فتح مكة كان فتحاً عظيماً على المسلمين .. الآن صار للمسلمين دولة و صار الحرم بهيبته فى نطاق نفوذها .. لم يبق سوى بعض القبائل التى رفضت أن تدخل فى الإسلام فكانت غزوة حنين و حصار الطائف و كلما مر الوقت صارت شوكة الإسلام أقوى ..
فى أحد الأيام وصلت الأخبار إلى رسول الله ﷺ من بعض التجار الذين يأتون من الشام أن الروم قد جمعوا آلافاً من المقاتلين و انضم لهم نصارى العرب من لخم و جذام و غيرهم بغرض الإغارة على المدينة .. هم كانوا أدرى الناس بأمر الرسول الخاتم و كانوا على علم بما سيتبعه أمر النبوة من إنتشار لهذا الدين .. فلما سمع رسول الله ﷺ ما سمع قرر أن يغزوهم قبل أن يغزوا المسلمين حماية لهم و للمدينة فكانت غزوة تبوك..
غزوة تبوك
على عكس غالبية غزوات الرسول فقد أعلن ﷺ عن وجهة الغزوة و عن إسم العدو بل و نادى بين الناس بالجهاد و نزلت الآيات فى فضل الجهاد و حسن ثواب المجاهدين فتجمع للمسلمين جيشاً قدر بثلاثين ألفاً تلبية لنداء رسول الله ﷺ ..
تلك الغزوة تحديداً واجهت من الصعوبات ما لم تواجهه أى غزوة أخرى حيث كان الجو شديد الحرارة و عانى المسلمون فيها من قلة الموارد المالية و بُعد المسافة بين المدينة و تبوك كون المسلمين الآن أصبحوا فى وضع المبادر بالهجوم ..
أصبح الآن لزاماً تجهيز هذا العدد من الناس قبل خروجهم من المدينة كون خط سير الجيش طويل للغاية و يمر عبر صحراء جرداء .. يكفى أن تعلم أن المسافة بين المدينة و تبوك تقدر حالياً بحوالى 800 ميل من الأراضى الممهدة فكيف بحجم المشقة وقتها .. أُطلق على ذلك الجيش جيش العسرة من كثرة المصاعب التى واجهها و برغم تلك المصاعب إلا أن الإسلام كان له رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
قام رسول الله فى المسجد يحث الناس على الصدقات و دعم الجيش مع وعدهم بالأجر العظيم فما أن سمع عثمان بن عفان حديث رسول الله – و كان غنياً رضى الله عنه – إلا و قال :
( يا رسول الله .. على مائة بعير بأحلاسها و أقتابها فى سبيل الله )
استمر رسول الله فى الحث على الإنفاق فقام عثمان مرة أخرى و قال :
( يا رسول الله .. على مائتا بعير بأحلاسها و أقتابها فى سبيل الله )
استمر رسول الله فى حديثه فقام عثمان مرة ثالثة و قال :
( يا رسول الله .. على ثلاثمائة بعير بأحلاسها و أقتابها فى سبيل الله )
فنزل رسول الله من المنبر و هو يقول :
( ما على عثمان ما عمل بعد هذه )
و يقال أيضاً أنه بعد تجهيز الجيش جاء عثمان رضى الله عنه بألف دينار فى ثوبه و وضعها بين يدى رسول الله لإستكمال تجهيز الجيش أما عمر لما سمع حديث رسول الله تهلل وجهه كون ذلك الوقت وافق مالاً فى بيته و قال فى نفسه :
( اليوم أسبق أبا بكر )
و كان عمر رضى الله عنه ما حاول سباق أبى بكر فى خير إلا و سبقه فعدها فرصة مواتية لكى يسبقه و لو مرة فذهب إلى بيته و أحضر نصف ماله و ذهب و وضعها مبتهجاً فى يد رسول الله ﷺ فسأله :
( ما أبقيت لأهلك ؟ )
فقال :
( أبقيت لهم مثله )
و بينما هم يتحادثان دخل عليهم أبا بكر الصديق يحمل مالاً و وضعه فى يد رسول الله ﷺ فسأله :
( ما أبقيت لأهلك ؟ )
فقال :
( أبقيت لهم الله و رسوله )
فقال عمر :
( لا أسابقك إلى شيىء أبداً )
بعد ان انتهى النبى ﷺ من تجهيز الجيش سار به إلى تبوك و ما أن وصل حتى عسكر الجنود فى إنتظار الروم الذين انسحبوا مقررين عدم الإشتباك مع المسلمين و هذا الإنسحاب أعلى من شأن المسلمين بشكل كبير حيث اتضح للعرب وقتها أن الإسلام صار ديناً يجمعهم و يرفع شأنهم بين الأمم و ازدادت ثقتهم فى أنفسهم حيث كانوا ينظرون إلى الروم على أنهم أعلى منهم قوة و تسليحاً
كانت غزوة تبوك دليلاً موثقاً لما يستطيع المسلمون فعله فى المستقبل و هو ما أسفر عن توافد القبائل العربية على النبى ﷺ لمبايعته حتى سمى العام التاسع للهجرة عام الوفود من كثرتها .. أشهر قليلة ستمر قبل أن ينوى رسول الله ﷺ الحج .. حجة كانت هى الوحيدة التى قام بها ﷺ من المدينة و سميت بعد ذلك بحجة الوداع .. لقد دنا أجل رسول الله ﷺ ..
