أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

رائحة الحب ♥✿♥ رسالة من بريد الجمعة

آخر رسالة من بريد الجمعة حررها الأستاذ عبد الوهاب مطاوع قبل وفاته

دفعتني للكتابة إليك رسالة رائحة الورد للأم الأستاذة الجامعية التي تتحسر علي ابنتها التي بلغت السادسة والعشرين وأصبحت كالزهرة الفواحة جمالاً ورونقًا وثقافة ومركزًا .. وتتساءل هل زكمت الأنوف فلم تعد تشم رائحة الورود ، فلقد أردت أن أروي لهذه الأم الطيبة الحنون قصتي مع تمنياتي لها بأن يقر الله عينيها بسعادة ابنتها قريبًا بإذن الله،

فأنا طبيبة في التاسعة والعشرين ولدت ونشأت في احدى دول الخليج حيث كان أبواي يعملان ودرجت بين ثلاثة أشقاء اثنان منهم توأم ويكبرانني وشقيقة تصغرني ، وبين والدين هما في نظرنا كل الحب والحنان ، وقد التحق شقيقاي التوأم بالجامعة في مصر، وبعد عامين لحقت بهما أنا للدراسة بكلية الطب وبعد عامين آخرين عاد أبي وأمي لمصر والتحقت شقيقتي الصغرى بالجامعة ،

ومرت بنا السنون وتخرج الشقيقان وارتبطا بمن اختارهما قلباهما وسافر أحدهما وهو طبيب مع زوجته إلى لندن لاستكمال دراسته هناك ، وتخرجت أنا وعملت طبيبة امتياز ، ووجدتني شابة في الرابعة والعشرين من العمر .. جميلة ومثقفة ومن أسرة طيبة واجتماعية ومرحة لكني لم أرتبط بأي إنسان بعد لأن ظروف دراستي شغلتني عن التفكير في الزواج ..

ثم جاءتني زميلة لي لتخبرني بأنها تريد أن تخطيني لابن خالتها وحدثتني عنه طويلاً .. وكان رأيي أنه من الضروري أن أراه ويراني هو أولاً في لقاء عابر في مجال العمل حتى إذا تحقق القبول الشكلي ، يقوم بزيارتنا في البيت وإذا حدث العكس لم يتعرض أحد للحرج لكنه لظروف عمله في محافظة أخرى لم يتم هذا اللقاء ، وجاء هو لزيارتنا في البيت بعد فترة مع أخته وزميلتي للتعارف ،

ووجدته شابًا وسيمًا أنيقًا وتحدثنا في أمور عامة دون التطرق إلي موضوع الخطبة ، وفي اليوم التالي فجرت زميلتي في وجهي قنبلة مفاجئة حين أبلغتني أنه قد أعجب بشقيقتي ويرغب في خطبتها هي وليس في خطبتي ، وكانت شقيقتي في ذلك الحين في العشرين من عمرها وطالبة في السنة الثالثة بالجامعة ، ولك أن تتخيل ما شعرت به في تلك اللحظة ..

فلقد شعرت أنني كمن كان يسير في طريقه آمنًا وفجأة تلقي صفعة قوية دون سابق إنذار ! وعدت إلي البيت باكية .. ووقفت أمام المرآة وسألت نفسي لماذا لم أعجبه ؟ ولماذا استحققت منه هذه الصفعة لأنوثتي ، وبعد أن تمالكت نفسي وهدأت صارحت أبي وأمي وأختي بما حدث فوجم أبواي ، وثارت شقيقتي وانهالت عليه بالسخرية .. واحتضنتني وهي تقول لي لعن الله من يفرق بيننا وأصرت علي الرفض وأيدها والداي في ذلك وانتهت أولي صدماتي في هذا الموضوع.

وبعد أقل من عام تقدم شاب ممتاز لشقيقتي فرفضته بحجة أنه مازال أمامها عام دراسي آخر قبل أن تتخرج ، وكاد أبي وأمي يوافقانها علي ذلك ، لكني كنت علي يقين من أنها لا ترفضه بسبب الدراسة وإنما مراعاة منها لظروفي لأنني أكبرها بأربع سنوات ولم أتزوج ، فبذلت كل جهدي لإقناعها بقبول هذا الشاب الممتاز حتى نجحت في ذلك وتمت الخطبة بالفعل وبعد 8 شهور فقط تم الزفاف وكنت أسعد الجميع به ،

