من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا شاب أبلغ من العمر 33 سنة .. نشأت في أسرة فقير تقيم في قرية بإحدى محافظات الأقاليم. وكان أبى مدرساً ابتدائيا.. وأمي سيدة ريفية بسيطة ولي 4 شقيقات وكما يعيش البسطاء عشنا.. وعانينا كثيراً من الشقاء والحرمان. وتحملت ظروف حياتي حتى نجحت في الثانوية العامة بمجموع كبير والتحقت بكلية الطب بالقاهرة.. ولم تمكني ظروفي بالإقامة فيها لعجز أبي عن تحمل تكاليفها، فكنت أسافر من قريتي فجر كل يوم إلى عاصمة المحافظة ثم أركب القطار إلى القاهرة وأذهب إلى كليتي.. وأعود منها بنفس الطريقة كل مساء.. وتحملت هذا العناء لمدة 5 سنوات..
وفى السنة السادسة من دراستي تعرفت في القطار على زميلة لي تتكبد مثلي مشقة السفر إلى الكلية فجمعت بيننا الزمالة.. والاشتراك في رحلة القطار كل يوم، وبدأ حبها يتسلل إلى قلبي حتى تملكني تماما.. وفاتحتها بحبي خلال إحدى رحلات السفر فبادلتني المشاعر، ثم جاءت الامتحانات وأديناها معاً ونجحنا وتم تعييننا كطبيبي امتياز في مستشفى واحد بعاصمة المحافظة التي كنا نركب منها القطار فأصبحنا لا نفترق..
ورحنا نحلم معا بأن يجمعنا عش واحد .. وكان لكل منا طموحه الخاص .. ولاحظت أنها تريد أن تحقق طموحاتها بأسرع مما حلمت أنا لنفسي.
وجاء اليوم الذي أستطيع أن أخطو فيه خطوتي الأولى لبناء عش الأحلام .. فحددنا موعدا.. وجاء معي أبي وأمي وشقيقاتي وقرأنا الفاتحة .. وشعرت بأني أمتلك الدنيا كلها .. وغرقت في أحساس السعادة لمدة شهرين.. ثم أفقت فجأة على فتاتي وقد بدأت معاملتها لي تتغير.. وتبدو دائما مكتئبة وضيقة الصدر ولا تشاركني أحلامي وتفاؤلي ..
وظننتها في البداية تعاني من متاعب عائلية فحاولت أن أخفف عنها وأدعوها لأن تصارحني بما يضايقها، وفى غرفة الأطباء بالمستشفى الذي نعمل به انتهزت فرصة خلو الغرفة من الزملاء وألححت عليها بالسؤال فصارحتني بصوت بارد بأن إمكانياتي المادية ضعيفة ولن تسمح لنا بالزواج قبل فترة طويلة.. ولن تسمح لها بتحقيق طموحاتها في الحياة.. وفى استكمال دراستها .. وافتتاح عيادة.. إلخ.. لهذا فمن الأوفق لكل منا أن يبحث عن مستقبله في اتجاه آخر.
فانغرست كلماتها في قلبي كخنجر حاد.. وأحسست بالعجز والهوان ومازلت اذكر حتى الآن موقفي أمامها وأنا أسمع منها هذه الكلمات وأتجرع التعاسة لمجرد أنى فقير وليس أقسى على نفسي يا سيدي من أن يشعرك من تحب بعجزك وهو أنك وأن ترى نفسك تفقده لسبب لم تختره.. وليس بيدك أن تغيره.. ورغم كل ذلك فلقد تحاملت على نفسي ..
وأردت أن أدافع عن سعادتي حتى الرمق الأخير فقلت لها بصوت مرتعش: لكني لست وحدي في هذه الظروف وإنما معظم الشباب من أمثالي ونحن صغيران والحياة أمامنا عريضة وسوف نحقق طموحنا بالصبر وبالكفاح ، فلماذا لا نصبر على ظروفنا بعض الشىء.. فسكتت زاهدة فى المناقشة.. ثم خلعت دبلتي التي اشتريتها بأول مرتب قبضته في حياتي .. ووضعتها فى صمت على المكتب المعدني الأبيض الذي نجلس عليه فتسمرت عيناي عليها مذهولا ومددت يدي إليها في صمت وتناولتها.. وتمنيت لها السعادة وانصرفت.
