قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || يوم من عمري

يوم لن أنساه أبدًا..
يوم من عمري، يختلف عن أي يوم آخر..
يوم بدأ كأي يوم عادي..
وانتهي كما لم ينته أي يوم آخر..
أو ربما لم ينته بعد..

لست أدري..
حقًا لست أدري..
ولا تندهشوا من كلماتي هذه..
اسمعوا القصة أوّلا، ثم اندهشوا..
قصة يوم واحد..
من عمري ..

كان يوما من أيام الصيف، التي اشتدّت فيها الحرارة، إلي حد خانق، وما استتبعه هذا من توتر وعصبية وضيق صدر، لدى العديد ممن يعملون معي، في قسم التاريخ، بكلية آداب القاهرة..

ولقد انهمكت يومها في مراجعة بعض الأبحاث التاريخية، لفترة ما قبل حركة يوليو 1952م، وقمت بتشغيل مكيّف الهواء، خافضا درجة حرارته إلي الحد الأدنى؛ لعل هذا يخفّف قليلا من حرارة الجو..

وعلي الرغم من تعليماتي المشدّدة، دخلت سكرتيرتي إلي المكتب، وهي تشير بيدها، قائلة في توتر، لم أنتبه إليه للوهلة الأولى:
– الرجل عاد مرة أخرى يا دكتور (مصطفى).
رمقت عينيّ إليها، متسائلا في حيرة، امتزجت بالكثير من الضيق:
– أي رجل؟!

عندئذ فقط انتبهت إلي توترها، وهي تجيب:
– الرجل الذي أخبرتك عنه، عندما وصلت إلي المكتب.. ما زال هنا، ويصرّ علي أن يقابلك؛ لأمر يصفه بأنه عاجل للغاية..
لم أكن أذكر أنها قد حدثتني عن أي رجل، إلا أنني تصوّرت أنها قد أخبرتني، وأنا شارد مع أفكاري، فغمغمت في ضيق:
– ولكنك تعلمين كم أنا منشغل، و..

قاطعني في عصبية، لم أعتدها منها أبدا:
– إنه شديد الإلحاح.
وقبل أن أقول شيئا، أردفت في بؤس:
– ثم أنه يخيفني كثيرا.

كلماتها مست زر الفضول في أعماقي، فحّدقت فيها لحظات في شيء من الدهشة، قبل أن أقول، متراجعا بمقعدي:
– فليكن يا نورا.. سأقابله.
بدا عليها ارتياح عجيب، وغادرت المكتب، ومضت ثوان من السكون، قبل أن يدلف ذلك الرجل إلي مكتبي..

ومع النظرة الأولي، أدركت لماذا يخيفها..
الرجل كان فارع الطول، إلي حد يثير الدهشة، شاحب الوجه، إلي درجة تثير الانتباه، جامد القسمات، إلي حد الخوف..
الخوف الذي ينقله إليك، بمجرّد النظر إلي وجهه..

ولكن المثير أكثر، أنه كان يرتدي معطفا شتويًا..
ظلّلت أحدّق فيه لحظات، في حين انسحبت (نورا)، وأغلقت الباب خلفها، وكأنها تصنع حاجزا، بينها وبين ذلك الزائر المخيف، صاحب الشارب الضخم..

وفي صعوبة، انتزعت نفسي من توتري، وأنا أسأله:
– لماذا تصرّ علي مقابلتي يا سيدّي؟!
أشار بيده، قائلا في شحوب، ينافس وجهه علي نحو عجيب:
– (مراد).. (مراد باشا المصري).

تراجعت في مقعدي، مغمغما في دهشة:
– باشا؟!
هزّ كتفيه، قائلا في شحوب:
– يمكنك أن تعتبره اسما.

صمت لحظات، ثم أشرت إليه بيدي مرة أخرى، قائلا في لهجة، حاولت أن أجعلها هادئة واثقة:
– لم تخبرني بعد ماذا تريد مني.
اقترب مني، وهو يقول:
– أطروحتك الأخيرة، بها خطأ تاريخي رهيب.

تساءلت في تلقائية:
– حقا؟!
دعا نفسه للجلوس، علي المقعد المواجه لمكتبي، وهو يكمل:
– تحدّثت عن (أكرم) باشا، باعتباره كان أحد من ساهموا في احتلال الإنجليز لمصر.

أدهشني معرفته بهذا البحث التاريخي شديد التعقيد، واستفزّت عبارته سمعتي العلمية، فملت نحوه، قائلا في صرامة:
– هل تعلم كم بذلت من جهد، حتى توّصلت إلي هذه المعلومة.. لم يكن هناك من يعلم شيئا عن (أكرم) باشا، أو دوره السري في التعاون مع الاحتلال الإنجليزي، حتى كشفت أنا عن هذا الأمر.

