قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || مجنون

عجيب هو هذا الرجل …
أعوام طويلة التقى به ، فى جلسات العلاج ، وما زال يحيا حالة الوهم ، التى تصور له أنه ليس مريضًا …
هنا فى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية ، هذا ليس بالأمر العجيب …
الكل يتصوّر نفسه شخصًا آخر ، بخلاف هويته الحقيقية …
فى عنبر ثلاثة ، رجل يصر على أنه الرئيس …
وفى عنبر خمسة ، لدينا نابليون بونابرت …
وهناك خالد بن الوليد …

وصلاح الدين الأيوبى …
وحتى سفاح (كرموز) …
ولكن هذا الرجل بالذات يختلف …
يختلف كثيرًا …
” كيف حالك اليوم ؟! …”
ألقى علىّ السؤال ، وهو يبتسم ابتسامة هادئة ، جعلتنى أدرك أنه ما زال داخل حالة التقمص ، فأجبته فى مودة :
ـ فى خير حال … وأنت ؟!

أشار بيده إشارة مبهمة ، واسترخى فى مقعده :
ـ أنا أفضل … استطعت تقبل وفاة زوجتى ، وأتعامل مع ابنى وابنتى على نحو طبيعى .
” مسكين هو …”
صدمة مقتل زوجته زلزلت كيانه …
إنه يتظاهر بالتماسك ، ولكننى أعلم أنه منهار داخليًا …
أخشى ما أخشاه أن ينهار احتماله فجأة ، فيتحول إلى حالة العنف …
لو حدث هذا ، سأضطر إلى نقله إلى عنبر الخطرين …

أو إرساله إلى حيث يحصل على صدمة كهربية …
فى بعض الأحيان يفلح هذا …
فى بعض الأحيان فحسب …
” القضية تم قيدها ضد مجهول …”
قالها ، وهو ما زال يحاول الاسترخاء فى مقعده …
” هل ضايقك هذا ؟! …”
سألته فى حذر ، فلوّح بذراعه كلها ، مغمغمًا :
ـ وماذا بيدى لأفعله ؟!

لم تعجبنى إجابته ، ولا الطريقة اللامبالية ، التى نطقها بها ، فملت نحوه ، أسأله :
ـ أين كنت ، عندما قتلت زوجتك ؟!
صمت بضع لحظات :
ـ كنت أقضى السهرة مع بعض الأصدقاء .
سألته ، وأنا أتفحّص وجهه جيدًا :
ـ وهل يمكنهم الشهادة بهذا ؟!
تطّلع إلىّ لحظات ، ثم اعتدل فى مقعده :
ـ بالتأكيد .

من الواضح أنه يخفى شيئًا ، ولهذا سألته :
ـ كيف لقت زوجتك مصرعها ؟!
عاد يتطّلع إلىّ لحظات ، قبل أن يجيب ، فى توتر ملحوظ :
ـ لقد أخبرتك من قبل .
تمسكت بالهدوء ، وأنا أسأله :
ـ هل يضيرك أن تخبرنى مرة أخرى ؟!
بدا مترددًا ، فقلت أستحثه :
ـ مع تفاصيل أكثر هذه المرة .
لم يبد مرتاحًا ، وهو يفكّر طويلًا ، قبل أن يعتدل ، قائلًا :
ـ تعلم أن سارقًا فاجأها وحدها .
قلت أستحثه :
ـ ثم ؟!

بدا عصبيًا ، وهو يجيب :
ـ ثم طعنها ست عشرة طعنة .
تراجعت فى مقعدى :
ـ كان لديه الوقت الكافى إذن ؟!
مطّ شفتيه ، وهزّ كتفيه ، وهو يجيب :
ـ لست أعتقد هذا .
ويبدو أن لهجتى كانت قاسية بعض الشىء ، أو أنها حملت نبرة عدوانية ، وأنا أقول :
ـ قلت إنها ستة عشرة طلقة .
زفر زفرة متوترة ، وهزّ رأسه ، وهو ينهض قائلًا :
ـ يبدو أن فكرة علاج الحوار الودى المتبادل ، لم تكن مناسبة هذه المرة .
أشرت إليه بمعاودة الجلوس :
ـ بل أراها فكرة رائعة .

تردد بضع لحظات ، ثم عاود الجلوس ، وهو يغمغم فى عصبية :
ـ دعنا لا نتحدث عن حالة زوجتى إذن .
وافقته بإيماء من رأسى ، على الرغم من الفضول الذى يلتهمنى ؛ لمعرفة صلته بمصرع زوجته …
إنه يخفى شيئًا …
حتمًا يخفى شيئا …
” ماذا عنك أنت ؟! …”
ألقى سؤاله علىّ فى اهتمام ، فهززت كتفىّ ، مجيبًا :
ـ ماذا عنى ؟!