وأنهيت أنا عام الامتياز بعد أن تجاوزت الخامسة والعشرين بعدة شهور ولاحظت أن الحزن يخيم على أبي وأمي لبقائي معهما وحدي في البيت بعد أن تزوج من يكبرانني ومن تصغرني .. لكني واصلت حياتي وجاء الأحفاد ليملأوا البيت صخبًا وضجيجاً وضحكاً وحباً ، وأصبحت عمة لثلاثة أطفال وخالة لطفلة واحدة كما أصبحت أيضاً أتجاهل نظرات الإشفاق في عيون أبي وأمي وأخوتي حين أستغرق في مداعبة الصغار ، ولم يكن ذلك يعني أنه لم يتقدم لي أحد ..

وإنما فقط أنه لم يتقدم لي الشخص المناسب حتى ذلك الوقت ، وشغلت نفسي بعملي .. فعملت في عيادة طبيب أطفال كبير ودرست للماجستير ورشحني الطبيب الكبير بعد فترة للعمل في مستشفي خاص ، وهناك تعرفت بزميل لي وتقاربنا كثيراً وتقدم لخطبتي وسعد الجميع به وبي ودامت الخطبة عامًا كاملاً وبدأنا الاستعداد للزفاف ..

وعقدنا القران .. وفي الأسبوع التالي مباشرة للقران تعرض خطيبي لحادث سيارة أودي بحياته رحمه الله .. وانهرت انهيارًا كاملاً ودخلت المستشفي وأمضيت فيه شهرين حتى استعدت قواي ولملمت نفسي واستعنت بربي علي أمري وخرجت من المستشفي إلي منزل أصهاري فاستقبلني والد خطيبي الراحل بكل الحب الحزين والمواساة وقبل رأسي ودعا لي ربه .. ثم جاءت والدته فاستقبلتني بكل النفور ولم تتردد في أن تقول لي أنها لا تريد أن تراني بعد ذلك أبداً لأنني كنت شؤمًا علي ابنها الذي مات بعد عقد قراني عليه بأسبوع..

وقدرت أحزانها وغادرت بيتها مكتئبة وحزينة وعدت إلي بيتي فدخلت حجرتي واعتكفت فيها أسبوعاً لم أنقطع خلاله عن التفكير في أمري ولا عن صلاة الاستخارة لأحاول الاهتداء إلي طريقي في الحياة ، وبعد هذا الأسبوع غادرت الحجرة بقرار أبلغت به أبي وأمي وهو أنني أريد أن أسافر إلي بريطانيا لألحق بأخي الطبيب المقيم هناك وأستكمل دراستي بعيدًا عن ذكرياتي الحزينة وآلامي القديمة ،

وأيدني أخي بحرارة في ذلك واحتجت إلي جهد كبير لإقناع أبي وأمي بما أردت ، حتي تركاني أسافر وأبتعد عنهما وهما في شدة الجزع والإشفاق عليّ فسافرت وأنا في السابعة والعشرين واستقبلني أخي ورعاني كأنني طفلته ورعتني زوجته كما لو كنت طفلها الثالث وقررت أن أبدأ من جديد وأن أعتمد علي الله الذي لا يغفل ولا ينام فبدأت الدراسة والعمل علي الفور والتحقت بحلقة لتحفيظ القرآن الكريم بالمركز الإسلامي في لندن ،

والتحقت بدورة لتعليم العزف علي البيانو وشغلت نفسي بكل ذلك واستغرقت فيه ورجعت إلي طبيعتي السابقة وفي أحد أيام العمل بالمستشفي البريطاني اختلفت مع إحدى الممرضات حول أسلوب علاج أحد الأطفال المرضي فأشارت إلى الطبيب الإنجليزي الذي يرأس مجموعتنا وقالت لي أنه الذي أمر بذلك .. وجاء هو علي الصوت ووجدت نفسي في مواجهة معه وحين ثرت عليه رد عليّ بهدوء أو علي الأصح بالبرود الإنجليزي المعروف قائلاً في حسم أنه ينتظرني في مكتبه بعد قليل ، وانصرف،

وتوجهت إليه في مكتبه فقال لي أنني أخطأت بانفعالي انفعالاً زائداً في هذا الأمر كما أنني قد تدخلت في تخصصه وأخطأت بأن ناقشت أسلوب العلاج أمام الطفل وأبويه مما قد يضعف ثقتهم بنا أو بالعلاج ، وبعد أن أوضح لي أوجه خطئي اعتذر لي عما ضايقني به خلال الحديث وأنهي اللقاء وهممت بالانصراف من مكتبه فإذا به يقول لي بالعربية : مع السلامة !

