اختلج قلب (مرسي) في سعادة غامرة وهو يدور حول سيارته الجديدة، ويتحسس جسمها اللامع في زهو غير مصدق أن حلمه قد تحقق في النهاية..
فمنذ خمسة أعوام كاملة بدأ الحلم..
كان يقف في انتظار سيارة تقله إلى مكان سكنه بعد منتصف الليل بنصف الساعة تقريبا، عندما تمنى أن يمتلك يوما سيارة..
لم يكن دخله يسمح بهذا، ولكنه ظل يحلم..
ويحلم..
ويحلم..
ولكنه أبدا لم يكتفِ بالحلم..
لقد راح يدخر كل قرش يستطيع ادخاره في صندوق كبير، كتب عليه بخطه الرديء “السيارة الجديدة”، ووضعه دوما أمام عينيه..
ولكن حتى مع هذا لم يمكنه ادخار سوى آلاف قليلة لا تكفي حتى لشراء “توك توك” بسيط.. ثم جاءت الفرصة على غير انتظار..
شاب من الحي أخبره أن أحدهم يعرض سيارة أجرة للبيع، وبثمن معقول..
والأهم أنه مستعد لتقسيط المبلغ..
وبسرعة تم الاتصال..
ولم يصدق مرسي نفسه، مع سعر السيارة الذي يقل كثيرا عن سعر مثيلاتها في سوق السيارات، ولا مع التسهيلات الكبيرة التي يعرضها عليه صاحبها..
وفي أعماقه نما شك كبير..
السيارة تحمل لوحات أجرة، ووحدها تساوي ثروة في سوق السيارات المصرية، وحالتها أكثر من ممتازة، فلماذا هذا الثمن وتلك التسهيلات الكبيرة؟!
لماذا؟!
طرح تساؤلاته في وضوح على مالك السيارة الذي يحمل اسما عجيبا، لم يسمع مثله من قبل..
اسم “سيلبا”..
وأخبره “سيلبا” هذا أنه ولد في الهند عندما كان والده يعمل هناك، ومن هنا جاء الاسم، ثم أبدى استعداده التام لفحص السيارة في أي مركز معتمد للتأكد من صلاحيتها، وعرض أن يذهبا لاستخراج كل الأوراق الرسمية الخاصة بها..
ووافق هو على الفور..
وجاءت النتائج لتثير دهشته أكثر..
السيارة سليمة من الناحيتين، الرسمية والفنية..
وبكل دهشته تلك سأل “سيلبا”:
– وكيف لم تجد لها مشتريا؟!
ابتسم “سيلبا” هذا ابتسامة لم ترُق له، وهو يجيب:
– لم أجد من يستحقها…
وعلى الرغم من أن الإجابة لم تعنِ شيئا، أسرع مرسي يتم كل المعاملات الورقية خشية أن تفلت منه الفرصة..
وبعد يومين فحسب صارت السيارة ملكا له..
رسميا…
وفي سعادة غامرة، قال وهو يتسلمها من “سيلبا”:
– لا يمكنك أن تتصور ما الذي فعلته لكي أمتلك سيارة كهذه.
ابتسم “سيلبا” نفس تلك الابتسامة غير المريحة وهو يقول:
– يمكنني أن أتصور.
نطقها في ثقة جعلت مرسي ينظر إليه لحظات في دهشة، قبل أن يبتسم ابتسامة باهتة وهو يغمغم:
– ربما.
وفي أعماقه ارتسمت ابتسامة كبيرة..
– لا.. لن يمكنه أبدا أن يتصور..
ففي نظر الجميع، كان مرسي مجرد موظف بسيط نمطي..
موظف يذهب إلى عمله في انتظام، ويغادره في موعد الانصراف الرسمي، ويجالس بعض رفاقه على المقهى بعض الوقت، ثم يغادرهم للذهاب إلى عمله الليلي الذي يؤمن له ذلك الدخل الإضافي، الذي ادخره لشراء السيارة..
ولأن الكثيرين يعملون في أكثر من مهنة في هذا الزمن، لم يسأله أحد أبدا عن وظيفته الليلية تلك…
“ما رأيك في نزهة أخيرة بالسيارة؟!”.
ألقى “سيلبا” عليه السؤال في لهجة، جعلته يتطلع إليه، مغمغما في قلق:
– أخيرة؟!
