من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
- لماذا يهرب بعض الناس من حياتهم الهادئة إلى حياة مجهولة وعواقب غير مضمونة.. ؟
- ولماذا يعتقد الأبناء أن حب الأم لهم قيد وخوفها عليهم ضعف وارتباطها بهم سجن كبير؟
إنني انتقل من هذه التساؤلات الحائرة إلى قصة ابنتي المتميزة التي تتمتع بقوة الشخصية والذكاء وصلابة الرأي والعناد ـ فهي ـ متفوقة في كل شئ وعندها من قوة الإقناع ما يكفي لإشعال الحروب أو إنهائها, وفي الوقت نفسه تحمل في قلبها الصغير مشاعر رقيقة للغاية وفي عقلها أفكار حادة جدا.
فقد تخرجت ابنتي في احدي كليات القمة وعينت بها بعد حصولها على الماجستير ومنذ أكثر من عشر سنوات تقدم إليها الكثيرون وكلهم أو معظمهم زملاء لها.. وقوبلوا جميعا بالرفض الشديد من جانبها.. وحين اسألها عن الأسباب تجيب الإجابة القاطعة, وهي لا يوجد قبول .. ومن باب عدم القبول هذا تم رفضهم جميعا..
ثم حدث منذ عدة شهور أن سافرت معها إلى إحدى الدول الغربية لكي تتلقى دورة تدريبية على جهاز متقدم ضمن استعدادها للحصول على الدكتوراه والتقينا هناك بأسرة مصرية صديقة تعرفنا من خلالها على أستاذ جامعي من أهل البلاد, وتحدثت معنا العائلة المصرية الصديقة عن هذا البروفسور وأشادت به وبأخلاقه ويقظة ضميره وبمثالياته, ثم انتهت زيارتنا وعدنا إلى مصر..
وبدأت ابنتي تكتب على البريد الالكتروني رسائل لهذا الأستاذ الأجنبي وترسل له عبر الإنترنت صورا عن مصر وبعض الأبحاث وورقات العمل, وتبادلا الرأي في أمور كثيرة حول العمل والتدريس, وكانت تحكي لي عن كتاباته لها وآرائه الصائبة في حكمه على مجالات العمل والدراسة, وكتب إليها ذات يوم يطلب الحضور إلى مصر التي لم يزورها أبدا من قبل وفعلا قام ابني بالترتيبات اللازمة لزيارة البروفسور وإقامته, حيث يعمل في هذا المجال, وحضر الرجل إلى مصر وانبهر بها كثيرا, وأعجب بجمالها ونيلها وآثارها وكل ما فيها, وشاهد المساجد وسمع صوت الآذان وتأثر كثيرا بهذه الأجواء الدينية الروحية التي لم يشاهد مثلها من قبل..
وبعد قليل راح يوجه إلينا الأسئلة عن الدين وأبدى رغبته الشديدة في قراءة تفسير القرآن بالانجليزية وكتاب عن حياة سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والسلام فأمددناه بمجموعة كبيرة من الكتب وبتفسير للقرآن الكريم ورجع إلى بلده ومعه هذه التفاسير وبمجرد انتهائه من قراءتها أرسل لابنتي بالبريد الالكتروني يبلغها بأنه سيعود إلى مصر ويطلب ترتيب زيارة له إلى مشيخة الأزهر وجاء إلى مصر في رحلة لمدة ثلاثة أيام فقط وذهبنا معه إلى مشيخة الأزهر, حيث نطق الشهادتين وتمت إجراءات الإشهار..
وأذن لصلاة الظهر وهو موجود فقاموا للصلاة مع شيخ الأزهر الذي تمنى له التوفيق ثم تقدم الأستاذ رسميا إلى زوجي يطلب يد ابنتنا وركب الطائرة في نفس اليوم عائدا لبلده .. وبعد فترة قصيرة سافرت مع ابنتي إلى ذلك البلد الأجنبي لكي نتعرف على أسرته واجتمعنا مع والدته وأخته ووجدنا أنه من أسرة عريقة وطيبة, وذات تقاليد ومبادئ مثل عائلاتنا المحافظة,
وجرت كل هذه الأحداث في سرعة غريبة وكأنها أحداث فيلم أشاهده ولا أشارك فيه وكأنني مزدوجة الشخصية فشخصيتي الأولى هي التي اشتركت في كل ما حدث دون وعي مني أما شخصيتي الحقيقية فقد ظهرت بعد عودتنا من الرحلة إلى بلدنا, وأعلنت رفضها لهذا الزواج, فبدأت ابنتي تأخذ مني موقفا دفاعيا عن نفسها في بادئ الأمر ثم انقلب إلى موقف عدائي صريح انعكس على جميع تعاملاتنا معا, بل وعلى حياتنا كلها, وأصبحت لا أرى في عينيها إلا نظرات اللوم وأجدها تتحرك أمامي وهي حزينة وصامتة مثل عصفور مرهق, ضل الطريق إلى عشه الآمن.
وبعد أن كنا لا نتوقف عن الحديث والضحك والمرح, أصبح الصمت هو صديقنا الدائم, وإذا تحدثنا تشاجرنا, وانتهى الحوار إلى خصام, لأن أسباب رفضي له لا تقنعها, ولأنها تحسب علي أنني وافقت في البداية ثم تراجعت عن موافقتي, وفي الحقيقة أنني لم أوافق ولم أتراجع, ولكن الأمور كانت تمضي تلقائية..
وأحيانا نتوقف ونعيد النظر في قرارات اتخذناها فإذا ما كانت هذه القرارات تتعلق بمستقبل أبنائنا حبات قلوبنا فهي أدعى لأن نتوقف وندرس ونستشير وبعد حوارات طويلة ومريرة مع ابنتي اتفقنا على أن نأخذ هدنة لبعض الوقت نراجع خلالها أنفسنا وتفاصيل الموقف ونتروى,
ثم نتخذ القرار بعد انتهاء فترة الهدنة بشروط أولها أن من حقها أن نسافر معا إلى بلد البروفسور مرة أخرى لنتعرف عليه أكثر وعن قرب ونلاحظ تعاملاته مع الآخرين, ونسأل عنه بالنظرة الجديدة كرجل مرشح للزواج منها وهي نظرة تختلف عن نظرة التلميذة للأستاذ, وبعد هذا تقرر ابنتي إما الرفض أو القبول وتكون النتيجة هذه المرة نهائية وقاطعة .. فهل أحقق لها شرطها هذا في السفر على الرغم من عدم موافقتي وتحفظي التام على هذا الارتباط ؟؟
إن رفضي لهذا الارتباط أسبابه كثيرة جدا أهمها هي الهجرة التي سوف تقدم عليها بمجرد الزواج وما يترتب عليها من آثار بعيدة وقصيرة المدى, فهي بسفرها هذا سوف تضحي براحتها ومستقبلها هنا في مصر..وحياتها كلها ووجودها معنا, فإذا حدث أي خلاف مثلما يحدث بين حديثي الزواج فسوف تجد نفسها وحيدة تماما في مهجرها بلا أهل ولا أصدقاء, وإذا رزقها الله بالأبناء فكيف تقوم بتربيتهم على مبادئ ديننا وتقاليدنا الشرقية في مجتمع غربي مفتوح؟
إن الاختلافات بيننا وبينهم كثيرة وما يباح هناك محرم هنا, وما يبثه الإعلام هناك لا يتوافق مع مثلنا وأخلاقنا.. وفوق هذا كله فإنني أخاف عليها خوف الأم التي تحب أن تطمئن على مستقبل ابنتها مع إنسان من أهلها تعرفه وتعرف طباعه عن قرب وتدرس شخصيته من خلال فترة خطبة هنا وليس في الدنيا البعيدة خاصة وقد رفضت ابنتي من قبل شباب بلدها ووافقت على هذا الغريب القادم من وراء المحيطات, والذي يكبرها بتسعة عشر عاما.. وهو فارق ليس هينا.. فكيف يلتقى الربيع والخريف؟؟ وكيف ترتبط التلميذة الصغيرة مع الأستاذ ؟ وكيف .. وكيف؟
لقد صليت كثيرا واستخرت الله وفي كل مرة كنت أرى في منامي رؤى تؤكد رفضي .. وقد استخار زوجي ربه وشعر بالراحة وهو يوافقها على هذا الارتباط .. وهي المرة الأولى التي تقتنع فيها ابنتي برأي والدها في شيء جوهري, لأنه يوافق رأيها. وقد استشرت أخوتي وكبار العائلة وكلهم يرفضون مثلي .. ولقد هداني الله في استخارتي أن اكتب لك وأستشيرك قبل انتهاء الهدنة حتى نستطيع أن نتخذ قرارا بعد استطلاع وجهة نظر محايدة.
