عمره..

استعدت كل هذه الذكريات، وأنا أنظر إلى أحمد نظرة ساخرة، جعلته يقول في ضيق:
– ألا تؤمن بالعقاب الإلهي؟!
ابتسمت أكثر، وأنا أقول:
– ما الهدف من فتح هذه القضية الآن؟!

هز كتفيه، قائلا:
– مجرد فكرة يا رشاد.
ثم مال نحوي، يسألني:
– ألديك أخبار عن عادل؟!

كان يسألني عن ابني الوحيد، الذي على الرغم من نجاح مؤسستي الاقتصادية، وذيوع صيتها، يرفض وبشدة أن أسند إليه أي منصب فيها..
ويا له من ابن!

لم أدّخر وسعا في تربيته، وتعليمه في أرقى الجامعات الخاصة، حتى صار يحمل شهادة في الهندسة المدنية..
شهادة تجعله مؤهلا للجلوس على منصب مدير شركة المقاولات، التابعة لمؤسستي..
ولكنه رفض..
وبشدة..

البك المهندس أراد أن يصبح عازفا في فرقة موسيقية..
بل أراد أن يمتلك فرقة موسيقية..

أيّ أبله يملك كل هذا، ثم يفكر في فرقة موسيقية؟!
قاومته بشدة بالطبع..
تشاجرنا..
وبعنف..

ثم قرر أن يحسم الأمر، بأن يترك المنزل..
وانضم إلى فرقته..
وبسرعة، لم يعد ابني الذي أعرفه..

صار همجيا، عشوائيا، أشبه بالهيبز في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين..
ولم يعد يتعاطى الموسيقى وحدها..
بل المخدرات أيضا..

ولفترة من الوقت، وعلى الرغم من خلافاتنا، كنت أمنحه كل ما يطلبه من مال..
ثم بدأ الحديث عن المسرح الغنائي..
فكرة قفزت إلى رأسه، أو أوحى إليه بها بعض رفاقه، الذين لا يختلفون عنه في الهمجية والعشوائية..

وطلب مني عدة ملايين من الجنيهات..
وكان من الطبيعي أن أرفض..
وبمنتهى الصرامة..

صحيح أنه ابني الوحيد، ولكنني لن أسمح لمجموعة من المستغلين بالعبث في عقله، والاستيلاء على أمواله..
لن أدفع ما شقيت عمري لجمعه، من أجل فكرة حمقاء..

مستحيل أن أفعل!
مستحيل!
ومستحيل!
وألف ألف مستحيل!

كنت أرفض في شدة، وعادل يصر في شدة..
وتشاجرنا مرة..
وثانية..
وثالثة..
ورابعة..
تشاجرنا..
وتشاجرنا..
وتشاجرنا..
حتى نسيت كم مرة فعلناها..

وفي النهاية طردته من البيت شر طردة، ومنعته من الحضور إليه مرة أخرى..
رمقني يومها بنظرة فيها كل المقت والحقد والغضب، ثم اندفع يغادر المنزل، ولم يعد إليه مرة ثانية أبدا..
ولم يحصل مني على جنيه واحد..
وبدوري، لم أحاول أن أمنحه جنيها واحدا..
ولشهر، واثنين، وثلاثة، لم أسمع عنه شيئا..
ولم أعرف عنه شيئا..

“أين ذهبت؟!”..
انتزعني أحمد من أفكاري، فالتفتّ إليه أقول:
– كنت أبحث عن جواب لسؤالك.. فأنا حقا لا أعرف شيئا عن عادل.

اعتدل، قائلا:
أعرف مكتبا للتحريات الخاصة، يمكننا أن نستأجر أحد رجاله للبحث عنه.
وافقته في سرعة:
– وأنا مستعد لدفع كل التكاليف.
قلتها، ونحن نهبط في درجات سلم المؤسسة، و..

وفجأة، ودون سبب واضح، انزلقت قدمي على السلم..
وسقطت..
سقطت..
وسقطت..
سقطت..

كنت أشعر وكأنني أهوى إلى الأبد..
ثم أخيرا، ارتطم جسدي بالأرض..
وتأوهت..

هذا كل ما استطعت فعله..
فكل جسدي، باستثناء وجهي، رفض الاستجابة لي تماما..
وبمنتهى السرعة، تم نقلي إلى أكبر مستشفى في مصر..

وجاء التشخيص مفزعا..
كسر في الفقرات العنقية للعمود الفقري..
وقطع في الحبل الشوكي..

وهذا يعني حالة من الشلل الرباعي الكامل..
أطرافي الأربعة لن تعمل بعد الآن..
أبدا..

وبينما أرقد عاجزا في فراشي، تذكرت كلمات أحمد..
ما من مجرم يفلت من العقاب..
أبدا..

لقد كان على حق..
وأنا الدليل الحي على هذا..
ارتكبت الجريمة الكاملة، وقتلت أبي، دون أن يشير إصبع اتهام واحد إليّ..

أفلتّ بجريمتي..
ولكنني لم أفلت من العقاب..
لقد صرت عاجزا..
إلى الأبد..

رأيت أحمد يبكي إلى جواري حزنا، فغمغمت، بلساني الذي أفلت من ذلك الشلل التام الذي أصابني:
– عادل يا أحمد.. أين عادل؟!
وعدني أحمد بأنه سيبحث عن عادل، وسيجلبه لي بأي ثمن..
ومر يوم..
أو يومان..
أو ربما ثلاثة.. لست أدري..

ثم فتحت عيني ذات مساء، فوجدت عادل إلى جواري..
وبكل فرحة الدنيا، هتفت باسمه، ولكنه بدا باردا قاسيا، وهو يقول:
– كنت أتمنى ألا تستيقظ الآن.

سألته في دهشة:
– ولماذا يا ولدي؟!
قال بكل قسوة وبرود:
– كنت أتمنى أن ينتهي الأمر في صمت وهدوء.

سألته، ودهشتي تتضاعف:
– أي أمر يا ولدي؟!
بدا أكثر قسوة وصرامة، وهو يجيب:
– طوال حياتك وأنت ديكتاتور، تحرمني من أموالك، ما لم أركع أمامك، وأطيع كل أوامرك.
غمغمت، وأنا على وشك البكاء:
– كنت أحافظ على مستقبلك.

ابتسم في قسوة، قائلا:
– مستقبلي في المسرح الغنائي، حتى وإن كنت لا تؤمن به.. وعلى أي حال، لم يعد إيمانك أو عدم إيمانك يعنيان شيئا.
وبدا أشبه بالشيطان، وهو يضيف:
– فقد قررت أن أرث كل ثروتك، وأفعل بها ما أشاء.
قالها، وهو يبرز محقنا كبيرا، يمتلئ بالهواء..

 

رائج :   لماذا لم يشم عادل الورد || د : أحمد خالد توفيق

رائج :   العالقين في الخارج || تقييم ومتابعة لأداء الحكومة في الأزمة

ولم أنبس ببنت شفة، وهو يغرس الهواء في عروقي..
لم أصرخ..
ولم أستنجد..
فقط استسلمت تماما..

فقد أدركت أن أحمد نفسه لم يتصور كم هو على حق..
فهذا هو العقاب..
العقاب الإلهي الحقيقي..
والعادل..
جدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *