أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

قوة الروح .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

قرأت منذ فترة رسالة لأم تحكي فيها عن حيرتها في التعامل مع طفلتها المحرومة من البصر‏,‏ وتطلب مشورة المتخصصين في ذلك‏,‏ ولقد ذهلت لما جاء بهذه الرسالة‏,‏ لأنني فتاة كفيفة‏,‏ ولدت لأم مبصرة وأب كفيف‏,‏ فأنا كفيفة بالوراثة برغم أن أبي ليس قريبا لأمي‏,‏ بل كان زميلا لها بالجامعة‏,‏ وتزوجا برغم اعتراض الأهل‏,‏ وأصرت أمي على أن تقف بجانبه‏.‏

وبالفعل حصل أبي خلال رحلته مع أمي على رسالة الدكتوراه‏,‏ واصحب أستاذا بالجامعة‏,‏ ولن أطيل فيما قامت به أمي من جهد عظيم‏,‏ خلال هذه الرحلة‏.‏

أما عني‏,‏ فقد قامت أمي بالتعامل معي بتلقائية شديدة كأي طفلة عادية‏,‏ وأصرت على أن ألتحق بحضانة للمبصرين العاديين‏,‏ برغم اعتراض إدارة الحضانة على ذلك خوفا من صعوبة التعامل معي كطفلة كفيفة‏,‏ ولكن بإصرار أمي الكبير قبلت هذه الحضانة‏,‏ وكانت بذلك أول من فكر في مصر في فكرة الدمج بين الطفل المعوق والأطفال العاديين‏,‏ ومنذ اليوم الأول لي في الحضانة اكتشفني مدرس الموسيقي‏ (‏ بابا صلاح‏)‏ رحمه الله الذي لا أنساه ما حييت‏,‏ فكنت أحيي حفلات الحضانة وقائدة الفريق والطفلة المميزة بالحضانة‏.‏

رائج :   الرسالة المعطرة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

ويكفي أنني استطعت مواجهة الناس والوقوف على المسرح أمام الجميع منذ الطفولة‏,‏ مما أعطاني الثقة  بالنفس وبقدراتي منذ الطفولة‏,‏ وبالإضافة إلى ذلك‏,‏ فقد التحقت بالكونسرفتوار فرع الإسكندرية‏,‏ وفي الوقت نفسه بمدرسة النور بمحرم بك‏,‏ وقامت أمي بمتابعتي دراسيا وموسيقيا‏,‏ برغم عدم علمها بأي شئ يخص الموسيقى وقد علمت نفسها بنفسها كيفية قراءة النوتة الموسيقية‏,‏ لكي تستطيع أن تمليني بطريقة برايل مناهجي الأكاديمية الصعبة واستمرت الرحلة حتى حصلت بحمد الله تعالى على شهادة التخرج في الكونسرفتوار وعلى ليسانس الآداب قسم اللغة العربية واللغات الشرقية‏.‏

ولم تنس أمي أبدا خلال هذه الفترة من حياتي ان تعلمني أيضا شئون المنزل من نظافة وطهو وكي للملابس وإدارة لشئون المنزل إدارة كاملة‏,‏ واختيار ملابسي حتى أنني تفوقت بفضل الله وبعون أمي على مثيلاتي من المبصرات اللاتي يخشين الوقوف أمام البوتاجاز‏,‏ ولا يعرفن كيف يقمن بإعداد طعامهن‏,‏ أو غير ذلك‏.‏

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || جبروت

وبرغم انه كان بإمكان أمي أن تستعين بمساعدات للمنزل فلقد رفضت ذلك نهائيا‏..‏ والآن أنا اشعر بأنه لا ينقصني شئ والحمد لله واستطيع إدارة شئون حياتي جيدا‏,‏ وكل هذه النعم التي أنعم الله بها علي جعلتني لا اشعر بأنني فقدت الكثير‏,‏ وأنا اعمل مدرسة وأتفوق على غيري بأن لدي شهادتين‏:‏ الليسانس من قسم اللغة العربية وشهادة الكونسرفتوار‏,‏ واعمل بهما معا‏.‏

فالإعاقة عندي ليست فقد البصر أو فقد أي عضو آخر‏,‏ ولكن الإعاقة هي عدم قدرة الإنسان على توظيف جميع  قدراته الأخرى لتسيير أمور حياته‏.‏

ونصيحتي لتلك الأم في النهاية هي‏:‏

استعيني بتجربة أمي وبتجربتي الواقعية هذه‏,‏ لتكن ابنتك مثلي قادرة علي اقتحام الحياة بكل ثقة‏,‏ فلا يقف فقد البصر حائلا بينها وبين الدنيا‏.‏
ولأمي أقول شكرا جزيلا‏,‏ والحمد لله انك أمي‏.‏

ملحوظة ‏:‏
هذه الرسالة كتبتها بنفسي على الآلة الكاتبة التي أجيدها بفضل من علموني إياها بالمدرسة وأشكرهم كثيرا‏.‏

رائج :   التجربة العارضة .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

صدقت يا آنستي في أن الإعاقة‏,‏ الحقيقية هي عجز الإنسان عن استخدام كل قدراته في تيسير حياته وتحقيق آماله‏,‏ وإسعاد نفسه‏,‏ وليست في أي شئ آخر‏,‏ فالإنسان قد يكون صحيح الجسم‏,‏ لكنه مصاب بفشل الروح الذي يجعله من المستحيل علي أي شئ أن يحركها أو يؤثر فيها أو يشعرها ببهجة الحياة‏..

والمثل الشرقي القديم يقول إن النار تتلف الخشب‏,‏ ولكنها تقوي الحديد‏..‏ أي أن الإنسان يملك أن يكون من الخشب فتتلفه نار الحياة واختباراتها‏,‏ وأن يكون حديدا تقويه نفس هذه النار وتكسبه الصلابة والقوة‏,‏ والأمر كله معقود على إرادته أولا ثم حسن الرعاية الذي يتوافر له في بيئته المحيطة به‏..‏ وقوة الروح التي تحركه‏..‏ فهنيئا لك يا آنستي روحك العالية وقدراتك المميزة ووفاءك لكل من  أعانك على أمرك وأحسن رعايتك‏.

من أرشيف جريدة الأهرام
 نشرت سنة 2001

Related Articles