ضحك “سيلبا” وهو يقول:
– أخيرة بالنسبة إليّ.. لا تنسَ أنها آخر مرة أركب فيها السيارة.
ابتسم (مرسي) في ارتياح وهو يقول:
– ولم لا؟! أين تريد الذهاب؟!
هز “سيلبا” كتفيه، مجيبا:
– أي مكان.. اعتبره اختبارا لكفاءة السيارة.
شعر (مرسي) بالزهو وهو يحتل مقعد القيادة ويدير محركها، والتفت إلى “سيلبا” الذي احتل المقعد المجاور وهو يسأله:
– ما رأيك في منطقة الأهرامات؟!
أجابه “سيلبا” في هدوء:
– لا بأس.
انطلق بالسيارة وشعر بالاستمتاع، مع نعومة السيارة وانسيابيتها وهي تنطلق بهما نحو منطقة أهرامات الجيزة، في حين استرخى “سيلبا” في مقعده، وبدا أشبه بالنائم معظم الطريق، والتزم الصمت التام، مما جعل مرسي يقول:
– السيارة تعمل كأنها جديدة.
غمغم “سيلبا”:
– إنها كذلك بالفعل.
كان جوابا مقتضبا لم يشبع رغبة مرسي في الحديث، فغمغم:
– ما زلت لا أفهم سبب بيعك لها على هذا النحو.
غرق “سيلبا” في صمته لحظات، ثم أجاب في بطء:
– المهم أنك كنت تحلم بها.
هتف في حماس:
– ومنذ خمس سنوات.
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي “سيلبا” وهو يقول بنفس البطء:
– أكثر من خمس سنوات.
انعقد حاجبا مرسي وهمّ بسؤاله عما يعنيه، إلا أن “سيلبا” أغلق عينيه تماما وهو يكمل:
– خمس سنوات وثلاثة أشهر ويوم واحد.
ضغط (مرسي) فرامل سيارته ليوقفها إلى جانب الطريق بحركة حادة، والتفت إليه متسائلا في توتر:
– كيف أمكنك تحديد هذا، بكل هذه الدقة؟!
ابتسم سيلبا، وقال دون أن يفتح عينيه:
– أليست هذه هي الحقيقة؟!
هتف به في حدة:
– بلى.. ولكن كيف عرفت؟! إنني لم أخبر أحدا أبدا.
حافظ “سيلبا” على ابتسامته، وهو يجيب:
– تماما كما لم تخبر أحدا عن نشاطاتك الليلية.
شعر (مرسي) بالتوتر يسري في كيانه كله وهو يقول:
– أي نشاطات ليلية؟
التقط “سيلبا” نفسا عميقا، قبل أن يجيب في هدوء:
– السطو على المنازل.
انتفضت كل ذرة في كيان مرسي وتراجع في حركة حادة وهو يقول في عصبية:
– أي قول هذا؟!
أطلق “سيلبا” ضحكة قصيرة مستفزة، قبل أن يقول:
– هل تحب أن أخبرك بعناوين المنازل التي سطوت عليها؟
لم ينبس مرسي ببنت شفة وهو يحدق فيه في ذهول مذعور.
أي رجل هذا؟!
أهو رجل أمن يتعقبه منذ البداية؟!
أم كانت السيارة فخًا للإيقاع به؟!
ولكن لماذا؟
لو أنه يعرف كل شيء عنه، فلماذا هذه الخطة المعقدة؟!
لماذا؟!
“أنت مخطئ.. لم أسطُ على أي منازل…”.
قالها بكل عصبيته، فأطلق “سيلبا” ضحكة أخرى وقال:
– حقا؟! وماذا عن الشبان الذين استوقفتهم في أماكن بعيدة عن العمران، واستوليت على ساعاتهم وهواتفهم المحمولة تحت تهديد السلاح؟!
اتسعت عينا (مرسي) في رعب وهو يهتف:
– من أين حصلت على هذه المعلومات؟!
اعتدل “سيلبا” وفتح عينيه وهو يلتفت إليه قائلا:
– وماذا عن الثلاثة الذين طعنتهم بلا رحمة، عندما رفضوا الاستجابة لك؟!
تراجع مرسي، حتى التصق بباب السيارة المجاور له، وهو يغمغم:
– مستحيل!
تابع “سيلبا” بنفس الهدوء:
– اثنان منهم لقيا مصرعهما بعد أن تركتهما ينزفان في منطقة غير آهلة بالسكان.