أول ما علم به النبى من إقتراب أجله ما تنزل عليه من سورة النصر ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) و نزلت وقت فتح مكة ثم اتضح الأمر أكثر فى حجة الوداع حينما نزلت الآية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) ثم تأكد الأمر لمّا استطاع الخروج لأصحابه رضوان الله عليهم بعد مرضه فجلس على المنبر و كان عاصباً رأسه الشريفة و قال لهم :
( عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا و بين ما عنده فاختار ما عنده )
فتأكد الخبر فى نفس أبى بكر و جلس يبكى .. بعدها اشتدت الحمى على رسول الله ﷺ حتى جاء يوم وفاته الثانى عشر من شهر ربيع الأول عام 11 هجرياً فخرج إلى الناس و هم يصلون الصبح فاستبشروا بشفائه و لكن الحمى زادت عليه مرة أخرى فرجع إلى بيت السيدة عائشة فاستلقى فى حجرها حتى فاضت روحه إلى بارئها و هو يقول :
( بل الرفيق الأعلى من الجنة )
سرت الأخبار بين الناس فاضطربوا اضطراباً شديداً و لم يصدقوا الخبر فتجمعوا أمام بيته ﷺ ينظرون ما يجرى و كان من بين الناس عمر الذى و ما أن سمع الخبر حتى سارع إلى بيت رسول الله ﷺ و قد انتشر الحديث بينهم عن وفاة النبى فصاح فيهم و قد ثارت ثورته :
( و الله ما مات رسول الله .. و ليبعثنه الله فليقطعن أيدى رجال و أرجلهم يزعمون أنه مات .. ما أرى إلا رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفى .. إن رسول الله ما مات لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات )
فى الحقيقة عمر لم يكن يصدق فعلاً أن رسول الله قد مات و قد أخبر ذلك بنفسه لاحقاً عندما قال :
( و الله ما كان يقع فى نفسى إلا ذاك )
أى أنه كان يهدد الناس بالسيف إعتقاداً منه أن رسول الله حى لا رغبه منه فى عدم تصديق الخبر و قد استمر تهديده لهم و الناس بين مصدق و مكذب متمنين أن يكون كلام عمر صحيحاً فلم يفصل بينهم إلا مجىء أبا بكر الصديق الذى نزل من على دابته و دخل إلى بيت رسول الله فكشف عن وجهه الشريف و تأكد من وفاته ﷺ فجثى على ركبتيه يقبله و يبكى ثم تمالك نفسه و خرج إلى الناس فى المسجد و إذا بعمر لا يزال يصيح بالناس و ينهاهم عن ذكر أن النبى قد مات و يحلف لهم بالله أنه حى فقال له :
( أيها الحالف .. على رسلك )
فانتبه الناس إلى أبا بكر و إذا بهم جميعاً واجمون فنظر فى وجوههم ثم بدأ الحديث فحمد الله و أثنى عليه ثم بدأ فى قراءة الآيات من سورة آل عمران :
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ )
ثم أكمل :
( ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت )
فلما سمع عمر حديث أبا بكر تأكد له أن رسول الله ﷺ قد توفى حقاً فلم تحمله قدماه فوقع على ركبتيه و هو يبكى ..
بوفاة رسول الله ﷺ دخل الإسلام منعطفاً خطيراً حيث أن النبى لم يسمى خليفه له على أمر المسلمين و هو ما دفع الناس إلى الإنقسام فى الرأى فكل جماعة رأت أن يكون الأمير من بينها فها هم الأنصار قد إجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة خليفة من بعد رسول الله ..
و ها هم بعض المهاجرين رغبوا بأن يكون الخليفة هو على بن أبى طالب و ها هو أبو بكر الصديق يدفع الأمر إلى عمر بن الخطاب أو أبو عبيدة بن الجراح كونهما أحق منه من وجهة نظره و كادت أن تحدث الفتنة بين المسلمين لولا أن الله سبحانه و تعالى أجرى الحق على لسان عمر و الذى ساهم بحديثه فى إتقاء فتنة كادت تصيب الإسلام فى مقتل و ينفرط معها عقد الإسلام و المسلمين ..
لما بلغ عمر ما ينويه الأنصار أسرع إلى أبا بكر ليبلغه بالأمر فخرجوا مسرعين إليهم و قد إنضم إليهم أبو عبيدة بن الجراح فلما دخلوا عليهم قال أبو بكر :
( ما هذا ؟ )
فأجابوه :
( منا أمير و منكم أمير )
فقال :
( منا الأمراء و منكم الوزراء )
ثم عرض عليهم أن يختاروا بين أحد صاحبيه عمر أو أبو عبيدة قائلاً :
( لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين )
فاعترض أحد الأنصار راغباً فى تولية أميران واحد من المهاجرين و واحد من الأنصار فتعالت الأصوات و اختلفوا فيما بينهم حتى وقف عمر بينهم و قطع حديثهم قائلاً :
( أيها الناس .. أيكم يطيب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبى ﷺ ” يقصد أبا بكر ” )
فصمت الناس جميعاً حتى قطع عمر صمتهم مرة أخرى و قد نظر إلى أبو بكر قائلاً :
( أبسط يدك أبايعك )
فبايعه عمر ثم تلاه الناس جميعاً .. كان لعمر الدور الأكبر فى تثبيت أركان الدولة الإسلامية و وقايتها من الفتنة بالإضافة لمساعدة أبو بكر فى إعانته على أمور الحكم حيث كان مستشاره الأول فى كل ما يخص أمور الدولة الإسلامية ..
- دولة الإسلام ستواجهه ثانى تحدياتها قريباً ..
- الجزيرة العربية سترتد بعد وفاة رسول الله ﷺ ..
- عمر سيكون شاهداً على حروب الردة ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..