ولكاتبة هذه الرسالة أقــــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
هيهات أن يتفهم بعض الأبناء عمق مخاوف الآباء والأمهات وهواجسهم بشأنهم, وهيهات أن يتلمسوا لهم الأعذار فيما يستشعرونه من هلع مما قد يصيبهم من التعاسة والشقاء في حياتهم, ولأن الأمر كذلك فلسوف ننحي حديث عاطفة الأبوة والأمومة جانبا, ونناقش الأمر بالمنطق الذي يفهمه هؤلاء الأبناء, وهو منطق النجاح والفشل والربح والخسارة, والسعادة والشقاء, واهتداء بهذا المنطق فإني أقول أن العنصر الوحيد الذي قد يساعد العقل على فهم مبررات هذا الزواج العابر للقارات, ليس الإقرار به أو تأييده, إنما هو الحب الطاغي القاهر الذي يتملك طرفيه وتتعمق جذوره في قلبيهما وتختبره الحوادث والتجارب والسنون فيتأكد كل منهما انه لا بديل له عن الارتباط بصاحبه..
ولو كانت كل الحقائق والشواهد والخبرات السابقة تحذر منه.. وترشحه للفشل بعد حين أكثر مما ترشحه للنجاح على المدى البعيد والتغلب على اختلاف الطباع والتقاليد والمفاهيم السائدة والموروثات الثقافية فأين هذا الحب المشبوب القهار الذي قال عنه الأديب الايرلندي الكبير انه قد يكون أحيانا ضد العقل والمصلحة وكل حقائق الحياة, وذلك في كلمته البليغة: تعرف أنك عاشق حين تبدأ في التصرف ضد مصلحتك!.
ومتى نشأ هذا الحب بين الأستاذ الأجنبي وتعملق وتمكن من الطرفين وكل منهما لم يعرف الآخر سوى لفترة قصيرة للغاية.. ولم يدرس احدهما الآخر دراسة كافية, ولم تخلق العشرة بينهما تلك التراكمات البللورية البطيئة التي تتجمع حول خيط غير منظور فتصنع منه رباطا صلبا يجمع بين قلبيهما؟
إن رسالتك خالية من أية إشارة إلى وجود هذه العاطفة المشبوبة, التي تعمي الأبصار عن أشواك الطريق ومحاذير الرحلة في الحالات المشابهة, وصداقتك العميقة مع ابنتك تسمح لك بأن تعرفي بالتأكيد ما إذا كانت قد وقعت في غرام هذا الأستاذ الأجنبي بالفعل أم أنها تقبل به فقط كما تقبل فتاة رشيدة رجلا تراه ملائما لها من كل الجوانب, وتأمل في أن يتحول قبولها النفسي له إلى حب خلال فترة الخطبة؟
إن تقديري هو أن هذه العاطفة الطاغية ليست محور تفكير ابنتك في الارتباط بهذا الأجنبي بدليل أن الأمر بالنسبة لها مازال قابلا للمناقشة والتفكير وتأجيل القرار, فإذا صح هذا الظن فإن هذا الزواج يصبح بالنسبة لابنتك على الأقل زواج صالون ويتخذ فيه القرار بعد الارتياح النفسي وفقا لتقدير المزايا الخلقية والإنسانية والاجتماعية والمادية, أما بالنسبة لهذا الأستاذ الجامعي فهو زواج عاطفة يرضى عنه العقل لأنه من مجتمع لا يعرف للزواج مبررا سوى الحب..