وعدت إلى بيتي البسيط في القرية فهلعت أمي حين رأتني .. وسألتني عما بى فشكوت لها من الإرهاق..
وكتمت الخبر أياما ثم صارحت أبي بغير أن أشير إلى السبب الذي من أجله فسخت فتاتي الخطبة.. لكنه فهم.. وتألم، وصمت طويلا ثم قال لي في حزن : “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”. فأمنت على كلامه وقلبي يعتصره الألم وبعد أيام طلبت نقلي إلى مستشفى آخر لكيلا أرى فتاتي كل يوم كما كنت أفعل طوال السنوات الماضية .. وتجرعت الإحساس بالعجز والقهر طويلا حتى ألفته وبعد أيام نقل إلي الزملاء أن فتاتي قد خطبت لشاب ذي مركز مرموق ومن أسرة كبيرة وبعد أيام أخرى عرفت من الزملاء أن عقد القران قد تم في نادي المدينة وكان حفلا مشهودا حضره وجهاء المدينة وكبارها وبدت فيه العروس سعيدة تطير فرحا بعريسها الذي سيحقق لها طموحاتها..
ولم تمض سوى أسابيع حتى عرفت أن شقة الزوجية الواسعة قد تم إعدادها على عجل .. وأن العروسين السعيدين قد انتقلا إليها بعد أن أمضيا عدة أيام في الغردقة. وتجرعت الألم وحدي وبغير أن أصارح أي إنسان بما أحس به ورضيت بقدري ووضعت هدف مساعدة أبي في تربية شقيقاتي نصب عيني .. وقلت لنفسي لعل الله أراد بشقيقاتي خيرا بفشل هذه الزيجة.. وإلا لما استطعت أن أقتطع من مرتبي الصغير ما أقدمه لأسرتي..
ومضت شهور ثم قرأت أعلانا لإحدى السفارات العربية يطلب عددا لا يتجاوز أصابع اليدين من الأطباء، فقررت أن أقدم طلبا.. وتوجهت إلى مقر القنصلية بالقاهرة في اليوم المحدد فوجدت جحافل من الأطباء يقدمون طلباتهم فكدت أعود بغير تقديم طلبي يائسا من أن أجد فرصة وسط كل هؤلاء وبينهم من هم أقدم مني بكثير، بل ومن يحملون درجات علمية أعلى من شهادتي..
ومع ذلك فقد جازفت بتقديم الطلب وعدت إلى مدينتي، ففوجئت بعد عدة أسابيع بخطاب استدعاء للقنصلية.. وبأني قد اخترت للعمل ووقعت عقدا لا بأس به.. وعدت لقريتي وأنا مذهول.. وليس في خاطري سوى أحساس واحد هو أن الله اختارني من بين هذه الجحافل رحمة لأسرتي .. وبرا بشقيقاتي .. قبل أي اعتبار آخر.
وسافرت إلى مقر عملي محملا بدعوات أمي وأبي الطيبة ومودعا بدموع شقيقاتي .. وبجرحى الغائر في قلبي وعشت تجربة الغربة لأول مرة في حياتي .. وتسلمت مرتبي فأرسلت نصفه بالتمام إلى أبي ليستعين به على أمر شقيقاتي وواظبت على ذلك بانتظام .. وشغلني العمل والغربة عن آلامي فنسيتها في زحام الحياة، وبعد عام عدت إلى بلدي ..
في أجازة خطبت أحدى قريباتي وعقدت قراني عليها وعدت إلى مقر عملي، وبعد عام آخر عدت لمصر في أجازة.. وأمضيت الأيام الأولى مستمتعا بدفء وحب أبي وأمي وشقيقاتي .. وشكرت الله كثيرا على أن أعانني على أن أعينهم على حياتهم.. وبعد أيام ذهبت إلى عاصمة المحافظة لشأن من شئوني.. فلمحت بالصدفة على نافذة الدور الأول بإحدى العمارات الجديدة لافتة تحمل اسم خطيبتي السابقة فوقفت أمامها مشدوها..
هذه أذن هي العيادة التي كانت تحلم بها وقد تحققت لها في أقل من ثلاثة أعوام .. فكيف كنت سأحققها لها.. وشقة الزوجية نفسها كانت تتطلب مالا يقل عن أربعة سنوات!.. وهممت بالانصراف فإذا بها تغادر باب العمارة مع زوجها الشاب الوسيم وطفلهما الذي يقترب من العامين.. ورأيتهما يركبان السيارة ويداعبان طفلهما ويضحكان بسعادة!
وانصرفت إلى شأني .. لكنى وجدت نفسي أعود إلى المدينة بعد يومين وأحوم حول العيادة.. وأفكر في الصعود إليها ومقابلتها .. وقلت لنفسي لم لا ألم نكن زميلين لعدة سنوات، وتجرأت ودخلت العيادة وقابلتها فرحبت بى .. وتحدثنا عن أيام الكلية، وطلبت منى أن أزورها كثيرا خلال وجودي في مصر.
فغادرتها وقد أحسست بحبي لها يتجدد مرة أخرى.. وعدت إليها بعد يومين ، وتكرر نفس الحديث وعرفت خلاله كل شىء عنى. وفى المرة الثالثة صارحتني بأنها غير سعيدة مع زوجها لأنه يقف فى طريق طموحها ويرفض السماح لها بالسفر إلى البلد الذي أعمل به والذي جاءتها فرصة طيبة للعمل فيه بحجة أنهم في غير حاجة إلى الاغتراب وانه لا يستطيع أن يترك عمله ويرافقها.. وأنها لهذا السبب ولأسباب أخرى في طريقها للانفصال عنه!
وجدت نفسي حائرا معها أصدقها .. وأكذبها في نفس الوقت، وفى هذه الفترة وقعت مشاكل بيني وبين قريبتي التي عقدت قراني عليها فطلقتها، وتوفى أبى رحمه الله، وحان موعد عودتي إلى عملي فسافرت.. وتعرضت فى غربتي لمشاكل كثيرة بسبب عدم تركيزي فى عملي وشرودي.
وبعد فترة عدت إلى بلدي .. وذهبت إليها في عيادتها. والتقيت بها فعرفت أنها تقيم مع أهلها.. وأنها تعمدت أثارة المشاكل بينها وبين زوجها ليطلقها لكنه يرفض حرصا على طفله ويتمسك بالصبر عليها عسى أن تعود إلى رشدها، ثم أبلغتني بعد فترة قصيرة أنه يمكن أن يطلقها إذا قبلت أن تترك له حضانة طفلها.. وأنها قررت أن تتركه له.. وأن (نسافر معا) كزوجين فتعمل بعقدها الكبير.. ونبدأ معا حياة جديدة قائمة على الحب الذي افتقدته مع زوجها!
ولم أستطع أن أجيبها بنعم أو بلا.. وأصبحت أعيش في دوامة .. أريدها .. ولا أريدها فى نفس الوقت.. أحس بأن الدنيا قد جمعتني بها من جديد.. وأشعر بأن الطريقة غير إنسانية ، أحبها .. وأخاف منها.. أصدقها.. وأكذبها.. وفى لحظات كثيرة تتراءى لي صورة الأسرة الصغيرة التي رأيتها لأول مرة للأب والأم والطفل السعيد وهما يدعبانه ويضحكان معه فى سعادة.. وأتخيل أني قد قضيت على سعادة هذه الأسرة الصغيرة.. فيجفوني النوم.. فأرشدني يا سيدي إلى الطريق الصحيح، هل استمر معها في خطوات هذا المشروع، أم أتوقف..؟ فلقد عجزت عن التفكير السليم.. وأحتاج لمن يفكر معي؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :
للفيلسوف الفرنسي (جوبير) كلمة عميقة المعنى يقول فيها : ( أغمض عينيك .. تبصر!) يقصد بذلك أن الإنسان إذا عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية.. وفكر بعمق في هدوء فيما يشغله.. واستشف أحاسيسه الحقيقية الكامنة فى الأعماق.. فإنه سوف (يبصر) مالا قد تراه عيناه المفتوحتان أحيانا.. ويرى حقيقة الأمر الذي اختلطت عليه الرؤى فيه..
