قضايا وأراءكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

بنتولد .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

عندما دخلت الكلية، دعاني أصدقائي إلى حفل في كلية التجارة لمطرب شاب واعد بدأ الناس يهتمون بأغاني ألبومه الأول، ويبدو أن له مستقبلاً لا بأس به. كان اسم هذا المطرب هو محمد. محمد مكي. لا. تذكرت. كان اسمه محمد منير!. شاب نوبي نحيل له طريقة فريدة في الأداء. قدم لنا أغنية ساحرة تقول في بعض كلماتها: “بنتولد. دفيانين. بنتولد. صافيين. بنتولد. مش داريين. بالرايحين والجايين. نكبر وتكبر بينا أعمار السنين. ونكره السنين. وتكرهنا السنين ونجرح البشر. ونجرح نفسنا مع إننا. بنتولد. طاهرين. بنتولد. شبعانين”.

الأغنية كانت من ألحان شاب طنطاوي واعد آخر (من شارع طه الحكيم) اسمه هاني شنودة، وكلمات شاعر رائع هو عبدالرحيم منصور. في ذلك الوقت كنا في بداية العمر وكنا أقرب إلى الحالة التي وصفتها الأغنية (بنتولد). لقد كنا جميعًا متقاربين في الطباع كالقطط الوليدة.

اليوم أنظر إلى هؤلاء الذين كانوا معي في المدرسة الابتدائية، أو الذين كانوا معي في المدرسة الإعدادية أو الثانوية، فأجد أن مصائرنا تفرقت بشكل غير عادي، وتبدلت شخصياتنا جميعًا. صار منا الوغد ومنا الشرير ومنا اللص والمرتشي، ومنا الرجل النبيل الذي احتفظ بمبادئه، ومنا الشاعر الحالم البعيد عن الحياة، بل صار منا نجم السينما كذلك! (الفنان ماجد المصري كان يقف بجواري في طابور الصباح في مدرسة سعيد العريان الاعدادية). 

رائج :   دموع الصمت .. رسالة من بريد الجمعة

عندما ترمق طفلاً غافيًا رضع جيدًا فتورد خداه وانتظم تنفسه، فأنت في الواقع تلقي نظرة على لوحة فارغة ربما يُرسم عليها أي مشهد فيما بعد: نهر صاف. غزال. مشهد من الجحيم. امرأة عارية. جمجمة. أي شيء. 

فيما بعد أخبرني ابن شقيقتي عن شاعرة بولندية عظيمة اسمها (فيسوافا شيمبورسكا)، وقد قرأت لها قصيدة أرسلها لي جعلتني أدمن قصائدها، وأفتش عنها بحرص برغم أنني أجد غالبًا ترجمات عجيبة غير صالحة للقراءة أصلاً. يبدو أن اللغة البولندية معقدة جدًا لدرجة أنه لا أحد يجيدها. كما فهمت لماذا فازت هذه الشاعرة بجائزة نوبل عام 1996. القصيدة اسمها (الصورة الفوتوغرافية الأولى لأدولف هتلر). تقول القصيدة: 

رائج :   إنجازات السيسي

“من هذا الطفل الذي يرتدي قميصه؟ إنه الطفل (أدولف) ابن عائلة هتلر! أسيكبر ويغدو دكتورًا في القانون أو مغني (تينور) في أوبرا فيينا؟ من صاحب هذه اليد الصغيرة؟ من صاحبها؟ الأذن والعين والأنف؟ من صاحب هذه المعدة المترعة باللبن؟ ما زلنا لا نعرف: عامل طباعة. تاجر. قس؟ إلى أي مسار تتجه هذه الأقدام المضحكة؟ إلى أين؟ إلى البستان. إلى المدرسة. إلى المكتب. إلى الزواج؟

” أيها الملاك. فتات من الخبز. شعاع عندما جاء إلى العالم في العام الماضي، لم تنقص العلامات في الأرض ولا في السماء، الشمس الربيعية وفي النوافذ زهور البيلارجونيا. موسيقا (صندوق الدنيا) فوق أرصفة الشوارع. نبوءة متفائلة في وريقة وردية. وقعت قبل الميلاد بلحظة. سيأتي الضيف الذي انتظروه طويلا. طرقات الباب – من هناك؟ – قلب أدولف يدق الباب. الببرون. الحفاضة. مريلة. شخشيخة.

رائج :   صفة الكذب (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)

أما الفتى الصغير، فينبغي أن تحمد الرب على سلامة صحته وينبغي طرق الخشب حتى لا يحسد. إنه قريب الشكل من والديه. من القط في السلة. قريب من الأطفال الآخرين بصورهم الفوتوغرافية في ألبومات أخرى. وبعد. لن تبكي الآن في هذه اللحظات. السيد المصور خلف ردائه الأسود سيعلق” استعد للتصوير. واحد. اثنان. ثلاثة (بستريك!)”.

هذا الطفل السعيد الذي يمثل حلم أبويه، والذي يغفو أمام المصور بانتظار التقاط أول صورة له. كان اسمه أدولف هتلر. هو كذلك (بيتولد) صافيًا عذبًا يكشط اللبن ويكركع. ترى ما هي اللعبة القاسية التي تلعبها الحياة، ليتحول هذا الشيء الساحر إلى سفاح يصبغ الكرة الأرضية بالدم؟ أي مختبر رهيب دخلنا فيه جميعًا إلى أن “نكره السنين. وتكرهنا السنين ونجرح البشر. ونجرح نفسنا. مع إننا بنتولد دافيين صافيين؟ ليرحم الله عبدالرحيم منصور. فيلسوف تنكر في زي شاعر غنائي.

مقالات ذات صلة