دين و دنيا

سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء التاسع

بدأت صحة الصديق فى الإعتلال .. و بدأ يشعر أن أجله قد إقترب على ما يبدو .. و رأى أنه إذا دبر للمسلمين فى حياته لكان أولى و أجدر من أن يختلفوا بعده .. فقرر أن يجعل الخيرة بينهم فيمن يختاروه من بعده .. رحم الله أبا بكر فقد كان رؤوفاً رحيماً بالمسلمين حتى أخر لحظات حياته ..

جمع أبو بكر كبار الصحابة دون أن يخبرهم بما فى نفسه و ما أن إجتمعوا عنده إلا و نظر إليهم ثم قال :

إنه قد نزل بى ما قد ترون .. و لا أظننى إلا ميت لما بى .. و قد أطلق الله أيمانكم من بيعتى .. و حل عنكم عقدتى .. و رد عليكم أمركم .. فأَمّروا عليكم من أحببتم .. فإنكم إن أَمَّرتم فى حياتى كان أجدر أن لا تختلفوا بعدى

تلقى الصحابة طلب أبو بكر ثم نظروا لبعضهم البعض و بدأوا فى التشاور فيما بينهم و كل منهم يرى فى صاحبه الحق فى الخلافة كونه أفضل منه و أقدر على إدارة الأمور .. مشهد قد يراه الناس فى زماننا غريباً فنحن تعودنا على رؤية الناس تتهافت على السلطة و المناصب لما يصاحبها من جاه و سلطان أما فى زمان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت الخلافة مسئولية و تكليف يحمل صاحبها أموراً قد لا يطيقها أحد و هذا فى أمور الدنيا فما بالكم بأمر الآخرة و ما ينتظرهم من حساب الله تعالى ..

لمّا اختلف الصحابة فيما بينهم و كل منهم لا يريد الأمر لنفسه قرروا الرجوع إلى أبا بكر مرة أخرى فقالوا :

رأينا يا خليفة رسول الله رأيك

فقال :

فأمهلونى حتى أنظر لله و لدينه و لعباده

بعدها قرر أبو بكر أن ينفرد بالصحابة كلٌ على حدة يستطلع رأيهم فدعا عبد الرحمن بن عوفرضى الله عنه و قال له :

أخبرنى عن عمر بن الخطاب

فقال :

ما تسألنى عن أمر إلا و أنت أعلم به منى .. هو و الله أفضل من رأيك فيه

ثم دعا عثمان بن عفان رضى الله عنه و سأله نفس السؤال :

فقال :

أنت أخبر به .. و اللهم إن علمى به أن سريرته خير من علانيته .. و أنه ليس فينا مثله

ثم دعا أُسيد بن حضير و سأله بمثل ما سئل سابقيه :

فقال :

اللهم أعلمه الخيرة بعدك .. يرضى للرضا .. و يسخط للسخط .. و الذى يُسِر خير من الذى يُعلن .. و لن يلى هذا الأمر أحد أقوى عليه منه

استمر أبو بكر فى إستشارة الصحابة و جميعهم كانوا على نفس الرأى إلا واحداً هو#طلحة_بن_عبيد_الله الذى لم ينكره و إنما خاف من شدته فقال :

استخلفت على الناس عمر و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه .. فكيف به إذا خلا بهم و أنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك ؟

فقال أبو بكر لمن حوله و كان راقداً :

أجلسونى

فلما جلس نظر إلى طلحة و قال :

أبالله تُخوفوننى .. خاب من تزود من أمركم بظلم .. أقول .. اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك .. و إن ما ترون من شدة عمر و غلظته فذلك لأنه يرانى رقيقاً .. و لو أُفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه

ما أن إستقر الأمر على إختيار عمر للخلافة حتى أمر أبو بكر بأن يُكتب عهداً يتم قراءته على الناس فى كل مكان فكان نص العهد :

بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة فى آخر عهده بالدنيا خارجاً منها و عند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها .. حيث يؤمن الكافر .. و يوقن الفاجر .. و يصدق الكاذب .. إنى لم آل الله و رسوله و دينه و نفسى و إياكم خيراً .. فإن عدل فذلك ظنى به و علمي فيه .. و إن بدل فلكل امرئ ما اكتسب .. و الخير أردت و لا أعلم الغيب .. و سيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون

لما علم عمر بالأمر رفض أن يتولى أمر الخلافة و ظل فى جدال مع أبو بكر الصديق و كيف أنه لا يُطيقها و لا يقدر عليها فما كان من أبو بكر إلا أن تهدد عمر بالسيف حتى أجبره على القبول بها و لم يكتفى الصديق بما فعل بل إنه أراد أن يضمن مبايعة الناس لعمر حتى يضمن عدم حدوث أى مشاكل قد تعيق نقل السلطة بعد وفاته فيحافظ بهذا على وحدة صف المسلمين بألا يتفرقوا من بعد وفاته فقرر الخروج للناس ليخبرهم بأمر خلافة عمر له فجمع الناس فى المسجد ثم وقف قائلاً لهم :

أترضون بمن استخلف عليكم ؟

فأجاب الناس أن نعم .. فأكمل قائلاً :

فإنى و الله ما ألوت من جهد الرأى .. و لا وليت ذا قرابة .. و إنى قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب .. فاسمعوا له و أطيعوا

فقال الناس :

سمعنا و أطعنا

فرفع أبو بكر بصره للسماء قائلاً :

اللهم وليته بغير أمر نبيك و لم أرد بذلك إلا صلاحهم .. و خفت عليهم الفتنة .. و اجتهدت لهم رأيى .. فولَّيت عليهم خيرهم .. و أحرصهم على ما أرشدهم .. و قد حضرنى من أمرك ما حضر .. فأخلفنى فيهم فهم عبادك

ثم أمر عثمان بن عفان بأن يتلو العهد على الناس بعد أن ختمه بخاتمه لمزيد من التوثيق فمر عثمان على الناس حتى أخذ بيعتهم على عمر فما اختلف عليه اثنان رضى الله عنه .. و بهذا فقد تحققت بيعة عمر رسمياً فرضى به كبار الصحابة و على رأسهم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و على بن أبى طالب و رضى به من حضر بالمسجد أمام الصديق و رضى به من سمع بعهد الصديق و رضى به من قابل عثمان بن عفان و سمع منه عهد خليفة المسلمين ..