وأنت في حاجة إلى أن تغمض عينيك على طريقة هذا الفيلسوف لكي ترى نفسك في وضع لا تراه لها وتأباه عليك قيمك وأخلاقك ولا يتفق أبدا مع برك بأهلك ولا مع جذورك الريفية، فأنت يا صديقي تساق بغير وعى منك لأن تكون سببا مباشرا لهدم أسرة صغيرة وحرمان طفل فى الثالثة من رعاية أمه، مع أنك في الحقيقة لست السبب المباشر بهذه الكارثة.. أما السبب الحقيقي فهو طموح هذه السيدة الضاري .. الذي أنهى ذات يوم قصة حب واعدة بلا مبرر والذي يهدد طفلا صغيرا بالتمزق بين أبويه.. لسبب دنيوي حقير وهو العمل في الخارج.
إنه نفس الصوت البارد ونفس الطموح القديم يطل مرة أخرى يا صديقي.. وليس الحب الأول.. ولا نداء العاطفة التي استيقظت فجأة.. ولعلك تستشعر هذه الحقيقة فى أعماقك.. لهذا فأنت لم تسعد بقرارها بالزواج منك والسفر معك وإنما شقيت به ولهذا سقطت في بحر الحيرة بين استبشاعك الداخلي لتضحيتها بطفلها الوحيد بهذه البساطة.. وبين رغبتك فيها وبين استنكارك الباطني لسلوكها وهى ترتب معك مشروع زواجكما وهى في عصمة رجل آخر.. وبين ضعفك تجاهها.
ولهذا أيضا فأنت تريدها.. وتخشاها في نفس الوقت على نفسك وعلى حياتك ولك كل العذر في ذلك فلا شك أنها قد أحيت فى ذاكرتك ما شقيت به وما همست به لنفسك طويلا على أنها لابد قد بدأت مشروعها مع زوجها الحالي وهى مازالت مرتبطة بك، بدليل زواجها الخاطف بعد أسابيع من فسخ خطبتك لها.
ولا شك أيضا أنك تقول لنفسك أن من تضحى بطفلها الصغير بغير أن تطرف لها عين يسهل عليها بأن تضحى بأي إنسان في الوجود إذا أعترض طريقها أو تقلبت أهواؤها وغيرها من الأمهات من تقاتلن من أجل الاحتفاظ بحضانة أطفالهن ولو تحملن في سبيل ذلك الهوان!
فاحسم أمرك يا صديقي .. ودعها لحياتها وطموحاتها فلعلها تتوصل مع زوجها إلى حل وسط يحفظ عليه أسرته.. ويحقق لها بعض طموحها بغير أن يكون طفلها هو الضحية.. أو فلتبحث عنه فى اتجاه آخر بعيدا عنك لتنأى أنت بنفسك عن مؤثراتها.. وتتفتح خلاياك لعاطفة جديدة غير ممتزجة بالمرارة ولا بالمخاوف والهواجس..
فمثلك لن ينسى جرحه الغائر منها ولن تصور غير ذلك ومثلك لن يستشعر الأمان والسكينة في جوار زوجة غدرت برجلين هو أحدهما فى بضع سنين ولأسباب مادية بحتة!
وأحتفظ بوفائك لمن تستحقه.. فليس أضيع من وفاء نقدمه على طبق من فضة لمن لا وفاء له.
وأحسم أمرك سريعا.. فاستمراره لا يعنى بالنسبة لك سوى المعاناة واضطراب الحياة.. فالرجال كما جاء في (كلية ودمنة) ثلاثة: حازم وأحزم وعاجز!
أما الحازم فهو من لا يهتز إذا نزل به البلاء.. فلا يقصر فى دفعه عن نفسه وأما الأحزم فهو من يتنبه للأمر قبل وقوعه فيحسم الداء قبل أن يبتلى به، وأما العاجز فهو من لا يزال فى التردد وتمنى الأماني حتى يهلك نفسه!
فأدفع هذا البلاء عنك قبل وقوعه.. وانج بنفسك من تردد العاجز وحيرته.. والسلام.
نشرت عام 1990
من أرشيف جريدة الأهرام