بدت علي وجهه الشاحب ابتسامة شبه ساخرة، وهو يقول:
– وماذا كشفت؟!
بدا الأمر أشبه بتحد علمي، فقلت بلهجة تناسب هذا:
– كنت أراجع بعض الصور القديمة، التي حصلت عليها، من متجر صغير، في منطقة سور الأزبكية، عندما عثرت علي صورة له، مع قائد الحملة البريطانية، التي احتلت مصر، عام 1882م.. ولقد قضيت ما يقرب من عامين، في البحث عن اسم وهوية صاحب الصورة، حتى علمت من هو.. وبحسبة بسيطة، أمكنني فهم الأمر كله.

مطّ شفتيه، وهو يقول:
– صورة.. مجرّد صورة!!
ثم مال نحوي بدوره، مضيفا في صرامة:
– هل يبدو لك هذا أسلوبا علميا بحثيا سليما؟!

انعقد حاجباي في غضب، وأنا أقول:
– التاريخ ليس وجبة سهلة يا هذا.
قاطعنى في صرامة:
– اسمي (مراد باشا).

ابتسمت في عصبية، وأنا أكمل:
– فليكن.. إنه ليس وجبة سهلة الهضم يا مراد.. باشا.. التاريخ لا يمنحنا كل ما نريد دوما، بكل التفاصيل التي ننشدها.. الأبحاث التي قمت بها، أرشدتني إلي أن (أكرم) باشا كان يرتبط بعلاقات قوية مع قوات الاحتلال الإنجليزية، وكان أحد المدعويين في حفلاتهم الخاصة.. بل إنه أقام بعض تلك الحفلات علي نفقته الخاصة.. فكيف يبدو لك هذا.

أشار بيده، قائلا:
– هناك أكثر من تفسير، ولكنك اخترت منها ما يناسب ما تريد أن تتوّصل إليه.
تراجعت محدّقا فيه في غضب، قبل أن أقول في صرامة، تسلّل إليها شيء من الحدّة:
– لم تخبرني بعد بمستوى درجتك العلمية.

صمت لحظات، ثم قال في صرامة:
– صدقني، ما لدي من معلومات، يفوق ما لديك بكثير..
عاد إلي صمته لحظة أخرى، قبل أن يضيف:
– بالنسبة لهذه الفترة التاريخية علي الأقل.

سألته في حدة:
– من أي منطلق؟!
أجابني في حزم:
– من منطلق لن يمكنك استيعابه.. أبدا.

ثم عادت تلك الابتسامة الساخرة إلي شفتيه، وهو يتابع:
– وفقا لمستواك العلمي.
بدت لي عبارته الأخيرة مستفزة للغاية، فنهضت معلنا انتهاء المقابلة، وأنا أقول في صرامة غاضبة:
– هات أدلتك التاريخية، وربما.. أقول ربما أعيد النظر بعدها في أمر (أكرم) باشا..

لم ينهض بدوره، كرد فعل لنهوضي، وإنما ظل جالسا، وهو يقول في حزم:
– (أكرم) باشا كان بطلا.
قلت ساخرا:
– ليس إلي هذا الحد.

تابع، وكأنه لم يسمعني:
– عندما احتل الإنجليز مصر، أدرك (أكرم) باشا أن مقاومتهم لن تكون بالسهلة أو البسيطة؛ لذا فقد قرّر أن يقاومهم بأسلوب جديد، رأي بعبقريته، أنه أفضل سلاح لمواجهتهم.
وعلى الرغم من غضبي، دفعني الفضول العلمي إلي سؤاله:
– أي سلاح هذا؟!

أجابني في حزم:
– المعلومات.
جذبت إجابته انتباهي في شدة، فعدت إلي الجلوس، دون أن أنتبه، وأنا أكرّر:
– المعلومات؟!

تابع، دون أن يبالي بتعليقي:
– ما هي أفضل وسيلة؛ لتحصل علي معلومات عن عدوّك؟! إنها أن تقترب منه، وتكتسب ثقته.. وتصادقه أيضا.
ثم التفت نحوي في هدوء، مضيفا:
– وهذا ما فعله (أكرم) باشا.

غمغمت في انبهار علمي:
– ولكن شيئا من هذا لم يذكره التاريخ.
أجاب في سرعة وحزم:
– لأنه أجاد دوره.. ولأنه لم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل يسعى خلف هدف واحد كبير.
واكتسب صوته نبرة اعتزاز كبيرة، وهو يضيف:
– مصر.

شعرت برجفة في أوصالي، عندما نطق اسم مصر، في حين نهض هو في هدوء، والتقط كتابا من مكتبتي، وضعه أمامي، وهو يقول:
– راجع أبحاثك حول (أكرم) باشا.. الرجل يستحق ما هو أفضل مما فعلت.
ثم وضع يده علي كتفي، مضيفا في حزم:
– هذا حقه.