رائج :   5 ​طرق ميسرة ومبتكرة لختم القرآن

رائج :   أغني سكندري في العالم

اجتهد أبو بكر الصديق رضى الله عنه قدر استطاعته فى توصيل الأمانة و وضعها فى يد عمر كونه رأى فيه العلاج الأمثل لأمة المسلمين التى بدأت الدنيا تتهادى تحت أقدامها بعد أن عاشوا فى فقر و عوز و أنه خاف عليهم أن تُلهيهم دنياهم عن أمر آخرتهم فأتى لهم بعمر الشديد فى الحق و الذى لا يداهن أحداً فى دينه و لا فى دنياه .. كان تولية عمر رضى الله عنه فتحاً جديداً للإسلام بلا شك .. كان سداً منيعاً و باباً عظيماً أوصد فى وجه الفتن التى أحاطت بالأمة وقتها ..

بعد أن انتهى الصديق من الإجراءات السابقة اختلى بعمر بن الخطاب يوصيه بالمسلمين لكى يلقى ربه بذمة بيضاء بعد أن اجتهد فى اختيار أصلح الناس لهم فقال :

اتق الله ياعمر .. و اعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل .. و عملاً بالليل لا يقبله بالنهار .. و أنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى فريضة .. و إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق غداً أن يكون ثقيلاً .. و إنما خفّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً .. و إن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم و تجاوز عن سيئه فإذا ذكرتهم قلت : إنى أخاف أن لا ألحق بهم .. و إن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم و ردّ عليهم أحسنه فإذا ذكرتهم قلت : إنى لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء .. ليكون العبد راغباً راهباً لا يتمنى على الله و لا يقنط من رحمة الله .. فإن أنت حفظت وصيتى فلا يك غائب أبغض إليك من الموت و لست تُعجزه

ما هى إلا أياماً معدودة حتى توفى أبو بكر الصديق و بعد أن تم دفنه وقف عمر بين الناس و خطب فيهم :

أيها الناس .. إنما مثل العرب كمثل جمل آنف اتبع قائده فلينظر حيث يقوده .. و أما أنا .. فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق

لم يفوت عمر الفرصة ليظهر للناس مبدأه فى التعامل معهم .. أنتم لستم مجرد تابعين لى فأنتظر أن يخطىء أحدكم فأعاقبه و إنما وظيفتى هى أن أتابعكم فأكتشف الخطأ بنفسى فأعالجه و أعاقب من أخطأ حتى يعلم كبيركم و صغيركم أن عمر لا يتهاون فى الخطأ و لو على أقرب أقربائه فتعتدلوا جميعاً و يعرف كل منكم حقه و واجباته .. هذه كانت سياسة عمر .. لكان حمل الناس على الحق حملاً طالما كان فى هذا صلاح الأمة ..

رائج :   سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء العاشر

من الآن و صاعداً عمر سيقسم جهده بين تطوير الدولة الإسلامية إدارياً و إقتصادياً و بين متابعة الفتوحات و من المعروف أن أسلوب إدارة عمر للأمور كان يختلف تماماً عن أسلوب أبو بكر الصديق فقد كان أسلوبه الإدارى يتميز بالمركزية الشديدة فما كان يستطيع أى قائد عسكرى أن يأخذ قراراً دون الرجوع إلى عمر حتى يكون ملماً بكل تفاصيل المعارك و أماكن تمركز الجيوش و بناءاً عليه يجهز خطته بما يتراءى له ما فى صالح المسلمين ..

عمر كان أكثر الناس إدراكاً لحجم المسئولية الملقاه على عاتقه .. كان رضى الله عنه لا ينام الليل من خشيته من السؤال .. تروى زوجته  عاتكة أنه كان يأتى إلى فراشه لينام فيطير النوم من عينيه فيجلس يبكى فلما كانت تسأله عن سبب بكائه كان يقول :

توليت أمر أُمة محمد صلى الله عليه وسلم و فيهم المسكين و الضعيف و اليتيم و المظلوم و أخشى أن يسألنى الله عنهم يوم القيامة

ذلك هو عمر بن الخطاب خليفة رسول الله و أمير المؤمنين منذ أول ليلة فى توليه أمر المسلمين ..

من الآن فصاعداً سيختلف سردى للسيرة قليلاً حيث سأقسمها إلى قسمين .. قسم أسرد فيه فتوحات المسلمين فى العراق و الشام فى حياة عمر و قسماً أخر سأسرد فيه مواقف عمر فى المدينة المنورة و التى تدل على زهده و ورعه و عدله و سأبدأ من الجزء القادم فى سرد قسم الفتوحات الإسلامية ثم فى أخر أجزاء السلسلة سأذكر بمواقف عمر ..

  • أول قرار سيأخذه عمر لم يكن يتوقعه أحد ..
  • عمر سيعزل خالد بن الوليد ..
  • قرارٌ صعب و لكنه كان فى صالح المسلمين رغم كل شيىء ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة