أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الحل الصعب ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله) 

أنا رجل في خريف العمر ‏..‏ أريد أن أرجع معك إلي البداية المبكرة فأقول لك إنني بعد حصولي علي بكالوريوس التجارة منذ سنوات بعيدة‏,‏ اصطحبني أبي إلي القاهرة لأتسلم وظيفة محترمة بإحدي شركات القطاع العام‏ ..‏

ولأنني كنت غريبا في المدينة ولست من أبنائها‏,‏ فلقد اصطحبني أبي إلي أحد أبناء بلدتي المقيمين في القاهرة وطلب منه أن يدبر لي سكنا ملائما‏,‏ وبالفعل قام الرجل الطيب بإيجاد مسكن مناسب لي قريب منه وزوده بالأثاث الضروري‏,‏ وبدأت حياتي العملية في القاهرة بمساعدته‏,‏ وكان لهذا الرجل أبناء منهم فتاة في الرابعة عشرة من عمرها‏..‏

ولم يمض وقت طويل علي وجودي بالقاهرة حتي تحولت من طفلة لا تستوقف النظر إلي وردة جميلة ويانعة‏,‏ وكانت قد مضت ثلاث سنوات علي بدء عملي فتشجعت وفاتحت أبي وأمي برغبتي في الزواج من ابنة الرجل الطيب الذي ساعدني في بداية حياتي العملية‏,‏ وسعد أبواي كثيرا برغبتي هذه‏,‏ وتزوجت هذه الفتاة بغير سابق غرام ولا قصة عاطفية ملتهبة كما نري في الأفلام‏ ..‏

وانتقلت معها إلي شقة أكبر‏,‏ واكتشفت بعد الزواج أنني قد تزوجت نبعا من الحنان والحب والعاطفة والأنوثة والرقة والأدب‏..‏ وتأخرت زوجتي في الحمل بعض الوقت فلم أشعر بالقلق‏,‏ وبعد ثلاث سنوات فاجأتني زوجتي ذات يوم بأنها حامل ودون أي علاج لتأخر الحمل‏,‏ وكما حملت زوجتي دون علاج فلقد وضعت حملها أيضا دون مساعدة من طبيب‏,‏ وجاءها المخاض فجأة وهي تؤدي أعمالها المنزلية فوضعت طفلتنا الجميلة بمساعدة جارة طيبة لنا استعانت بها‏,‏ وحمدنا الله كثيرا علي نعمته وسعدنا بابنتنا سعادة كبيرة‏,‏

رائج :   مسلسل “الاختيار” ونقاط هامة.. بعيدا عن “التسييس”

وحاولنا بعد ذلك أن ننجب لها شقيقا أو شقيقة فلم يقدر الله لنا ذلك‏,‏ ووجهنا كل رعايتنا وحبنا لقرة أعيننا الغالية‏..‏ إلي أن شبت عن الطوق وأصبحت فتاة جميلة تفيض رقة وأنوثة‏,‏ فضلا عن تفوقها الدراسي وحصولها علي بكالوريوس الصيدلة‏,‏ وعملت قرة عيني صيدلانية بالحكومة لفترة قصيرة‏,‏ ثم أصبحت صاحبة صيدلية صغيرة بالقرب من مسكننا‏,‏ وتقدم إليها شاب عرضناه علي ابنتي فلم تبد اعتراضا ولا قبولا‏ ..‏

فرحبنا به وتم الزواج بسلام‏,‏ وسعدت به ابنتي وكانت سعادتنا أنا وزوجتي أكبر وأشمل‏..‏ خاصة حين بدأ الأحفاد الأعزاء يتوافدون حتي أصبحوا أربعة ملأوا علينا الدنيا حبا وبهجة وسرورا‏,‏ واكتملت سعادتنا واشترينا سيارة كبيرة لكي تسعنا جميعا في رحلاتنا الاسبوعية إلي بلدتنا‏..‏ وبنينا في البلدة الصغيرة منزلا بسيطا وجميلا لكي يحتوينا حين نزور القرية كل اسبوع‏..‏ وحرصت علي أن أصطحب معي في هذه الزيارة الاسبوعية ابنتي وزوجها وأبناءهما فنقضي ليلة أو ليلتين في المنزل الريفي الجميل ونرجع سعداء إلي القاهرة‏,‏ ومنذ عام كنا في زيارتنا الاسبوعية لبلدتنا وكان كل شيء جميلا وبهيجا وواعدا بالسعادة‏..‏