مع قوله، شعرت بحالة عجيبة، لم أشعر بها في حياتي من قبل..
شعرت وكأن طاقة هائلة قد عبرت جسدي كله، قبل أن تندفع كلها نحو رأسي، ثم تتفجّر في مخي بعنف..
ودار رأسي في قوة، حتى شعرت وكأنني لا أستطيع حمله فوق كتفي، فتهاوى إلي الأمام، وشعرت بألم ارتطامه بسطح مكتبي، و..

“دكتور (وصفي)”..
التقطت أذاني في صعوبة صوت سكرتيرتي (نورا)، فانتزعت نفسي من تلك الدوّامة العقلية، ورفعت رأسي في تهالك، وأنا أقول:
– ماذا هناك؟!
بدا صوتها قلقلا، وهي تقول:
– أنت نائم منذ خمس ساعات.

خمس ساعات؟!
لوهلة، لم أفهم هذا أو أستوعبه!!
كل ما أذكره هو ارتطام رأسي بسطح المكتب..
ولكنني كنت أشعر أن هذا كان منذ لحظة واحدة !!
يمكن أن أكون قد فقدت الوعي..

“هل انصرف ذلك الرجل؟!”.
ألقيت السؤال علي (نورا)، وأنا أحاول استعادة توازني، فبدت عليها الدهشة، وهي تسأل:
– أي رجل؟!
أجبتها في تهالك، لم أدر له سببا:
– الرجل ذو المعطف الشتوي.. الرجل الشاحب، الذي أخافك.

لم أسمع جوابها، فرفعت عينيّ إليها، وأدهشتني تلك النظرة المذعورة في عينيها، قبل أن تقول في توتر:
– سأعد لك قدحا من القهوة؛ لتمحي من رأسك أثر هذا الكابوس.
كابوس؟!
أي قول هذا؟!
ماذا تعني (نورا)؟!

“ألم يقم رجل بهذا الوصف بزيارتي، منذ.. منذ خمس ساعات؟!”.
ألقيت عليها السؤال في اضطراب، فاتسعت عيناها في ذعر أكثر، ثم هزّت رأسها مكرّرة:
– سأعد قدح القهوة.

قالتها وانصرفت، تاركة إياي في دهشة، تكاد تبلغ حد الذهول!!
هل كان كابوس حقا؟!
ألم يزرني ذلك الشاحب فعليا؟!
لم يستطع عقلي المجهد إجابة تساؤلاتي، فتراجعت في مقعدي، وأنا أشعر بصداع غير طبيعي، و…

وفجأة، تسمّرت عيناي على كتاب فوق سطح مكتبي..
نفس الكتاب، الذي سحبه ذلك الزائر، ووضعه حيث أراه..
لو أن هذا لم يكن حقا مجّرد كابوس..

حدّقت في الكتاب لحظات، قبل أن انتبه إلي أنه كتابي..
نفس الكتاب، الذي تحدّثت فيه عن (أكرم) باشا، وأضفت إليه بعض صوره، التي بذلت جهدًا خرافيًا لجمعها..

وفي تردّد لم أفهم له سببًا، التقطت الكتاب، وفتحته عند ملزمة الصور..
ثم اتسعت عيناي عن آخرهما، حتى تصوّرت أنهما سيلتهمان وجهي كله..
فمن بين الصور، التي تحويها الملزمة، توقفت عيناي المذعورتين عند صورة واحدة..

صور لأكرم باشا، وهو يقف إلي جوار القائد الإنجليزي، وخلفه، علي مسافة قريبة، يقف رجل آخر..
رجل فارع الطول، شاحب الوجه، له شارب ضخم، ويرتدي معطفا شتويا..
تراجعت كالمصعوق، وانطلق عقلي ملتهبا، يطرح عشرات الأسئلة..
هل كان بالفعل كابوسا؟!

وإن لم يكن كذلك، فكيف يمكن أن ألتقى، في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، برجل كان يحيا، بنفس هيئته، في العقد العاشر، من القرن التاسع عشر؟!
كيف يمكنه حتى أن يصل إلي هنا؟!
كيف؟!
وكيف؟!
وكيف؟!
أسئلة بلا حصر، ألهبت مخي، والتهمت أعصابي، ولكنها فجّرت في أعماقي هدفًا جديدًا مدهشًا..

لا بد وأن أعيد دراسة تاريخ (أكرم) باشا..
من أجل الحقيقة، التي أتصوّر أنني لن أتوّصل إليها كاملة أبدًا..
لأن الحقيقة لن تشمل (أكرم) باشا وحده..

بل (مراد باشا) أيضا..
(مراد باشا) الشاحب..
الغامض..
المخيف..
للغاية.

رائج :   ما هي المدة القصوى التي ستصفق فيها لشخص ما مهما بلغ شأنه؟

Related Articles