كما أنه مجتمع مغامر لا يهاب التجربة والمغامرة طلبا للسعادة.. ولا يعتبر الفشل في الزواج إذا حدث كارثة وليس معنى أنه زواج صالون بالنسبة لابنتك أنني أدينه لهذا السبب, لكني أتوقف فقط والأرجح إذن هو انه بالنسبة لأبنتك زواج صالون وان كان صالونا فسيحا للغاية يمتد من بيتكم حتي شواطئ المحيط الأطلنطي.!
ولأنه في زواج الصالون يكون الاحتكام للعقل هو الأنسب فلقد يكون من مغريات هذا الزواج بالنسبة لابنتك بعد التسليم بقبولها النفسي لهذا الأستاذ الأجنبي, انه يحقق لها حلم الهجرة إلى مجتمع متقدم ترى أن فرصها المهنية والعلمية والاجتماعية فيه أفضل منها في مجتمعها ـ فكأن جزءا من ترحيبها بهذا الزواج يرتبط لديها بتذليل العقبات في طريق رغبتها في الهجرة,
كما قد يرتبط أيضا برغبتها في التغيير.. والتجديد وتحريك المياه الآسنة في حياتها الهادئة بعد طول رفض لفرص الزواج المحلية وربما يرتبط كذلك بمزاج الهروب النفسي الذي يسيطر أحيانا على روح الإنسان في بعض فترات الملل ويدفعه للإبحار بعيدا عن شواطئه المألوفة.. وبعض قرارات الإنسان المصيرية قد يتحكم فيها أحيانا هذا المزاج النفسي.
فهل هذا هو الحال حقا بالنسبة لابنتك؟.. إن كل هذه المبررات والدوافع لا تصلح أساسا عادلا لزواجها من هذا الأستاذ الأجنبي .. ولا شك أنها تظلم نفسها, بل وتظلمه معها إذا كان قبولها له مرتبطا بهذه الدوافع أو ببعضها.. وكل ما أرجوه هو أن تفتشي في أعماقها عن الدوافع الحقيقية لترحيبها بهذا الزواج وأن تتخذ قرارها على ضوء ما تكشف عنه المراجعة الأمينة لرغبتها الحقيقية وأفكارها وأمنياتها الصادقة.
وفي كل الأحوال فهي مطالبة بالصدق التام مع النفس وبفهم كل الظروف والمحاذير المحيطة بمثل هذا الزواج, وبتقدير العواقب واحتمالات الفشل والنجاح فيه, والاستعانة بعقول من يرغبون بشدة في سعادتها وتجنيبها الأخطار والشقاء والعناء في اتخاذ القرار, وبالاستفادة بتجارب الآخرين مع مثل هذا الزواج في تقدير الاحتمالات المختلفة والمشاكل المتوقعة,
كما أنها مطالبة ـ قبل كل ذلك وبعده ـ بفهم دوافعك كأم في التراجع عن موافقتك السابقة عليه وهي دوافع مشروعة ومعروفة وتمثل في الخوف عليها من التعاسة والشقاء والوحدة في بلاد بعيدة ولا عجب في ذلك لأنه شر البلاد مكان لا صديق به .. على حد تعبير خالد الذكر المتنبي حتى ولو كان هذا المكان نقطة من الفردوس المفقود أو الجنة الموعودة!
-
نشرت عام 2001
-
من أرشيف جريدة الأهرام