من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة في الأربعين من عمري.. تزوجت من سبعة عشر عاما من طبيب من أسرة طيبة, وبعد زواجنا بفترة قصيرة سافر للعمل في إحدي الدول العربية, وسافرت معه وفي الغربة أنجبت منه ثلاث بنات, وقضينا ثلاثة عشر عاما متصلة دون أن نرجع إلي بلادنا خلالها مرة واحدة في عطلة أو في إجازة, وبعد هذه الفترة الطويلة عدنا منذ أربع سنوات.., ورجع زوجي إلي عمله السابق بمصر..
وبعد تفاقم المشاكل بيننا بسبب مرضه بالوسواس القهري والفصام انتهت حياتنا الزوجية بالطلاق وعدت إلي بيت أسرتي واستقل هو بمسكن الزوجية ومعه بناتي الثلاث وكانت كبراهن في ذلك الوقت قد بلغت الرابعة عشرة والوسطي في الثانية عشرة والصغري في الحادية عشرة..,
وبعد الانفصال حرمني زوجي السابق من رؤية بناتي.. ومنعهن من الاتصال بي وسمم أفكارهن ضدي.. فكنت أتسقط أخبارهن من بعيد وأطمئن عليهن من المدارس التي يدرسن بها.. ثم تدهورت حالته الذهنية بشدة, فانقطع عن الذهاب إلي عمله وفصل منه.. وأصبح لا يعمل ويعيش علي العائد السنوي لمدخراته في البنك.. وأكثر من هذا فلقد اعتصم بالبيت لا يغادره ليلا أو نهارا ولا يخرج منه.. ولا تخرج منه أيضا بناتي الثلاث وانقطعن عن الدراسة
.., وقام زوجي بتركيب باب إضافي من الفولاذ أمام باب شقته الخشبي.. وأصبح لايفتح لأحد.. ولا يستجيب لأي طرقات عليه ولا يرد علي التليفون أبدا, ويعتمد في حياته وحياة بناته علي الاتصال بالسوبر ماركت أول الشهر ليملي عليه قائمة بطلباته من المواد الغذائية التي تكفيه مع البنات لمدة شهر كامل,
ويحمل مندوب المحل الأشياء المطلوبة في كرتونة ضخمة أو أكثر ويتجه إلي الشقة ويضغط الجرس.. فيسأله زوجي السابق من وراء الباب المغلق عن قيمة المشتريات, ثم يفتح الباب فتحة صغيرة يمد من خلالها يده إليه بالمبلغ ويطلب منه ترك المشتريات أمام الشقة ومغادرة المكان.. وينفذ المندوب المطلوب منه وينصرف ويتأكد زوجي السابق من خلال العين السحرية من انصرافه وخلو المكان.. فيفتح الباب بحذر ويسحب المشتريات إلي الداخل ويغلقه من جديد فلا يفتح مرة أخري وتتكرر القصة بنفس تفاصيلها كل شهر..
ولا أعرف كيف تقضي بناتي أيامهن وراء هذا الباب المغلق.. ولا كيف تمضي عليهن الأسابيع دون مغادرة الشقة أو الذهاب إلي أي مكان.. ولا كيف يتقبلن حياتهن علي هذا النحو العجيب..
لقد أجري لهن زوجي السابق عملية غسيل مخ أوهمهن خلالها أنه يحميهن بهذه العزلة.. و مايحيرني حقا هو أنهن يستجبن له ولا يبدين أي تذمر أو أي رغبة في الخروج من هذا السجن.. ولقد ذهبت إلي مدارسهن وعلمت فيها أنهن قد توقفن عن الدراسة نهائيا.. وأبدت المدارس استعدادها لإعطائي شهادات تفيد ذلك وقد فشلت كل المساعي مع أهله للتدخل.. وهم يقولون إنهم لا حيلة لهم معه.. ووالده في الثمانين من عمره ولا يملك له شيئا.. لكنه يقوم بدفع فواتيره نيابة عنه ولا أعرف هل يفتح له الباب أم يتعامل معه من وراء الباب الحديدي كغيره من الغرباء, وأنا في حيرة من أمري وأخشي علي بناتي مما قد يتعرضن له من مخاطر داخل هذا السجن المغلق وأري مستقبلهن الدراسي يضيع أمامي دون أن أفعل شيئا..