رائج :   صائد الأحلام .. رسالة من بريد الجمعة

وابنتي تلاعب أطفالها في صالة البيت وتتعالي ضحكاتهم العالية‏..‏ فإذا بها تسقط فجأة علي الأرض فاقدة الحركة وهرولنا إليها‏..‏ وأسرع زوجها يستدعي أطباء القرية الذين حاولوا إفاقتها وعلاجها‏,‏ فإذا بي أسمع أحد هؤلاء الأطباء يقول بالانجليزية لزميل له ظنا منه أنني أجهلها‏..‏ إنها قد ماتت‏!‏ فمادت الأرض بي‏..‏ وتوالت الأحداث الحزينة بعد ذلك وحاولت زوجتي برغم حزنها الشديد وشرودها الدائم أن تملأ فراغ ابنتنا الحبيبة في حياة أبنائها وحياتنا‏,‏

وراحت ترعي الأحفاد الأربعة وتلاطفهم وتلاعبهم‏..‏ وتضاحكهم وقلبها ينفطر من الحزن‏,‏ وفي غمرة أحزاننا‏..‏ وشرودنا‏..‏ كانت زوجتي تجلس بيننا ترشف الشاي من كوب في يدها فرشفت منه رشفة ثم فجأة سقط الكوب من يدها وفاضت روحها إلي بارئها تاركة لنا حسرة علي حسرة وحزنا علي حزن‏,‏ والآن يا سيدي فإننا نجلس أنا وزوج ابنتي المتزن المحترم نحاول أن نجد لأنفسنا ولأبنائنا حلا فلا نجده‏,‏ وضاقت بنا الدنيا علي رحبها‏..‏ والله سبحانه وتعالي هو صاحب الحل والتدبير‏.‏ فماذا تقول لنا؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

لا أذكر من الذي قال هذه العبارة الموحية تعليقا علي بعض أحداث الحياة المماثلة‏:‏ إن مصاحبة أسرة من بداياتها الواعدة إلي نهايتها المحزنة‏..‏ أمر يدعو دائما إلي الألم‏!‏

رائج :   حكاية وسيلة || ج2

لكن هكذا تمضي أمور الحياة غالبا يا سيدي ولا حيلة لنا معها‏..‏ ولا مناص من القبول بها والتواؤم معها‏..‏ ولقد تذكرت وأنا أقرأ رسالتك المحزنة هذه تلك العبارة التي جاءت علي لسان إحدي شخصيات رواية السكرية لأديبنا الكبير نجيب محفوظ وتقول‏:‏

كثيرون يرون من الحكمة أن نتخذ من الموت ذريعة للتفكير في الموت‏,‏ والحق أنه يجب أن نتخذ من الموت ذريعة للتفكير في الحياة‏!‏ واستهداء بهذه العبارة‏..‏

فإني أقول لك إن عجلة الحياة لابد أن تواصل دورانها مهما اعترضها من أحزان وأشجان‏..‏ ولابد من أن تواصل هذه الأسرة حياتها بعد غياب الأم الشابة والجدة العطوف عنها‏,‏ رحمهما الله رحمة واسعة‏..‏

وقد تضطرنا تصاريف الأيام في كثير من الأحيان إلي التعالي علي الأحزان والقبول بالحلول الصعبة والمريرة‏,‏ والحل الصعب في مثل ظروفك هذه هو أن تغالب أحزانك وترشح لوالد أحفادك سيدة ملائمة له في العمر والظروف تتوافر فيها الرحمة بالأحفاد والتدين الصحيح والرغبة الصادقة في السعادة وتضميد الجراح والتقرب إلي الله سبحانه وتعالي برعاية هؤلاء الأيتام الحياري فتحتضنهم وتحتويهم وترضعهم لبان عطفها ورحمتها‏..‏

وتمضي هذه العائلة في طريقها في رعاية جد عطوف وأم بديلة رحيمة‏.‏ انه حل صعب بالفعل‏.‏ لكنه ليس كذلك بالنسبة لأصحاب النفوس الكبيرة والقلوب الحكيمة‏..‏ والأمر لله من قبل ومن بعد‏.‏

مقالات ذات صلة