سأله فى شبه لهفة :
ـ هل أنت متزوّج ؟!
فكرت لحظات ، قبل أن أجيب :
ـ لست أظن هذا .
تراجع فى مقعده ، وهو يسأل دون دهشة :
ـ تظن ؟!
أشرت بيدى مجيبًا :
ـ لقد فرّت مع طفلى منذ زمن .
سألنى :
ـ وهل طلقتها بعد فرارها ؟!
صمت لحظة مفكرًا ، ثم هززت رأسى فى بطء :
ـ كلا .
لم ترق لى ابتسامته ، وهو يقول :
ـ هى ما زالت زوجتك إذن .
ضايقتنى العبارة ، فأشحت بوجهى فى توتر :
ـ من الناحية النظرية … نعم .
سألنى فى اهتمام :
ـ وابنك … هل رأيته بعدها ؟!
بدأت أشعر بالضيق لأسئلته ، إلا أننى أجبت ، فى شىء من الغلظة :
ـ كلا …

لمحت شبح ابتسامة على شفتيه ، وهو يقول :
ـ ضايقك هذا كثيرًا … أليس كذلك ؟!
أجبت دون مواربة :
ـ نعم .
قلتها فى حدة واضحة ، فتراجع فى مقعده ، واستغرق فى التفكير بضع لحظات ، قبل أن يبتسم ابتسامة زائفة ، قائلا :
ـ يبدو أن جلسات الأحاديث الودية هذه مجدية .
غمغمت بغير حماس :
ـ أعتقد هذا .

راجعت فى ذهنى ما أعرفه عن جلسات العلاج الودية …
المريض يجلس مع الطبيب ، وكأنهما صديقان التقيا فى مقهى …
يتحدثان …
يتجادلان …
أو حتى يتشاجران …
وعلى الطبيب أن يكون يقظًا واعيًا ، لكل فعل أو كلمة …
هذا لأنه يقوم بتحليل المريض ، من خلال هذه الجلسات …
وعلاجه أيضًا …
المهم أن يسأل دومًا السؤال المناسب …

وفى الوقت المناسب …
” هل أحببت طفولتك ؟! … “
ألقيت عليه السؤال بغتة ، فبدت عليه الدهشة لحظة ، قبل أن يشرد ببصره ، وكأنه يستعيد ذكرى قديمة :
ـ أبى كان قاسيًا بعض الشىء .
سألته فى اهتمام :
ـ وماذا عن أمك ؟!
بدا من الواضح أن الذكريات تؤلمه هذه المرة ، وهو يغمغم :
ـ لقد تركتنا وأنا فى الثانية .
سألته :
ـ ماتت .
حاول أن يبتسم ابتسامة مضطربة ، وهو يهز رأسه ، قبل أن يجيب ، فى مرارة لم يستطع حجبها :
ـ طلقها أبى ، وتزوّجت من رجل آخر .
سألته ، وقد تضاعف اهتمامى :
ـ وهل رأيتها منذ ذلك الحين ؟!
زفر فى مرارة ، قبل أن يغمغم :
ـ مرتين فحسب .

لقد أصبت الهدف …
إنه يكره أمه …
هذا ما دفعه إلى قتل زوجته …
جلسات العلاج الودية هذه مدهشة بحق …
لقد توصلت بواسطتها إلى الحقيقة ، التى عجز الكل عن كشفها .
” دعنا نتحدث عنك قليلًا … “
قالها فى توتر ، وكأنه يسعى للفرار من حصار أسئلتى ، فاعتدلت قائلًا :
ـ سل ما بدا لك .
مسح شعره بيده ، وهو يسأل :
ـ متى عرفت أين تقيم زوجتك ؟!
ندت منى حركة عصبية مع سؤاله ، وقلت فى حدة :
ـ وماذا يعنيك من هذا ؟!

ابتسم وهو يهز كتفيه ، مجيبًا :
ـ أنت سألتنى أسئلة شخصية ، وأجبت .
كان على حق ، مما جعلنى أبتلع توترى ، قائلًا :
ـ علمت منذ ستة أسابيع تقريبًا .
قال فى هدوء :
ـ وذهبت لزيارتها ؟!
قلت فى عصبية :
ـ كان يجب أن أرى ابنى .
بدا أكثر هدوءًا ، وهو يقول :
ـ ولكنها رفضت أن تريك إياه .
هتفت فى حدة :
ـ تلك الحقيرة … إنه ابنى أيضًا ، وليس ابنها وحدها .
تنهّد ، وقال فى حسم :
ـ لهذا طعنتها حتى الموت ؟!
اتسعت عيناى عن آخرهما .
طعنتها ؟!…

من قال هذا ؟! ..
من ؟! …
” انتهت الجلسة … أعيدوه إلى عنبره الانفرادى …”
قالها ، ونهض لينصرف ، وجاء اثنان من الممرضين الأقوياء ، كما يحدث فى كل مرة …
كم سئمت هذا وكرهته …

إنه ، وهم جميعًا يصرون على أننى المريض ، وأنه هو الطبيب …
ولقد تجاهلونى تمامًا ، وأنا أحاول أن أنبههم إلى خطئهم ، بينما يجروننى جرًا إلى العنبر الذى أقيم فيه …
عنبر المجانين …
الخطرين 
.
#بقلم_د_نبيل_فاروق

رائج :   قصة رعب قصيرة … فلاش فيكشن “Flash Fiction” || ج1

مقالات ذات صلة