ازدادت عينا (مرسي) اتساعا، وازداد التصاقا بالباب، فأكمل “سيلبا” وهو يتطلع إليه مباشرة:
– وماذا عن تلك الفتاة، التي..
قاطعه في حدة:
– كفى.
كانت كل خلية في جسده ترتجف عندما هتف بالكلمة قبل أن يتحسس المطواة، التي يخفيها في حزامه وهو يميل نحو “سيلبا” متسائلا بكل انفعاله:
– من أنت بالضبط؟!
أجابه “سيلبا” بابتسامة ساخرة:
– أنا الذي يعرف كل شيء عنك.
هتف مرسي في شيء من الشراسة وهو يسحب المطواة في حذر:
– أأنت شرطي؟
أطلق “سيلبا” ضحكة عدوانية، وهو يقول:
– لست كذلك بالتأكيد.
ثم مال نحوه بحركة أفزعته، وهو يضيف:
– الشرطة لا تعرف عنك ما أعرفه.
انتزع مرسي المطواة من حزامه، وفردها أمام وجه “سيلبا”، وهو يقول في شراسة:
– وكيف عرفت عني ما عرفت؟!
لم يبدُ على “سيلبا” أي أثر للخوف من المطواة المشهورة أمام وجهه وهو يقول:
– لن يمكنك أن تفهم، ولكن المهم أنني لست أدينك بما فعلته.
ثم مال نحو المطواة مثبتا عدم اهتمامه بها وهو يضيف:
– الواقع أنك تبدو بالنسبة إلي مثاليا.
وعلى الرغم من أنه هو من يحمل المطواة، فقد شعر بخوف جعله يتراجع، وهو يقول في عصبية:
– مثالي لماذا؟!
اعتدل “سيلبا” مبتعدا عنه، وهو يجيب:
– لكى تنضم إلى مملكتي.
غمغم مرسي بكل دهشته وخوفه:
– مملكتك؟!
أطلق “سيلبا” ضحكة عالية هذه المرة، شقت سكون المنطقة شبه الخالية، وهو يقول:
– ألم تدرك بعد من أنا؟! هل تصورت أن “سيلبا” هو اسمي الحقيقي؟!
بدأ مرسي يرتجف وهو يسأله:
– من أنت؟!
عاد “سيلبا” يميل نحوه بشدة وهو يقول:
– اعكس الاسم وستعرف من أنا.
اتسعت عينا (مرسي) بكل رعب الدنيا، في حين تراجع “سيلبا” ليطلق ضحكة عالية ثانية وهو يكمل:
– وستعرف لماذا جعلتك توقف سيارتك الجديدة هنا بالتحديد.
ارتجف جسد مرسي وهو يقول:
– لا.. لا يمكن أن يكون ما تقوله حقيقي.. إنك…
وقبل أن يتم عبارته ارتفع صوت مدوٍ من فوقه، وشعر بسقف السيارة الجديدة ينخفض في سرعة مخيفة، و..
“الشرفة التي سقطت، من هذا المنزل الآيل للسقوط سحقت السيارة وراكبها سحقا للأسف”.
قالها أحد شهود الحادث قبل أن يشير إلى السيارة المسحوقة، التي يعمل ونش الشرطة على إخراجها من بين الحطام، قبل أن يضيف:
– لقد بدا لي سائقها مجنونا وهو يتشاجر مع نفسه أسفل منزل نخشى كلنا مجرد المرور أسفله.
سأله الضابط المعاين للحادث:
– وهل كان وحده بالفعل في السيارة؟!
أجابه الشاهد في هدوء لا يتفق مع الموقف:
– نعم.. كان وحده تماما، كما ستجدون عندما تستخرون جثته من حطام السيارة المسحوقة.
أطلق الضابط زفرة وألقى نظرة أسف على السيارة التي اختلطت معالمها وامتزجت أجزاء منها بالدم، ثم عاد يلتفت إلى الشاهد قائلا:
– ربما نحتاج إلى شهادتك في قسم الشرطة لإغلاق محضر الحادث.
أجابه الشاهد على الفور:
– بكل تأكيد أيها الضابط.. المهم أن تتأكدوا من كتابة اسمي على نحو صحيح؛ فوالدي أطلق عليّ اسما يتفق مع عمله في الهند سابقا.. اسم “سيلبا”.