وقد توجهت للشرطة والنيابة طالبة التدخل فقال لي أحد رجالها إنهم لا يملكون شيئا ضده لأن البنات تجاوزن سن حضانتي لهن وأعمارهن الآن 16 و14 و13 عاما, وقد يكون ذلك صحيحا من وجهة نظر القانون.. لكن كيف لا تملك الشرطة والنيابة شيئا لإنقاذ مستقبل هؤلاء الفتيات, ومن الذي يضمن لي سلامتهن في ظل هذه الظروف العصيبة.., إنني لا أتحدث عن حياتي الزوجية السابقة مع زوجي.. ولا عمن يتحمل مسئولية انهيارها.. وإنما أتحدث فقط عن هؤلاء البنات وأتساءل كيف يمكن تركهن هكذا للضياع دون أن يملك أحد حق التدخل لمساعدتهن ؟!
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
حالة زوجك السابق الذهنية واضحة ولا تحتاج إلي بيان.. فهو غير قادر علي رعاية بناته علي النحو السليم.. ووجودهن في حضانته مع مايعاني منه من فصام ذهني, سيلحق الضرر بهن وبمستقبلهن وشخصياتهن ورؤيتهن للحياة.. وقد يتعرضن معه داخل هذا السجن الاختياري الي مخاطر أخري لا تحمد عقباها. وبالتالي فان مصلحة هؤلاء الفتيات تقتضي نقل الولاية عليهن لمن يملك القدرة علي رعايتهن الرعاية الصحيحة وتوجيهن إلي مافيه خيرهن. وبغض النظر عن تحفظات كل منكما أنت وزوجك السابق علي الآخر..
فإن ما لا يحتمل الخلاف حوله هو ضرورة إنقاذ هؤلاء الفتيات الثلاث من هذه الحياة العجيبة التي يحتجبن فيها عن العالم الخارجي بدعوي حمايتهن من شروره, ومن واجب المجتمع بالفعل ممثلا في القضاء والشرطة أن يتدخل لحماية أفراده عند الضرورة ليس فقط من أضرار الغير بهم بل وأيضا من أضرارهم هم بأنفسهم في بعض الأحيان.
وإذا صح كل ماتروين عن انقطاع بناتك نهائيا عن الدراسة واحتجابهن عن الدنيا, وقبولهن إراديا بعدم مغادرة الشقة نهائيا بدعوي الاقتناع بخطر العالم الخارجي عليهن.. فإنك تستطيعين إقامة الدعوي أمام القضاء للمطالبة بإسقاط ولاية أبيهن عليهن لعدم أهليته وإنتقال حضانتهن إليك أو إلي من يأمن القاضي علي مصير هؤلاء الفتيات في رعايته من أهل الزوج أو أهلك.. ويكفي لإثبات إضرار الأب ببناته أن تقدمي للمحكمة شهادات المدارس التي تفيد انقطاعهن عن الدراسة بها.
وبإقامة هذه الدعوي تنتقل مسئولية إثبات أهلية والدهن لرعايتهن, إليه هو قبل أي طرف آخر.. فإما أن يمثل أمام القضاء ويثبت سلامته الذهنية وسلامة اختياراته لبناته وإما أن يرفض, فيقدم للقاضي بذلك دليلا آخر علي فقده لأهليته, ويصبح من حقه أن ينقل مسئولية رعاية هؤلاء البنات إلي من يري مصلحتهن في انتقالها إليه..
ولن يفيد غسيل المخ الذي أجراه زوجك السابق لهن ولا تسميمه لأفكارهن ضدك في ترجيح استمرار حضانته لبناته مالم يقدم الأدلة الكافية علي سلامة حالته الذهنية.. إذ أنه حتي لو رفضت بناتك الانضمام إليك, وآثرن عند التخيير استمرارهن في رعاية والدهن, فإن من واجب القاضي ألا يعتد بمثل هذه الرغبة إذا رأي في تنفيذها إضرارا بهؤلاء الفتيات أو أذي لمستقبلهن.