فعرفت في هذه اللحظة فقط أنه مصري وأنني قد خدعت بملامحه الأوروبية فظننته إنجليزيًا وعلمت أنه مصري من أب مصري وأم بريطانية وأن شقيقته الوحيدة متزوجة كذلك من مصري ، واقترب كل منا من الآخر منذ هذه اللحظة ، وازددنا تقاربًا واقترابًا يومًا بعد يوم حتى عرفت كل شئ عنه وعن والدته الإنجليزية المسلمة وعن تربيته هو وشقيقته ،

وانفجر ينبوع الحب في قلبي وفي قلبه في وقت واحد ففاض علي الآخر وأغرقه وعدنا لمصر معاً لكي يخطبني ويتزوجني بعد أن تجاوزت الثامنة والعشرين من العمر ، ولكي يذيقني كؤوس السعادة والهناء ويغرقني في بحر حبه وحنانه ، ويعوضني عن كل آلامي السابقة إنني أكتب لك هذه الرسالة من الإسكندرية حيث نقضي أنا وزوجي الحبيب إجازة سعيدة علي أرض مصر لكي أقول له شكراً علي كل ما أعطيتني من حب وحنان وعطاء .. وأدعو الله سبحانه وتعالي أن يبقيه لي شريكًا وحبيبًا وسندًا في الحياة. .

ولكي أخاطب الأم الطيبة كاتبة رسالة رائحة الورد وأطالبها بألا تشعر بالقلق علي ابنتها لأنها قد تجاوزت السادسة والعشرين دون أن يتقدم لها الشخص المناسب ، لأن الزواج رزق ونصيب وقد كتب لها عند مولدها الزوج الذي سيشاركها حياتها فإني لم أكن لأتخيل ذات يوم أنني سوف أسافر إلي بريطانيا لكي ألتقي بمن يكمل معي مشوار الحياة كما أنه ليس المهم هو أن تتزوج الفتاة وإنما أن يكون من تتزوجه هو الاختيار السليم لها والذي يسعدها .. فلا داعي للقلق بشأن التوقيت .. والسلام عليكم ورحمة الله

رائج :   ما نذهب إليه في مصر : انتخابات بلا مرشحين!

ولكاتبة هذه الرسالة أقول (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :

البداية الحقيقية لاتجاه المشاعر العاطفية لأي إنسان هي استثارة الاهتمام به ، ولقد يتولد هذا الاهتمام بالطريقة الطبيعية أي بالتراكم الكمي للمشاعر من خلال التعامل الطويل معه كما تتجمع ذرات السكر المذاب في الماء ببطء حول الخيط المدلي في الكوب فتصنع جسما بلورياً صلبًا يصعب تفتيته ،

وقد ينشأ هذا الاهتمام في حالات أخري نادرة عن طريق الغمر الانفعالي أو الطوفان المفاجئ الذي يضع شخصًا بعينه في بؤرة اهتمامنا فنرغب في التواصل معه ومن عجب أن بعض أجمل قصص الحب والزواج السعيد في الحياة قد بدأت بهذه الطريقة غير الطبيعية وليس عن طريق الإعجاب أو الانبهار اللحظي بالطرف الآخر وإنما عن طريق الضيق به .. أو الحنق عليه والرغبة في رد الإساءة إليه !

وفي مثل هذه الحالات النادرة ينشغل المرء لفترة بالتفكير في رد الإساءة إلي من اقتحم بؤرة اهتمامه بالطريقة العكسية ثم لا يلبث بعد قليل أن يراجع نفسه ويبين أنه ليس بالسوء الذي ظنه به في البداية بل أنه لا يخلو كذلك من بعض ما يستحق الإعجاب به من أجله فيبدأ في التماس الأعذار له ثم التدبير نيابة عنه . ثم ينتهي به الأمر إلي الاقتراب منه والارتباط به !

وهذا هو ما حدث بينك وبين زوجك الطبيب الشاب الذي وجدت نفسك في مواجهة حادة معه وانتهي الصدام بينكما باكتشاف كل منكما لمزايا الآخر والاقتراب منه والوقوع في غرامه . وهي أيضاً نفس البداية لإحدى أجمل قصص الحب العذري التي خلدتها لنا كتب الأدب وهي قصة جميل وبثينة ! فلقد كانت بداية تعرفه بها صداما كهذا الصدام مع اختلاف الظروف والأزمان ولغة الحوار، وكان ميدان الموقعة في واد اسمه وادي بغيض جلس فيه جميل ذات يوم يستريح وأطلق أبله ترعي فجاءت فتاتان إحداهما طويلة وجميلة،

ومرت الفتاة الطويلة بجوار ناقة لجميل فأفزعتها وكان به ميل للاندفاع والكبرياء فسب الفتاة سبابا مقذعا.. وفوجئ بها لا تهرول من أمامه خجلي كما تفعل غيرها من الفتيات وإنما تقف في ثبات وترد عليه سبابه مضاعفا! وبدلا من أن يغضب جميل ويزداد حدة وعنفاً وجد نفسه يستطيب سباب هذه الفتاة ويعجب بجرأتها وشخصيتها وجمالها!

وبعد أيام أخري رأها في يوم عيد سافرة الوجه كعادة الفتيات في الأعياد حين كن يخرجن سافرات الوجوه عسي أن يلتقين بأزواج المستقبل فهام بها حبا وأنشد فيها أعذب الشعر وبدأت قصة الحب التي ذاعت في البادية وحتي قرنت بين اسمي الفتي والفتاة حتي صار يعرف باسم جميل بثينة وتعرف هي باسم بثينة جميل، ولولا ان تقاليد العرب في ذلك الوقت كانت تجري علي رفض أهل الفتاة مصاهرة من يشبب بإبنتهم لتزوجا وسعدا بحياتهما إلي اليوم الأخير منها ولقد استرجع جميل ذات يوم بداية قصته معها فأنشد:

وأول ما قاد المودة بيننا … بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلنا لها قولاً فجاءت بمثله … لكل كلام يا بثين جواب!

والخلاصة هي أن الإنسان لا يعرف بالفعل أين ولا متي سوف يلتقي بأقداره في الحياة.. وهل سيكون ذلك في وادي بغيض أم في المستشفي البريطاني في عاصمة الضباب؟ وهل ستكون البداية إعجابا متبادلاً أم صدامًا ونفورًا كما حدث معك .. وكما حدث في قصص أخري من قصص الحياة وهل الخير في تأخر أقدارنا عنا أم تعجلها المجئ إلينا ؟

وكل ما نملكه هو أن نحيا حياتنا علي نحو سليم .. وأن نشغل أنفسنا دائمًا بالشواغل المفيدة .. وبالسعي إلي تحقيق أهداف صغيرة نستطيع بالجد والكفاح نيلها كما فعلت أنت بعد محنتك الأليمة وسفرك إلي لندن وانشغالك بالدراسة والعمل وحفظ القرآن وتعلم البيانو لأن العقل البشري إذا خلا مما يشغله استسلم لأفكاره الحزينة وهواجسه ومخاوفه واجتر آلامه وإحباطاته واستغرق فيها والمهم دائما هو ألا نيأس من روح الله وألا نستسلم للقنوط..

وألا نسمح للمرارة بأن تفسد علينا أرواحنا وأوقاتنا ، وألا ننشغل بحظوظ الآخرين في الحياة ونعقد المقارنات بيننا وبينهم لأن لكل إنسان من حظه ما يسعد به ومن همه ما يشقيه.. وألا نقول مع الشاعر العربي متحسرين:

تقدمتني أناس كان شوطهمُ … وراء خطوي إذا أمشي علي مهل

لأننا لا نعلم عن يقين هل الخير في مشينا الوئيد هذا أم في عدوهم هم علي الطريق ؟ وهل سعدوا بما حققوه أم شقوا به؟ وهل تأخر حظوظنا هذا حرمان أبدي لنا أم هو ادخار لسعادة مؤجلة سوف تجئ في الموعد المقدور فتمحو كل الآلام وتغمرنا بكل ما نتطلع إليه من هناء فنهتف مع أديب الفرنسية الأشهر فيكتور هوجو : ما الحزن إلا مقدمة للسرور!

والإيمان بالله والثقة في رحمته .. وسلام النفس والرضا بما أتاحته لنا الحياة هو بداية الطريق دائمًا يا سيدتي إلي السعادة والأمان فشكراً لك علي رسالتك الجميلة هذه وعلي اهتمامك النبيل بمخاطبة الأم المهمومة بمستقبل ابنتها .. وأرجو لك ولزوجك الحبيب كل السعادة والأمان والتوفيق في الحياة بإذن الله.

مقالات ذات صلة